بورسعيد 68.. رواية تسرد الحرب وتحولات الإنسان

بورسعيد 68:سرد الحرب وتحولات الإنسان
بورسعيد 68:سرد الحرب وتحولات الإنسان

محمد سليم شوشة

تمثل رواية بورسعيد 68 للأديب الكبير كمال رحيم الصادرة عن دار العين بالقاهرة وحدة إضافية مهمة لمشروعه الروائى الثرى والمالك لكافة مقومات الخصوصية والتفرد. فهذه رواية ذات طابع إنسانى لا تقل عن الروايات العالمية للأدباء الكبار، وحين نتأملها بالقراءة والنقد فإن الكثير جدا يمكن أن يكون مطروحا للقول والتناول وتضيق أى مقاربة نقدية عن احتواء كافة ما فيها من الجماليات والقيم الدلالية التى ينتجها الخطاب السردى. 


تنفلت هذه الرواية بذكاء شديد من فخ النبرة البكائية والاستجداء العاطفى وتلعب على التفاصيل الحياتية البسيطة وتمزج الهين واليومى والمعتاد من التفاصيل العابرة مثل أمور السمر والعمل والبيع والطعام والشراب والمكائد وصراعات الموظفين، تمزج كل هذا بالقيم المعنوية المجردة مثل البطولة والنضال والصداقة والأمانة والتسامح والوفاء والوطنية وغيرها، فلا يكون هناك صخب أو نزعة زاعقة فى التعبير عن هذه القيم الإنسانية البارزة، بل تأتى مضفرة فى نسيج الحياة والمشاهد المعتادة. 

 

من ناحية الشكل أو البناء السردى نجد أنها منسوجة من سرد مشهدى يقوم على سمة مهمة وهى التناسب بين الأبعاد المادية والقيم المعنوية المجردة، فثمة ما يمكن تسميته بالتوازن الشديد بين حدود هذا العالم الروائى المطروح فى السرد من حيث الأبعاد الإدراكية المحددة لهذا العالم من الناحية المادية والمشكِّلَة لأنطولوجيته فى المستوى الحسى أو الإدراكى، وبين ما ينساب فى هذا العالم ويتدفق من ماء الحياة وروحها النابضة ومعانيها، وما يتدفق فيه من المشاعر والعواطف والقلق والتوتر والقيم المجردة، فبرغم كون هذه الرواية تقوم على مقاربة أثر الحرب على الإنسان من زاوية حياتية صرف وبعيدا بدرجة ما عن الرصد المباشر للحرب، فإنها لا تقوم على طابع تجريدى بكائى أو بطولى أو فيه تركيز ساذج على القيم الثابتة والعاطفية المعتادة فى مثل هذه الروايات التى تقارب الحرب أو تقوم عليها، بل إن للرواية معادلتها الصعبة التى استطاعت تحقيقها، وجعلت الحياة ماثلة بكامل قوتها ونبضها وحيويتها فى عالم مدينة بورسعيد وشخوصها من الرجال والنساء وعبر أنماط عديدة وفى غاية الثراء الإنسانى والتفاوت ولديها تقاطعاتها وصراعاتها الطبيعية مع بعضها، وهى حياة فى مستواها العادى من العمل والمأكل والمشرب والكسب والسهر والحكايات والمواقف الفكاهية ومشاكل العمل وخلافاته أو غيرها من أمور الحياة المعتادة أو غير الاستثنائية.


فإذا كان الخطاب السردى بحاجة حتمية فى سيرورة بلاغته ونجاحه فى النفوذ إلى المتلقى لأن يكون قادرا على تجسيد أبعاد العالم المسرود عنه فى مخيلة المتلقى ووجدانه ويجعله قادرا على أن يتصور حدود هذا العالم وتفاصيله بشكل دقيق وسلس وعفوى، فإنه لا يمكن أن يكون هذا العالم الحاضر ماديا مجرد قوالب مفرَّغة أو خالية من المشاعر والنبض الحياتى والتوتر والقلق وكافة المشاعر الإنسانية المختلفة، ولابد أن يتوافر له من التشكِيْلَيْنِ ما يحقق له التكامل ويجعل العالم الروائى المسرود عنه أكثر شبها بالحياة أو أقرب لها فى المحاكاة وأن تتوارى مظاهر الصنعة وتختفى تماما، وهو ما يسهم فى المجمل على إعلاء الإيهام وجعل المتلقى جزءا من هذا العالم الروائى وذائبا فيه أو ممتزجا به أو يعيش بين أركانه.


