كتب : هشام البستانى
لا يعرف المرء من أين يبدأ حين يتعلق الأمر بفلسطين، ظلمٌ عمره الآن 74 عامًا إن ابتدأنا العدّ من النكبة (1948)، وأكثر من مئة عام إن ابتدأنا العدّ من اتفاقيّة سايكس-بيكو (1916) وبداية الاستعمارين البريطانى والفرنسى للمنطقة (1918)، وهو العدّ الأكثر منطقيّة برأيي، إذ أسّس هذا الأخير للأولّ، ومكّنه، ورسّخ وجوده، ودعم استمراره وما يزال، هذا الملفّ – من ضمن أشياء أخرى لا حصر لها- هو دليل ساطع يضاف إلى كومة كبيرة من أدلّة لا يمكن إنكارها، تدحض المنظورات الاستعماريّة التى تؤكد أن لا تاريخ قبله، ولا«حضارة» دونه.
مأساة الفلسطينيّين أمرٌ يعقد اللسان ويشلّ التفكير، فنحن إزاء واقعةٍ محسومة إن طبّقنا عليها معايير الضّمير والعدالة، لكنّ عالمنا هو عالم القوّة، ومعاييرها المزدوجة، وسرديّاتها المزوِّرة، يفاقم كلّ ذلك ادّعاء فج يقول بـ«تحضّر» الغزاة المدجّجين بمواعظ لا تنتهى عن الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان، حتى باتت هذه المفاهيم دعاية مفرغةً من المعنى.
العالم هو ليس أوروبّا والولايات المتحدة فقط، وبينما حظى هذان الجزءان بالهدوء والسلام والرّفاه النسبيّين بعد الحرب العالمية الثانية، ودُشّنت شرعات «إنسانيّة» وقوانين «دوليّة» تحفظ توازناتهما، لم يمتدّ ذلك إلى بقية أنحاء العالم الذى بقى يرزح تحت أشكال متعددة من الاستعباد والاضطهاد والتدخّل والحرب. هذا هو المعنى الواضح والمضمر، الصارخ والمسكوت عنه، فى أوصاف من قبيل «القوى العظمى»: أن ثمّة «كيانات دنيا» هى مجال فعل وتأثير وسيطرة وتحكّم الأولى، لا فى سياق سياسيّ-اقتصاديّ-عسكريّ فقط، بل وفى سياق إعلامىّ-ثقافىّ-لغويّ أيضًا، وفى سياقٍ سردىّ، إذ لا تكتفى القوّة بفرض نفسها بالعنف، بل تفرض سرديّتها المُخترعة التى تنقلها إلى مستوى الهيمنة الأعمق. من يجادل اليوم بديهة أن «الحقّ» يكمن -حقًّا - فى القوّة؟
فلسطين هى جزء من ذلك «العالم الآخر» ومآلاته: مأساة واضحة ومضمرة، صارخة ومسكوت عنها فى آنٍ معًا؛ مأساة كثيرًا ما يقال عنها «مسألة معقّدة». ليس من قولٍ أسوأ من هذا ليشكّل مهربًا مجانيًّا من الوقوف أمام واقعة بسيطة جدًّا، وسهلة الفهم حدّ الفجاجة: حركة قوميّة نشأت فى أوروبا، وأسّست نفسها على مقولات دينيّة خرافيّة، جاءت فى سياق الاستعمارين البريطانى والفرنسى للمشرق العربيّ بعد الحرب العالمية الأولى، وبتشجيعٍ ودعمٍ منهما، لتطهّر بقعةً جغرافيّة كاملة من مجتمعها المحلىّ: السكّان والتاريخ والذكريات، وتقيم، بالقتل والإرهاب والحروب، والدعم الأوروبىّ-الأمريكى، مستعمرةً لها فوق الرّكام الذى صنعته.
