فضيحة الحضارة في فلسطين: استئصالية الاستعمار وإنسانية الأدب

ابداع من فلسطين للفنان: صالح المالحى
ابداع من فلسطين للفنان: صالح المالحى

كتب : هشام البستانى 

لا يعرف المرء من أين يبدأ حين يتعلق الأمر بفلسطين، ‬ظلمٌ‭ ‬عمره‭ ‬الآن‭ ‬74‭ ‬عامًا‭ ‬إن‭ ‬ابتدأنا‭ ‬العدّ‭ ‬من‭ ‬النكبة‭ (‬1948‭)‬،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬مئة‭ ‬عام‭ ‬إن‭ ‬ابتدأنا‭ ‬العدّ‭ ‬من‭ ‬اتفاقيّة‭ ‬سايكس‭-‬بيكو‭ (‬1916‭) ‬وبداية‭ ‬الاستعمارين‭ ‬البريطانى‭ ‬والفرنسى‭ ‬للمنطقة‭ (‬1918‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬العدّ‭ ‬الأكثر‭ ‬منطقيّة‭ ‬برأيي،‭ ‬إذ‭ ‬أسّس‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬للأولّ،‭ ‬ومكّنه،‭ ‬ورسّخ‭ ‬وجوده،‭ ‬ودعم‭ ‬استمراره‭ ‬وما‭ ‬يزال، هذا‭ ‬الملفّ‭ ‬– من‭ ‬ضمن‭ ‬أشياء‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭- ‬هو‭ ‬دليل‭ ‬ساطع‭ ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬كومة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬أدلّة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكارها،‭ ‬تدحض‭ ‬المنظورات‭ ‬الاستعماريّة‭ ‬التى‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تاريخ‭ ‬قبله،‭ ‬ولا‭‬‮«‬حضارة‮» ‬‭‬دونه. 


مأساة‭ ‬الفلسطينيّين‭ ‬أمرٌ‭ ‬يعقد‭ ‬اللسان‭ ‬ويشلّ‭ ‬التفكير،‭ ‬فنحن‭ ‬إزاء‭ ‬واقعةٍ‭ ‬محسومة‭ ‬إن‭ ‬طبّقنا‭ ‬عليها‭ ‬معايير‭ ‬الضّمير‭ ‬والعدالة،‭ ‬لكنّ‭ ‬عالمنا‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬القوّة،‭ ‬ومعاييرها‭ ‬المزدوجة،‭ ‬وسرديّاتها‭ ‬المزوِّرة،‭ ‬يفاقم‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬ادّعاء‭ ‬فج‭ ‬يقول‭ ‬بـ«تحضّر‮»‬‭ ‬الغزاة‭ ‬المدجّجين‭ ‬بمواعظ‭ ‬لا‭ ‬تنتهى‭ ‬عن‭ ‬الحريّة‭ ‬والديمقراطيّة‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬حتى‭ ‬باتت‭ ‬هذه‭ ‬المفاهيم‭ ‬دعاية‭ ‬مفرغةً‭ ‬من‭ ‬المعنى‭. ‬