تبدو الرواية حافلة بالنماذج الإنسانية المتنوعة وبها أنماط عديدة من البشر، وتركز على الحياة فى رتمها الطبيعى بمعنى أن السارد الرئيس وهو شخصية طارق الضابط الشاب الذى ينقل هذا العالم من منظوره ووعيه يتناول الحياة فى بعدها الإنسانى وفى مشاهدها الطبيعية دون تركيز على الحرب أو آثارها المباشرة، لنصل فى النهاية إلى أثر الحرب الأكثر عمقا وهو المتجلى فى السلوك الإنسانى والتكوين النفسي. فتبدو الشخصيات البورسعيدية تمضى فى حياتها بشكل طبيعى ثم نستكشف من وراء هذا السلوك انعكاس الحرب عليها، فى نوع من التحايل السردى المهم جماليا بأن يجعل الحرب فى الخلفية أو فى الأعماق الغائرة لهذا العالم وخلفية اللوحة المرسومة له، فى حين أن ما يتجلى فى المقدمة أو فى الظاهر هو حركة الحياة اليومية وعمل الشخصيات وجلساتهم أو أنشطتهم وتصرفاتهم المعتادة. ومثال ذلك ما نجد من التركيز على العمل وحركته فى قسم شرطة العرب أو التركيز على قصص الحب أو قصص العمل فى الصيد أو بعض الأنشطة الحياتية الأخرى فى المقاهى مثل مقهى الفلاح وما يدور عليه من جلسات وسمر وقضايا وعلاقات بين الشرطة والمواطنين، أو التركيز على قطاع من النسوة أو الفلاحين أو غيرها من الأحداث، فتكون كل هذه الأحداث فى المقدمة أو بارزة والحقيقة أنه يتم رصدها بشكل تفصيلى وشعرى يتأسس على شعرية الحياة وشعرية التفاصيل الكثيفة الحضور. 


من القيم الجمالية البارزة فى خطاب هذه الرواية قدرتها على المزج الاستثنائى بين المأساة والكوميديا، فهى رواية قادرة على أن تضحك المتلقى وتبكيه فى مساحة سردية صغيرة، وربما تكون قادرة على هذا عبر المشهد الواحد. وهكذا تبدو مشاهد الرواية مثل الحياة بتداخلها وامتزاج الجاد بالهزلى فيها، وتبدو على الصورة ذاتها من العبثية والغرابة، فنجد أن الحب يختلط ويمتزج بالكراهية والخير بالشر، والأمثلة على ذلك كثيرة منها المشهد الذى خرجت فيه الدورية الشرطية للقبض على إسماعيلوف، وقد ما وصفه به الخطاب من الخطورة فى نظر أعضاء الدورية وأفرادها، والسلوك الهزلى لهم وغرابة كثير من المواقف التى يتجدد فيها حضور الخطورة والغباء من بعض الأفراد، ثم المفاجآت التى أنتجها السرد من هذا الموقف أو تلك الحكاية الفرعية. ومثلها الكثير من المواقف مثل عالم تجار المخدرات أو بعض المجرمين، وفى المقابل النماذج الوطنية المخلصة، بين بشر على استعداد لأن يضحوا بأرواحهم وآخرين لا تشغلهم إلا غرائزهم، أو آخرين يتحولون بين هذا وذاك ومثال هذا شخصية خليل السمسار فى واقعة صواريخ الدفاع الجوى التى مرت من قلب المدينة وما حدث من مفاجآت إخفائها فى الباكيات وكذلك حمايتها من الأهالى، وكيف تحول خليل هذا برغم تفاهته إلى شخصية أخرى على النقيض ولو لوقت مؤقت، ومثلها شخصيات كثيرة مثل مرسال البدوى الوحيد أو المنقطع بلا أهل وبخاصة حين يأتى فى البداية من وجهة نظر تودرى العامل اليونانى بمقهى الجينانولا ذى الطابع الإفرنجى، وتحوله بعد ذلك من الصورة العبثية المستهزئة إلى شخصية أخرى فيها كثير من البطولة والتضحية. ومثل هذه التحولات الناعمة والمتدرجة التى تصنعها أو تولدها الحرب كثيرة وتكاد تغطى النسيج الاجتماعى كله دون تمييز. 