ليس من ذنب للفلسطينيّين عندما يتعلّق الأمر بعنصريّة الأوروبيّين ولاساميّتهم: محاكم التفتيش، وتفوّق العرق الأبيض، وصولًا إلى هتلر والهولوكوست، ليسوا نتاج الحضارة العربيّة الإسلاميّة التى كانت –عمومًا- منفتحة ومتسامحة، هذه ظواهر أوروبيّة بحتة، نشأت وترعرعت (وما زالت مستمرّة بأشكال مختلفة) فى عقر دار «منارة الحضارة». فلنلاحظ هنا أن كلمة «ساميّ» تشير -بشكلّ عام- إلى عدد من الشّعوب المتحدّثة باللّغات الساميّة، والموجودة تاريخيًّا فى منطقة سوريّة الطّبيعيّة، وبلاد الرّافدين، وشبه الجزيرة العربيّة، منهم العرب، والسّريان، والمندائيّون، ومنهم طبعًا: يهود هذه المنطقة ممّن صاروا يُسمّون لاحقًا: اليهود العرب؛ لكن «اللّاساميّة» لا تشير إلى التّمييز أو الاضطهاد المتعلّق بأيّ من هؤلاء، بل تشير إلى ظاهرة أوروبيّة، أطرافها أوروبيّون من الجهتين، انتُزِع بعضهم عرقيًّا من المجموع الأوروبيّ، وحُسِبوا على الشّعوب السّاميّة، على اعتبار أن منشأ الدّيانة اليهوديّة، مثلها مثل كلّ الدّيانات الإبراهيميّة، هو مناطق السّاميّين المذكورة.
لم يكن لـ«اللّاساميّة» (كره من هم يهود أو من خلفيّة يهوديّة، واعتبارهم كتلة واحدة صمّاء غير متمايزة، وجزءًا من مؤامرة كبرى تستهدف السّيطرة على العالم) نظيرٌ أو شبيهٌ فى العالمين الإسلامىّ والعربىّ حتى ظهور الحركة الصّهيونيّة. صحيحٌ أنّ تاريخ معاملة اليهود فى العالم الإسلاميّ ليس مثاليًّا (مثلما كان الأمر مع أيٍّ كان، من أيّ دين أو ملّة، مسلمًا أو غير مسلم)، وكان ثمّة معاملة تمييزيّة (فى اللّباس، والحقوق السّياسيّة مثلًا) تصعد أو تهبط أو تنعدم بحسب المرحلة التّاريخيّة والمكان الجغرافيّ، لكن النّمط العامّ كان مُتسامِحًا ومُستوعِبًا، فلم تشهد المنطقة فى التّاريخ القريب «أحداثًا كبرى» ذات طابع عنفيّ موجّهٍ ضدّ اليهود، أمّا فى التّاريخ الأبعد، فقد هرب يهود شبه الجزيرة الأيبيريّة (الذين أصبحوا يُسمّون لاحقًا بالسفارديم) من الاضطهاد المسيحيّ الإسبانيّ ومحاكم التّفتيش التى باركها ودعمها البابا فى روما، إلى الفضاء الإسلاميّ، حيث كانوا يُعتبرون «أصحاب كتاب»، وبقيت المجتمعات اليهوديّة العربيّة والسفارديّة قائمة وحيويّة حتى نشوء «إسرائيل»، بل إنّها ازدهرت فى بعض المراحل التّاريخيّة، وبرز منها أعلام فى الأدب والسّياسة والفلسفة والتّرجمة والتّجارة والحرف، وبينما اضطهد اليهود لقرون فى أوروبّا، كانت المجتمعات اليهوديّة العربيّة تعيش استقرارًا، وازدهارًا نسبيًّا، إلى أن جاءت الحركة الصهيونيّة و «إسرائيل» لتسلخهم عن مجتمعاتهم الأمّ فى اليمن والمغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر ولبنان وسوريّة والعراق، دافعة بهم إلى انفصام عميق، يعبّر عنه بذكاءٍ شديد، وحساسيّة عالية، الشاعر اليهوديّ المغربيّ سامى شالوم شطريت، الراحل إلى «إسرائيل»، ومن ثمّ الراحل عنها، إذ يخاطب الشاعر الفلسطينيّ محمود درويش، فى قصيدة سمّاها «جداريّة بلا جدار»:
«كم هو لكَ تمامًا هذا الوطن/ وأنا لا وطن لى كهذا، لا كتابةً ولا أرضًا. لكن، باللهِ، لا تشفق عليّ – إذ ليس هذا هو المقصود./ ففى نهاية المطافِ، أنا هو القاتلُ،/ ولن تشفع لى ألف عريضةٍ وعريضةٍ ضد الاحتلال./ فأنا الجنديُّ/ الذى يقتل الحمائم الثلاث بطلقةٍ واحدة، مرّةً بعد مرّةٍ/ وقد غدا الأمر عادةً:/ فأنا الذى أطلق النار على الحصان المتروكِ قرب البيت الذى غدا بيتى الجديد،/ وأنا الذى أحكمتُ إقفال نوافذه دون نواح النادبين،/ وأنا الذى سددتُ جيدًا باب البئر بالباطون المسلّح/ كى لا أرى ولا أسمع الحياة فى المياه./..../ فأنا واحد منهم لأنى لستُ واحدًا منكم،/ وهذا هو بؤس بيت القصيد. وهأنذا/ أسترق الخطى عبر عتباتكم، جيئة وذهابًا، كأنها عتباتي،/ مرّة أرشف القهوة العربيّة،/ ومرّة ألبط الرّكوة، وأصرخ: «أيها العربيّ القذر»/ وأحطّم كل المرايا كى لا أرى فيها وجه جدّي،/ متحيّرًا فيها بأمرى بلغة عربيّة./ وما دخل العربيّة هنا؟ أنا شاعر عبري./ أنا شاعر سجّان –فلا تصدّق مما أقول شيئًا-/ وسجّان نفسي، وسجّان كلامى الذي/ قُصقصت جوانحه، وسجّان نومى الذى يهجرنى ويهيم على وجهه/ بلا وجهةٍ معيّنة يستريح فيها».
إسرائيل، هذه «المدينة على تلّ» شرق المتوسط لم تسقط من الفراغ؛ بل هى امتداد لتاريخ استعماريّ دمويّ ضرب العالم من أوروبّا، ومازالت آثاره الكارثية ممتدّة حتى اليوم، متمثّلة فى مأساة اللجوء عبر المتوسط، والغرقى فى قاعه، والمتجمّدون من البرد أمام أسيجةٍ ترحب بشكل شبه حصريّ بـ«الشقر ذوى العيون الزرقاء» ممن هم «مثلنا»، عنصريّة كانت نائمة عميقًا لا فى اليمين المتطرّف (المكشوف والواضح)، بل فى الـmain stream نفسه الذى تطلّب مأساة شبيهة بما حصل فى أفغانستان والعراق، لكن فى أوروبا نفسها هذه المرّة، لتوقظها.
فلسطين اليوم هى أمريكا الأمس؛ حيث كانت الأرض الموعودة جرداء متوحشة، تنتظر من يعمّرها، وكان سكّانها الأصليّون جزءًا من الطبيعة، وحوشًا، أو ظلالًا، أو أشباحًا. كانت جزيرة السلحفاة هى«إسرائيل الجديدة»، «أرض كنعان الإنجليزية»، وبنوا مستعمرتهم على سرديّة توراتيّة شبيهة بتلك التى «اخترع» من مصدرها نفسه «الشعب اليهوديّ»، وما سيرتكبه ذلك المستعمِر الصّهيونيّ الأبيض من فظائع، فسيندرج كجزءٍ من التّاريخ الاستعماريّ الأوروبيّ، ويتمّ تفهّمه، واستيعابه، وتطبيعه، وتجاهل آثاره، بل الاحتفاء به، مثلما هو الأمر فيما يتعلّق بالتّاريخ الاستعماريّ لأوروبّا نفسها: النّموذج الأوضح على ذلك هو الاحتفال الرّسميّ البريطانيّ بمئويّة وعد بلفور: التّعهّد الذى جلب الوبال والقتل والتّشريد على الفلسطينيّين، وتصريح رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماى خلال الاحتفال، أنّ بريطانيا «فخورة بدورها الرّائد فى إنشاء دولة إسرائيل»، دون أن تشير من قريب أو بعيد إلى أن تصرّفها الاستعماريّ غير الشّرعيّ بحقوقٍ لا تملكها، أثّر بشكل هائل على مصائر عددٍ هائل من البشر الذين لا حول لهم ولا قوّة، ودمّر حياتهم. هؤلاء البشر، مثل نظرائهم الآخرين من السكّان الأصليّين فى المستعمرات الأوروبيّة، غير موجودين، لا قيمة لمآسيهم ولحياتهم ولوجودهم، ولا اعتبار.