العالم‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬أوروبّا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬فقط،‭ ‬وبينما‭ ‬حظى‭ ‬هذان‭ ‬الجزءان‭ ‬بالهدوء‭ ‬والسلام‭ ‬والرّفاه‭ ‬النسبيّين‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬ودُشّنت‭ ‬شرعات ‭‬‮«‬إنسانيّة‮»‬‭‬ وقوانين ‬‮«‬دوليّة‮»‬‭ ‬تحفظ‭ ‬توازناتهما،‭ ‬لم‭ ‬يمتدّ‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬بقية‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬الذى‭ ‬بقى‭ ‬يرزح‭ ‬تحت‭ ‬أشكال‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬الاستعباد‭ ‬والاضطهاد‭ ‬والتدخّل‭ ‬والحرب‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬المعنى‭ ‬الواضح‭ ‬والمضمر،‭ ‬الصارخ‭ ‬والمسكوت‭ ‬عنه،‭ ‬فى‭ ‬أوصاف‭ ‬من‭ ‬قبيل ‭‬‮«‬القوى‭ ‬العظمى»‬‭: ‬أن‭ ‬ثمّة ‭‬‮«‬كيانات‭ ‬دنيا‮»‬‭‬ هى‭ ‬مجال‭ ‬فعل‭ ‬وتأثير‭ ‬وسيطرة‭ ‬وتحكّم‭ ‬الأولى،‭ ‬لا‭ ‬فى‭ ‬سياق‭ ‬سياسيّ‭-‬اقتصاديّ‭-‬عسكريّ‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬وفى‭ ‬سياق‭ ‬إعلامىّ‭-‬ثقافىّ‭-‬لغويّ‭ ‬أيضًا،‭ ‬وفى‭ ‬سياقٍ‭ ‬سردىّ،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تكتفى‭ ‬القوّة‭ ‬بفرض‭ ‬نفسها‭ ‬بالعنف،‭ ‬بل‭ ‬تفرض‭ ‬سرديّتها‭ ‬المُخترعة‭ ‬التى‭ ‬تنقلها‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأعمق‭. ‬من‭ ‬يجادل‭ ‬اليوم‭ ‬بديهة‭ ‬أن ‭‬‮«‬الحقّ‮»‬‭‬ يكمن‭ ‬ -حقًّا‭ - ‬فى‭ ‬القوّة؟
فلسطين‭ ‬هى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الآخر‮»‬‭ ‬ومآلاته‭:‬ مأساة‭ ‬واضحة‭ ‬ومضمرة،‭ ‬صارخة‭ ‬ومسكوت‭ ‬عنها‭ ‬فى‭ ‬آنٍ‭ ‬معًا؛‭ ‬مأساة‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬عنها‭ ‬‮«‬مسألة‭ ‬معقّدة‮»‬‭. ‬ليس‭ ‬من‭ ‬قولٍ‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬ليشكّل‭ ‬مهربًا‭ ‬مجانيًّا‭ ‬من‭ ‬الوقوف‭ ‬أمام‭ ‬واقعة‭ ‬بسيطة‭ ‬جدًّا،‭ ‬وسهلة‭ ‬الفهم‭ ‬حدّ‭ ‬الفجاجة‭: ‬حركة‭ ‬قوميّة‭ ‬نشأت‭ ‬فى‭ ‬أوروبا،‭ ‬وأسّست‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬مقولات‭ ‬دينيّة‭ ‬خرافيّة،‭ ‬جاءت‭ ‬فى‭ ‬سياق‭ ‬الاستعمارين‭ ‬البريطانى‭ ‬والفرنسى‭ ‬للمشرق‭ ‬العربيّ‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬وبتشجيعٍ‭ ‬ودعمٍ‭ ‬منهما،‭ ‬لتطهّر‭ ‬بقعةً‭ ‬جغرافيّة‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬مجتمعها‭ ‬المحلىّ‭: ‬السكّان‭ ‬والتاريخ‭ ‬والذكريات،‭ ‬وتقيم،‭ ‬بالقتل‭ ‬والإرهاب‭ ‬والحروب،‭ ‬والدعم‭ ‬الأوروبىّ‭-‬الأمريكى،‭ ‬مستعمرةً‭ ‬لها‭ ‬فوق‭ ‬الرّكام‭ ‬الذى‭ ‬صنعته‭.‬