والرواية حافلة بالتحولات والمفارقات أو الثنائيات المتعارضة، ففيها النماذج السطحية والتافهة وكذلك فيها الشخصيات التى تأتى بطولاتها بشكل انفجارى أو غير متوقع، وهذا هو السمت الطبيعى، لأن الإنسان فى أغلب أحواله يكون اعتياديا أو غير خارق فى حين أنه إذا تعرض لظروف استثنائية يصبح مفاجأة لنفسه قبل أن يكون مفاجأة للآخرين. ولهذا فإن فى الرواية العديد من الثنائيات المتقابلة والمفارقات، مثل مقهى الفلاح الذى يدل على طبقة وعلى أنماط حياتية معينة، فى مقابل الجيانولا بطابعها ومجتمعها وروداها، وكذلك ثنائية السلطة والشعب، الفقراء والأغنياء، الأفندية والفلاحين والصنايعية والأميين، لتبدو الصورة البنائية للخطاب الروائى مغزولة من وحدات ذات تنظيم علائقى وتركيبى فيما بينها يجعلها تشكل بناء تركيبا متماسكا وبينه تفاعل مستمر وترابط جدلى بين هذه الوحدات بما يجعل الاستراتيجية السردية شاملة وتهيمن على هذه القصص الفرعية الكثيرة وتسخرها أو تدمجها بشكل حاسم وتذويب كامل فى المتن السردى الكلي. وهكذا نكون أمام عالم متلاحم برغم تعدد وحداته وشخوصه وقصصه الفرعية الكثيرة التى لا يكون منها واحدة مقحمة أو فيها نوع من التزيد أو الاستطراد المجانى. 


تنفلت هذه الرواية بذكاء شديد من فخ النبرة البكائية والاستجداء العاطفى وتلعب على التفاصيل الحياتية البسيطة وتمزج الهين واليومى والمعتاد من التفاصيل العابرة مثل أمور السمر والعمل والبيع والطعام والشراب والمكائد وصراعات الموظفين، تمزج كل هذا بالقيم المعنوية المجردة مثل البطولة والنضال والصداقة والأمانة والتسامح والوفاء والوطنية وغيرها، فلا يكون هناك صخب أو نزعة زاعقة فى التعبير عن هذه القيم الإنسانية البارزة، بل تأتى مضفرة فى نسيج الحياة والمشاهد المعتادة. 


وهذه الرواية من الروايات الحافلة بالشخصيات، وفيها كم ضخم منهم، والطريف برغم هذه الكثافة أنهم يبدون فى رسمهم أو تصوير الخطاب لهم على قدر كبير من القرب أو التركيز على الملامح والتفاصيل ويحضرون وهم على درجة من التجذر التاريخى، حتى وإن كان بعضهم عابرا مثل شخصية الست وداد وهى واحدة من نسوة المنطقة العرب التى لم تكن تزيد عن كونها إحدى الوافدات على القسم ولكنها تعود ويتجدد حضورها مرة أخرى برغم انتهاء المرحلة التى يهمن فيها حضور قسم الشرطة ومشاكله، وذلك لتكون الشخصية دالة على النسيج الاجتماعى ولتذكرنا هذه الشخصية بالمرحلة السابقة من الخطاب السردى وتربط بين أجزائه، فمعاودة ظهور الشخصية مرة أخرى يمثل نوعا من الألفة لدى المتلقى الذى يكون قد عرف هذه الشخصية وربما يكون لديه شعور بافتقادها أحيانا، فالشخصيات الروائية قريبة من شخصيات الحياة وتخلف لدى المتلقى الشعور الطبيعى ذاته من حالات الانسجام والألفة والراحة وغيرها من المشاعر السلبية، وهكذا فإن عودة ظهور الشخصية بعد انقطاعها أو انتهاء دورها يسهم فى الربط السابق من الخطاب بالحاضر أو الراهن منه وكذلك يفجر مشاعر عديدة ويسهم فى إنماء معايشة المتلقى لعالم الرواية، فالطبيعى فى الحياة أن الشخصيات مثلما يمكن أن تختفى تماما بالموت تختفى كذلك اختفاء مؤقتا وتعود، أما الصناعة السردية التى تحتم الاعتماد على فكرة الوظيف الدرامية أو التوظيف وبالتالى تنحية الشخصية واستبعادها تماما بناء على مساحة دورها يكون فيه إبراز لعناصر الصنعة ومقاومة أو مضادة للعفوية، ولهذا فإن عودة الشخصية مرة أخرى ولو بشكل خاطف يكسر هذه الصنعة ويجعل العالم الروائى يبدو طبيعيا مثلما هى الحياة بالضبط. وهذه سمة عامة فى معاودة ظهور الشخصية وتكرار حضورها بما يتجاوز فكرة التوظيف أو العامل الدرامى لدى كمال رحيم فى كافة رواياته تقريبا وهى ناتج موهبة كبيرة تجعله يكتب ما هو فى أكمل صور المحاكاة مع الحياة ويصنع خلطته دون أن يجور على هذه المحاكاة أو يكون سالبا منها. فلا يكون هناك تعارض بين الصنعة وبين السمت الطبيعى لما هو مصنوع أى للمتخيل السردي. وتتجلى هذه السمة بشكل خاص فى الثلث الأخير من خطاب الرواية بعد انتصار أكتوبر المجيد وهو يحاول أن يطرح علينا صورة بانورامية لمجتمع بورسعيد وشخصياته بعد الحرب وكأنه يطمئننا على مصائر الشخصيات التى عرفناها أو أصبحنا نألفها عبر ما مضى من السرد.


فى الرواية سمة جمالية فى غاية الأهمية ترتبط بتوظيفات اللغة ومستوياتها بين اللهجات العامية وتنويعاتها وبين الفصحى ومساحاتها وخصائصها، فنجد أن سرد كمال رحيم فى هذه الرواية وغيرها من الروايات يصطنع أشكالا متعددة من العاميات التى تتفاوت بتفاوت الثقافة والتعليم أو بين ابن البلد والأجنبى أو بطابع الشخصية وخصائصها، مثل لهجة المأمور عزام باشا ونبرة صوته وطريقته فى السخرية وهو ابن البلد الريفى الذى يجيد فهم الشخصيات ويستطيع أن يتكلم بلهجة استعلائية وثرية بالسخرية والمعبرة عن درجات من الغضب، وتنوع لهجات الشخصيات ولغات حوارهم بمغايرات لانهائية وفقا للسياق والأحداث، ونجد هذا مع تودرى الجرسون اليونانى أو مع الست مارى والدة نادية أو شخصية الحاج كرم الرائد المسيحى، أو حتى الصورة العامة للهجة أبناء البلد وطريقتهم فى الكلام مثل أن يجعلوا الرجل المسيحى حاجا وليس مقدسا وهو يرضى كثيرا ولا يتذمر تقريبا إلا مرة لأن ذلك خارج عن نظام العمل، وهو فى المجمل عبر هذه التنويعات والتوظيفات العديدة للغة سواء فى الحوار أو لغة السرد يعبر عن الروح المصرية وعن أعماق هذا الإنسان المصرى الحافل بالتناقضات والغرابة ومشحون بعجائبية وسحرية ناعمة مختلفة عن أى عجائبية أو سحرية أخرى تقليدية. والحقيقة هى رواية ثرية وجديرة بكثير من الدرس والبحث والتأمل.

اقرأ ايضا

 أماندا ميكالوبولو: روايتي الأولى خطاب حب لـ«إيتالو كالفينو»| حوار