«عبء الرجل الأبيض» حقيقيّ، إذًا، وموجود: إنه عبء تاريخ من الدم والقتل والاستعباد، تشهد عليها حواضر شمال العالم المزدهرة بتقدّمها الماديّ والثقافية، والمجبولة بدماء ودموع شعوب جنوب العالم المتروكين على أراضٍ منهوبة محروقة مكبّلة مرصّعة بقواعد عسكريّة ومخلّفات نوويّة وتنمية مُعطّلة.
إسرائيل، هذه «المدينة على تلّ» شرق المتوسط لم تسقط من الفراغ؛ بل هى امتداد لتاريخ استعماريّ دمويّ ضرب العالم من أوروبّا، ومازالت آثاره الكارثية ممتدّة حتى اليوم.
الحديث عن فلسطين ليس حديثًا فى السياسة –أبدًا-، ولا حديثاً فى الدّين –بتاتًا-، بل هو حديثٌ فى التاريخ، تحديدًا: تاريخ الاستعمار الأوروبيّ الأبيض ومآلاته فى المستعمرات السابقة، وتاريخ السكّان الأصليين غير المرئيين المدعوسين تحت أقدامه، المختطفين لبناء «حضارته« »إسرائيل» هى نتيجة من نتائج تلك المآلات التى اشتقت لنفسها بعد عام 1948 تاريخًا استعماريًّا مستقلًّا، ما يزال فى القرن الحادى والعشرين قائمًا ومستمرًّا وفعّالًا، نتيجة . وهنا المأساة، والأمل- لنضال أجيالٍ وراءها أجيال ما زالت تتمسّك بالعدالة، لا تحيد بوصلتها عنها، ولا توافق على إضاعتها.
فلسطينيّو اليوم هم ناتج وخلاصة تاريخ طويل كانوا –وما يزالون- جزءًا منه، ابتدأ من طلوع فجر«الحضارة» فى بلاد الرافدين وسوريّة ومصر القديمتين، ويمتد بهم حتى اليوم، هم -مثلنا جميعًا- خلاصة تاريخ الإنسانيّة الجمعيّ الطويل، لا تاريخ خاصّ ومعزول ونقيّ ومتخيّل. الوجود الفلسطينيّ المتنوّع من العرب المسلمين والمسيحيّين والدروز والبهائيين واليهود السامريين، والأرمن والشركس والبشناق والأكراد، هو فضيحة «إسرائيل» الاستعماريّة الإقصائيّة العنصريّة، ذات المنظورات المشتقّة من، والمأسورة لِـ«المركزانيّة الأوروبيّة البيضاء». ففى «إسرائيل» المعاصرة اليوم طبقاتٌ وتمييز عنصريّ بين أبناء «الشعب الواحد»: فعلى رأس الهرم العرقيّ يقبع الأشكناز – اليهود الأوروبيّون البيض، أسفل منهم يتموقع اليهود العرب ومن هم من خلفيّات «شرقيّة»، وفى مرتبة أدنى نجد اليهود الأفارقة السّود؛ أما شعب الأرض الأصليّ، فهؤلاء غير مرئيين أصلًا منذ أن أعلن المستعمِرون أنهم يستحوذون على «أرضٍ بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض». لهذا تعمل هذه الأخيرة على استئصال هذا الوجود المتنوّع، الثريّ، لصالح سرديّتها الحصريّة، التجانسيّة.
هذا الملفّ – من ضمن أشياء أخرى لا حصر لها- هو دليل ساطع يضاف إلى كومة كبيرة من أدلّة لا يمكن إنكارها، تدحض المنظورات الاستعماريّة التى تؤكد أن لا تاريخ قبله، ولا «حضارة» دونه؛ الإبداع الأدبيّ دليل صمود من نوع عميق وراسخ، بقاءٌ واستمراريّة فى آنٍ معًا، والاستمراريّة هنا هى تراكم تاريخيّ قديم، لغويّ وثقافيّ واجتماعيّ وأدبيّ، لا يعترف بـِ، ولا يقيم، حدودًا وحصريّات ومعازل وجدران دينيّة/ ثقافيّة/ تاريخيّة: سكان فلسطين قبل الاستعمار، قبل حدود «الدول الوطنيّة» التى أنشأها وتركها (هزيلة، تابعة) خلفه، هم جزء من نسيج سكان المنطقة التى يسمّيها الأوروبيون بمنظورهم المركزانيّ «الشرق الأوسط»، لأنها شرق قارّتهم المركز، وتقع فى مسافة متوسّطة، أو أقرب، عن ذلك الشرق الآخر، الأقصى.