ليس‭ ‬من‭ ‬ذنب‭ ‬للفلسطينيّين‭ ‬عندما‭ ‬يتعلّق‭ ‬الأمر‭ ‬بعنصريّة‭ ‬الأوروبيّين‭ ‬ولاساميّتهم‭: ‬محاكم‭ ‬التفتيش،‭ ‬وتفوّق‭ ‬العرق‭ ‬الأبيض،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬هتلر‭ ‬والهولوكوست،‭ ‬ليسوا‭ ‬نتاج‭ ‬الحضارة‭ ‬العربيّة‭ ‬الإسلاميّة‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬–عمومًا‭- ‬منفتحة‭ ‬ومتسامحة،‭ ‬هذه‭ ‬ظواهر‭ ‬أوروبيّة‭ ‬بحتة،‭ ‬نشأت‭ ‬وترعرعت‭ (‬وما‭ ‬زالت‭ ‬مستمرّة‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة‭) ‬فى‭ ‬عقر‭ ‬دار ‭‬‮«‬منارة‭ ‬الحضارة‮»‬‭. ‬فلنلاحظ‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬كلمة ‭‬‮«‬ساميّ»‬‭ ‬تشير‭ -‬بشكلّ‭ ‬عام‭- ‬إلى‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الشّعوب‭ ‬المتحدّثة‭ ‬باللّغات‭ ‬الساميّة،‭ ‬والموجودة‭ ‬تاريخيًّا‭ ‬فى‭ ‬منطقة‭ ‬سوريّة‭ ‬الطّبيعيّة،‭ ‬وبلاد‭ ‬الرّافدين،‭ ‬وشبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربيّة،‭ ‬منهم‭ ‬العرب،‭ ‬والسّريان،‭ ‬والمندائيّون،‭ ‬ومنهم‭ ‬طبعًا‭: ‬يهود‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬ممّن‭ ‬صاروا‭ ‬يُسمّون‭ ‬لاحقًا‭: ‬اليهود‭ ‬العرب؛‭ ‬لكن ‬‮«‬اللّاساميّة‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬التّمييز‭ ‬أو‭ ‬الاضطهاد‭ ‬المتعلّق‭ ‬بأيّ‭ ‬من‭ ‬هؤلاء،‭ ‬بل‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬ظاهرة‭ ‬أوروبيّة،‭ ‬أطرافها‭ ‬أوروبيّون‭ ‬من‭ ‬الجهتين،‭ ‬انتُزِع‭ ‬بعضهم‭ ‬عرقيًّا‭ ‬من‭ ‬المجموع‭ ‬الأوروبيّ،‭ ‬وحُسِبوا‭ ‬على‭ ‬الشّعوب‭ ‬السّاميّة،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬منشأ‭ ‬الدّيانة‭ ‬اليهوديّة،‭ ‬مثلها‭ ‬مثل‭ ‬كلّ‭ ‬الدّيانات‭ ‬الإبراهيميّة،‭ ‬هو‭ ‬مناطق‭ ‬السّاميّين‭ ‬المذكورة‭.‬


لم‭ ‬يكن‭ ‬لـ«اللّاساميّة‮»‬ ‭(‬كره‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬يهود‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلفيّة‭ ‬يهوديّة،‭ ‬واعتبارهم‭ ‬كتلة‭ ‬واحدة‭ ‬صمّاء‭ ‬غير‭ ‬متمايزة،‭ ‬وجزءًا‭ ‬من‭ ‬مؤامرة‭ ‬كبرى‭ ‬تستهدف‭ ‬السّيطرة‭ ‬على‭ ‬العالم‭) ‬نظيرٌ‭ ‬أو‭ ‬شبيهٌ‭ ‬فى‭ ‬العالمين‭ ‬الإسلامىّ‭ ‬والعربىّ‭ ‬حتى‭ ‬ظهور‭ ‬الحركة‭ ‬الصّهيونيّة‭. ‬صحيحٌ‭ ‬أنّ‭ ‬تاريخ‭ ‬معاملة‭ ‬اليهود‭ ‬فى‭ ‬العالم‭ ‬الإسلاميّ‭ ‬ليس‭ ‬مثاليًّا‭ (‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬أيٍّ‭ ‬كان،‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬دين‭ ‬أو‭ ‬ملّة،‭ ‬مسلمًا‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مسلم‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬ثمّة‭ ‬معاملة‭ ‬تمييزيّة‭ (‬فى‭ ‬اللّباس،‭ ‬والحقوق‭ ‬السّياسيّة‭ ‬مثلًا‭) ‬تصعد‭ ‬أو‭ ‬تهبط‭ ‬أو‭ ‬تنعدم‭ ‬بحسب‭ ‬المرحلة‭ ‬التّاريخيّة‭ ‬والمكان‭ ‬الجغرافيّ،‭ ‬لكن‭ ‬النّمط‭ ‬العامّ‭ ‬كان‭ ‬مُتسامِحًا‭ ‬ومُستوعِبًا،‭ ‬فلم‭ ‬تشهد‭ ‬المنطقة‭ ‬فى‭ ‬التّاريخ‭ ