..فى الأسبوع الماضى تناولت ما يمكن أن يطلق عليه رعونة السياسات الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط والتى بلغت حدتها مع وصول إدارة جو بايدن إلى البيت الأبيض وكان أكبر مظاهرها الخلاف الواضح بين الحليفين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، والذى تفاقم عقب الأزمة الأوكرانية الاسكتش الساخر من الرئيس الأمريكى الذى بثته إحدى الفضائيات السعودية.
تعود هذه الرعونة المتصاعدة منذ إدارة أوباما وامتدادها إلى إدارة بايدن كما ذكرت إلى أسباب عديدة « مثل تغير توجه واشنطن الاستراتيجى مع إدارة أوباما والتركيز على جنوب شرق آسيا والصين والانسحاب من الشرق الأوسط الذى دمرته السياسات الأمريكية أو سبب آخر أن العالم الغربى وعلى رأسه الولايات المتحدة ينتقل بقوة إلى عصر جديد من الطاقة ينهى فيه التعامل مع الوقود الأحفورى أو البترول والغاز لأسباب اقتصادية وبيئية وسياسية مما يفقد الدول البترولية نفوذها تدريجيًا وعلى رأسها المملكة ، كل هذا وارد ورغم ذلك كان يمكن أن تقلص إدارة بايدن حجم علاقاتها مع الرياض دون رعونة، يبدو أن هناك سببًا آخر قد يفسر رعونة إدارة بايدن وإدارات تسبقها وهو مرتبط بتغير طبيعة وبنية الطبقة السياسية الأمريكية.
فقبل 77 عامًا تحديدًا عند اتفاق كوينسى بين واشنطن والرياض وهو الاتفاق المؤسس للعلاقات بين واشنطن والرياض عقب لقاء الرئيس الأمريكى بالملك عبد العزيز آل سعود على متن البارجة الأمريكية كوينسى فى البحيرات المرة بالسويس فبراير 1945، كان هناك جنود أمريكيون مجهولون صاغوا هذه العلاقات وحرصوا على استمرارها، درسوا وعاشوا فى العالم العربى وتنقلوا بين القاهرة وبيروت ودمشق والجزيرة العربية بل عاش آباؤهم أيضًا فى هذه العواصم وأتقنوا اللغة العربية وعرفوا عادات المنطقة العربية وكيفية تحقيق المصالح بين أطراف العلاقة دون رعونة، ويمكن اعتبار إدارة جورج بوش الأب هى آخر إدارة أمريكية تمتعت بوجود هذه الطبقة مما يمكن أن يطلق عليهم المستشرقين السياسيين . لعل أشهر مثال على هؤلاء هوالكولنيل وليام أدى الذى صاغ اتفاق كوينسى من الناحية الأمريكية فهو عاش فى بيروت وتوفى بها فى العام 1962».
الحقيقة لا يعتبر اتفاق البارجة كوينسى هو اتفاق أو اتفاقية بين دولتين لكن يمكن النظر إليه بأنه تأسيس لمفهوم وحركة السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط القائمة على المصالح المتبادلة بين الولايات المتحدة والدول الإقليمية الرئيسية فى المنطقة لأن لقاءات الرئيس الأمريكى لم تقتصر على الملك السعودى ولكن كان هناك لقاء آخر على نفس البارجة تم بين روزفلت والملك فاروق ويوجد الكثير من التوثيق للقاء روزفلت والملك عبد العزيز رغم أنه لم يكن اللقاء الرئيسى بل كان اللقاء مع فاروق هو الأهم، يبدو أن لقاء روزفلت ـ فاروق سقط من حسابات هؤلاء المستشرقين السياسيين أو تحديدًا فاروق وهم الذين سيضعون قواعد السياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط.
حسب القليل المعروف عن لقاء روزفلت ـ فاروق فإن فاروق لم يهتم بلقاء روزفلت أو الرئيس الأمريكى الذى يمثل القوة العظمى المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية ولكن كان اهتمام فاروق الرئيسى مشاهدة البارجة كوينسى من الداخل ومقارنتها بيخته المحروسة.
ترك فاروق اللقاء بكامله والتفاصيل السياسية التى ستحدد طبيعة العلاقات بين مصر الدولة الأهم فى الشرق الأوسط والولايات المتحدة القوة الأعظم الصاعدة وأيضًا مفهوم السياسة الأمريكية فى المنطقة إلى أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى والرجل الذى يثق به، الغريب أنه بعد مرور عام على لقاء روزفلت مع حسنين باشا وفى نفس الشهر فبراير يلقى الباشا مصرعه فى حادث مرورى على كوبرى قصر النيل تسببت فيه سيارة نقل أو لورى تابعة للجيش الانجليزى.
حتى هذه اللحظة مازالت تفاصيل هذا الحادث المرورى الغامض غير واضحة ويطرح العديد من الأسئلة من نوعية هل تخلص الانجليز من الرجل الذى أصبح همزة الوصل بين الولايات المتحدة ومصر من ناحية والقوى المؤثرة فى الشرق الأوسط من ناحية أخرى؟ أم فجاجة ظهور اللورى الانجليزى فى موقع الحادث تقول أن هناك من أراد إلصاق التهمة بالانجليز لأن الباشا لم يقم بما عليه عقب لقاء البارجة كوينسى؟
بعيدًا عن حادث الباشا الغامض فقد كانت لقاءات البارجة كوينسى فى البحيرات المرة بقناة السويس بداية تأسيس ظهورالتأثير لهذه الطبقة من المستشرقين السياسيين مثل الكولنيل وليام أدي الذى حضر اللقاءات على البارجة كوينسى وبدأت تتردد فى الأروقة السياسية بالشرق الأوسط أسماء مثل جيفرسون كافرى وكيم روزفلت ومايلز كوبلاند وديفيد أيفانز، ولايهم هنا طبيعة العمل الرسمى الذى كانوا ينتمون إليه، ولكن كان الأهم بالنسبة لواشنطن هو تحقيق مصالحها وعلى رأسها الحصول بسهولة على النفط دون الإخلال بتوازناتها مع المنطقة العربية وأيضًا حليفتها الأقرب إسرائيل.
فى كثير من الأحيان كانت واشنطن تحجم العربدة الإسرائيلية فى عهد إدارتى الرئيسين داويت أيزنهاور وجون كينيدى من أجل الحفاظ على علاقاتها العربية وبناءً على توصيات هؤلاء المستشرقين السياسيين.
يبدو أن الولايات المتحدة قررت استعادة تاريخ استشراقها السياسى من جديد للتعامل مع الشرق الأوسط بعد تداعيات الأزمة الأوكرانية واكتشافها المتأخر أو الاكتشاف الذى حجبته غطرسة واشنطن طوال فترات طويلة وكانت ذروة الغطرسة مع إدارة أوباما وإدارة بايدن الحالية.
تم الكشف عن هذه الاستعادة من خلال الكثير من التقارير التى تصدر عن الدوائر المقربة من صنع القرار فى واشنطن وتتلقفها وسائل الإعلام الأمريكية بأن إدارة بايدن المنتمية بتركيبتها لتيار العولمة البعيدة أو الكارهة لهذا الجزء من تاريخ السياسة الأمريكية بدأت تبحث مجبرة العودة لمفهوم لقاءات واتفاقات البارجة كوينسى.
بمعنى آخر فإدارة بايدن الحالية فى واشنطن تؤسس لصفقة شاملة واستراتيجية جديدة فى التعامل مع الشرق الأوسط وفى قلبه العالم العربى وأن هذه الاستراتيجية ستكون الحاكمة لسياسات واشنطن المستقبلية فى المنطقة سواء مكثت الحرب الروسية الأوكرانية وقتًا طويلا أو انتهت بعد وقت وجيز.
نقلت التقارير أن من سيتولى إعداد هذه الاستراتيجية مجلس العلاقات الخارجية أو المؤسسة البحثية الأقدم فى صناعة الاستراتيجيات الأمريكية و تصميم الرؤية السياسية لإدارات واشنطن المتعددة وقد تأسس بشكل رسمى فى العام 1921بنيويورك وبالتأكيد له تواجد فى واشنطن العاصمة وهو يضم نخبة من المؤثرين فى الأوساط السياسية والاقتصادية والبحثية الامريكية.
بدأ تأثير المجلس ونخبته مع نهاية الحرب العالمية الأولى حيث وضع الاستراتيجية الأمريكية فى التعامل مع العالم الجديد بعد الحرب أمام الرئيس الأمريكى ويلسون وارتبط عمل المجلس بفترات الصراع الدولى من الحرب العالمية الثانية إلى الحرب الباردة وكان للمجلس دور كبير فى تصميم رؤية إدارات أمريكية متعددة تجاه الشرق الأوسط بعيدًا عن الانتماء السياسى للإدارة سواء جمهورى أو ديمقراطى بواقع أن الكثير من المنضمين للمجلس تولوا مناصب مختلفة داخل هذه الإدارات وبأعداد مؤثرة وفى إدارات مثل إدارة إيزنهاور وترومان و كيندى وجورج بوش الأب.
من الواضح أنه مع ظهور تيار العولمة وترسخه ثم سيطرته على السياسة الأمريكية منذ إدارة بيل كلينتون حتى إدارة بايدن الحالية الأكثر تمثيلا بفجاجة لهذا التيار أصبح تأثير مجلس العلاقات الخارجية على تصميم السياسات والاستراتيجيات الأمريكية ليس كما كان فى أوقاته الذهبية لأن تيار العولمة أصبح له منظرينه وإن كان بالتأكيد هذا التيار العولمى ممثل داخل المجلس ولكن فى الأغلب لايعتبره الواجهة الرئيسية فى التعبير عن رؤاه.
قبل الذهاب فى طريق الأمنيات والأحلام بالنسبة لما يمكن أن تسفرعنه هذه الاستراتيجية المنتظرة أو أنها ستعيد أو تصنع عهدًا ذهبيًا من العلاقات العربية الأمريكية فيجب أن نعلم أن هناك محددين يحكمان السياسة الاستراتيجية الأمريكية الآن وحتى العام 2030 أول المحددات متعلق بالغرب وليس الولايات المتحدة فقط حيث اتخذ قرارلأسباب سياسية واقتصادية وبيئية بالاستغناء التدريجى والكامل عن الوقود الأحفورى أى البترول والغاز واللجوء إلى الطاقة المتجددة والمحدد الثانى أن التوجه الاستراتيجى الأمريكى كما هو بوصلته الرئيسية تجاه بكين وجنوب شرق آسيا.
أما لماذا تعود الولايات المتحدة للشرق الأوسط الآن وتصمم من أجله استراتيجيات وتعرض المصالحات؟ لأنه دون الشرق الأوسط بموارده النفطية وممراته البحرية وثقله الجيوسياسى لن تستطيع الولايات المتحدة تحقيق النقلة الاستراتيجية الدائمة تجاه خصميها روسيا والصين فمن خلال الشرق الأوسط هذا تستطيع السيطرة على روسيا ثم التفرغ لبكين التى لا تتوقف عن الصعود.
يمكن استشراف مفهوم هذه الاستراتيجية التى ستخرجها علينا واشنطن من خلال الاسمين الأبرز فى أعدادها حسب ما يتردد وهما «مارتن إنديك» و»ستيفن كوك.
يمكن بقليل من العناء فهم طبيعة ماهو قادم ويعده بايدن و «شركاه» وتحديدًا هؤلاء الشركاء وليس بايدن الذى صافح الهواء فى آخر ظهور له قبل أيام وذلك من خلال تحليل أفكار «إنديك وكوك» وكيف ارتبطا بالشرق الأوسط وهل هما النسخ الحديثة من وليام أدى وكافرسون وكيم روزفلت وكوبلاند ؟ لكن هذا التحليل والارتباط يحتاجان إلى مساحة أخرى وأسبوع قادم.