الأدب دليل على حياة مستمرة، يدٌ من الماضى تكتب فى الحاضر لأجل المستقبل، وفعاليّة المقهورين لا تأخذ أشكالًا سياسيّة-حياتيّة فقط، بل تتجلّى بشكلها الأعمق فى الإبداع والكتابة الفنيّة: هؤلاء الأشباح، الهمج، موجودون بالفعل، وبالممارسة، وضمن صيرورات تاريخيّة تربطهم باستمراريّة إنسانيّة هى أساس الفنّ وجوهره؛ يد تلمس أخرى فأخرى، تدعو خارجها ليصير منها وفيها، فالفن كما العدالة، قيمة عالميّة حقًّا، تسع الجميع، ومفتوحة للجميع، ومن هذه الباب ولج إلى فلسطين كثرة من خارجها: راشيل كوري، توم هاراندال، روجر واترز، سوزان ساراندون، بل ومن مجتمع المستعمِرين نفسه بعد ان ألقوا عن أنفسهم وضعيّة المستعمِر: يوآف بار، فيليتسيا لانجر، آيشا آزولاي، وغيرهم.
الإنسانيّة والتلامس الإنسانيّ هما اللبّ المركّز لهذا الملفّ الذى يحتوى قصصًا بالغة الرّهافة من فلسطين، بمعناها العام الذى تمثّله اليوم: مناطق استعمرت عام 1948 وبقى فيها بعض من سكّانها الأصليين باعتبارهم «أقليّة» فى أرضهم، وأخرى «محتلّة» بحسب القانون الدوليّ أو تقبع تحت احتلال فعليّ أو حصار خانق، وتعرف باسم «الضفة الغربية وقطاع غزة»، وفلسطينيّون مهجّرون ولاجئون فى أربعة أرجاء الأرض، وممنوعون من العودة. فقصّة سميرة عزام (1927 – 1967) تقع أحداثها فى العراق، التى عاشت فيها الكاتبة فترة من حياتها، وعملت مدرّسة فيها، بعد أن هُجّرت من مدينتها عكّا عام النكبة، وفى القصة ربط ضمنيّ وفذّ بين خيوط الاستعمارات المتشابكة فى المنطقة العربية، وعلاقات القوّة والتجهيل التى تسهّل طريق الاستعمار وتعبّده.
قصتا عبير خشيبون (المقيمة فى برلين) وسهيل مطر (المقيم فى الولايات المتحدة) تقاربان الآثار الاستعماريّة الثقيلة الواقعة على بقى من الفلسطينيين فى أرضهم التى صارت «إسرائيل»، فى القلب من مشروع الاستعمار. تقع أحداث قصة عبير فى عمّان، وتبحث لقاءً بين فلسطينيّة من الداخل وسوريّ فى حفل للمغنيّة اللبنانية فيروز. استنادًا لجوازات السفر، يحمل بطلا القصة جنسيتى كيانين فى حالة حرب، أما فى العمق، فينتميان إلى مجتمع واحد ممتدّ، لم تستطع الحدود أن تبدّد طبيعيّة وحدته، إذ تعيد القصة ) بعفويّة بالغة( التوحيد الإنسانيّ الممارس يوميًّا للإقليم الذى قسّمه الاستعمار سياسيًّا، ببساطة وبديهية. أما قصّة سهيل فتقارب لقاءً «محرّمًا» آخر، بين فلسطينيّ من الداخل، وفلسطينيّ من غزّة: فلسطينيّان لا يمكن لهما أن يلتقيا إلا في فلسطينيّن واليوم هم ناتج وخلاصة تاريخ طويل كانوا –وما يزالون- جزءًا منه، ابتدأ من طلوع فجر«الحضارة» فى بلاد الرافدين وسوريّة ومصر القديمتين، ويمتد بهم حتى اليوم، هم -مثلنا جميعًا- خلاصة تاريخ الإنسانيّة الجمعيّ الطويل، لا تاريخ خاصّ ومعزول ونقيّ ومتخيّل. الوجود الفلسطينيّ المتنوّع من العرب المسلمين والمسيحيّين والدروز والبهائيين واليهود، بلد ثالث. وبينما يجمع الفرح بطلى قصّة عبير، يجمع الحزن والشعور العميق بالمأساة بين بطلى قصة سهيل، لتكتمل دائرة الحال الواحد والمصير الإنسانى المشترك.
على صعيد آخر، تبحث قصص خالد الجبور وزياد خداش جوانب أكثر إشكاليّة ويوميّة من تجارب المُستعمَرين: فى قصة خالد عمّال فلسطينيّون يتمّ تهريبهم إلى داخل «إسرائيل» )أى إلى داخل أراضيهم المستعمَرة( ليعملوا فى بناء المستوطنات الإسرائيليّة بشكل غير قانونيّ، مختبئين يوميًّا فى قبو المبنى، ليُلقى القبض عليهم من قبل وحدة إسرائيلية خاصة تطارد أمثالهم! مفارقات صارخة وبناء سيرياليّ مركّب للسّياق؟ أبدًا. هذا واقع يوميّ يعيشه عدد كبير من العمال الفلسطينيين الواقعين بين مطرقة الاستعمار الإسرائيلى وسندان الفقر والبطالة الناتجة –ابتداءً- عن الأول. أما نصوص زياد القصيرة جدًّا فتزيد من مستوى التعقيد المُفارق، إذ تكشف الذل المضمر فى عمليّة «سلام» حوّلت «السلطة الفلسطينيّة» إلى أداة من أدوات الاحتلال، أو –فى أحسن الحالات- متفرّجً لا حول له ولا قوّة على جرائمه العبثية المُراهقة، وتحفر فى حلّ فاجع لمشكلة بسيطة: كيف سيتصرّف أستاذ وصفّه مع طالب يوجعه وجهه المحروق بقذائف القصف على غزة إن هو ضحك؟ وأى صلاة سيوجهونها للغيم، ولأى سبب؟ أهى صلاة استسقاء؟
فى قصة عزت الغزّاوى التفاتة إلى مأساة أخرى من مآسى الفلسطينيين: الأسرى فى سجون الاحتلال، وهم اليوم يبلغون 4,400، منهم 160 طفلًا، أما بطلات القصّة فهن من النساء، إذ للنساء دور بطوليّ ومركزيّ وفاعل فى فلسطين، ويبرز هذا الدور أيضًا فى قصة سهير أبو عقصة داوود، وبطلاتها من النساء أيضًا، فالنساء هنّ الأرض) تقع أحداث قصة خالد فى يوم الأرض( وهن الزيتون المتجذّر فيها (تتحوّل تلميذتان فى قصة لزياد خداش إلى شجرتين)، وهنّ المطر الذى يرويه والحصب الناتج عنه (يلعب المطر دورًا مركزيًّا فى قصة سهير أبو عقصة داود.
أما قصة محمود شقير فهى التفاتة إلى جانب آخر، مضحكٍ مبكٍ، من المأساة الفلسطينية، يتعلق بدور الأمم المتحدة العاجز، والمحكوم بمصالح الدول الكبرى وفيتوهاتها فى مجلس الأمن، فى التعامل مع فلسطين ومأساة الفلسطينيين. فى حين تطلعنا قصة إياد البرغوثي، بتكثيف شديد، على نزاع مع الاستعمار يطال لا المساحة المكانية فقط، بل الفضاء الزمانيّ، إذ يصبح الاحتفال بقدوم شهر رمضان سببًا آخر لفرض السطوة والمصادرة الممتدة من الأرض والتاريخ إلى الفضاء الزمانيّ المجرّد نفسه، مع إشارات ذكيّة إلى أمزجة إنسانية متعارضة ومتباينة يوحّدها الاضطهاد، ويذهب بها باتجاه التضامن.
أما قصّة شيخة حليوى فتستكمل رسم دائرة الإنسانيّ وتغلقها على امرأة فى حالة من الغيبوبة الخارجية الكاملة، والاستيقاظ الداخليّ، تتأمل العالم المباشر: التلفاز، والستارة، والممرضات، وزائريها الذين تقلّصوا، وتشاهد تحوّلاته من خلال تحوّلاتهم الشخصيّة البسيطة، إذ يتحوّل جسدها نفسه إلى سجن لا خلاص منه، وتتحوّل وقائع غرفة صغيرة فى مستشفى إلى عالم يتغيّر ويتحوّل، ولا سبيل للتواصل معه أو دفعه عن مساره، ملخّصة بذلك، دون أن تقصد، الأفق المسدود لفلسطين فى عالم ظالم تحكمه القوّة.
قد لا تكون فلسطين موجودة على الخارطة الرسميّة للعالم، ولا فى قرارات الأمم المتحدّة، ولا فى المشاريع المستقبلية للقوى الكبرى ذات المعايير المزدوجة والمنافقة، لكنها موجودة فى كلّ من يحتفل بالعدل والمساواة كقيم إنسانية عالمية عليا، ويسعى لتحقيقها؛ موجودة فى طفل يواجه دبابة المستعمر الإسرائيلى بحجر، ويسميّه العالم المتحضّر إرهابيًّا؛ موجودة فى استمراريّة الفلسطينيّين المتصلة بالإنسانية من خلال الفن والأدب.
كما يعبّر عنها شاعر فلسطين الأبرز محمود درويش إذ يقول: «لا تسألوا الأشجار عن اسمها/ لا تسألوا الوديان عن أُمها/ من جبهتى ينشق سيف الضياء/ ومن يدى ينبع ماء النهر/ كل قلوب الناس جنسيتي/ فلتسقطوا عنى جواز السفر؛»
وكما يعبّر عنها هذا الملف.
أهلًا بكم فى فلسطين.
هشام البستانى هو كاتب من الأردن، يكتب القصّة والشّعر والمقالة، والأشكال الهجينة والمُولَّدة، صدر له فى الأدب خمسة كتب هى عن الحب والموت (الفارابي، 2008)، الفوضى الرتيبة للوجود (الفارابي، 2010)، أرى المعنى (الآداب، 2012) مقدّماتٌ لا بدَّ منها لفناءٍ مؤجّل (العين، 2014)، وآخرها شهيقٌ طويلٌ قبل أن ينتهى كلّ شيء (الكتب خان، 2018)؛ وصدر له فى الفكر السياسيّ كتاب الكيانات الوظيفيّة: حدود الممارسة السياسيّة فى المنطقة العربيّة ما بعد الاستعمار (مجلّدان، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 2021). وصِف بأنه «فى طليعة جيل غضب عربى جديد، رابطًا بين حداثة أدبيّة لا تحدّها حدود، وبين رؤية تغييريّة جذريّة». تُرجمت قصصه ونصوصه الشعريّة إلى لغات عدّة، نُشرت الإنجليزيّة منها فى دوريّات بارزة فى الولايات المتّحدة، وبريطانيا، وكندا. اختارته مجلة ذى كلتشر ترِب البريطانية عام 2013 واحدًا من أبرز ستّة كتّاب معاصرين من الأردن. حاز كتابه أرى المعنى على جائزة جامعة آركنسو للأدب العربيّ وترجمته، وصدر بنسخة ثنائيّة اللغة (إنجليزيّة – عربيّة) تحت عنوان The Perception of Meaningعام 2015 عن دار نشر جامعة سيراكيوز فى نيويورك. أدرجت إحدى قصصه فى أنطولوجيا أفضل القصص القصيرة الآسيويّة لعام 2017، واختير محرّرًا لنفس الأنطولوجيا فى نسختها لعام 2019؛ وهو أيضًا محرّر الأدب العربى فى مجلّة ذى كومون الأدبيّة الأميركيّة التى تصدر عن جامعة آمهيرست، وحائز على زمالة الإقامة الأدبيّة التى تقدّمها مؤسّسة روكفلر الأمريكيّة فى مركزها فى بيلّاجيو – إيطاليا. صدرت الترجمة الإنجليزيّة لكتابه الفوضى الرّتيبة للوجود الشهر الماضى عن دار ميسون جار برس فى بالتيمور، الولايات المتحدة.
اقرأ ايضا | شاهد أثر الأولياء فى مجلة «الثقافة الجديدة»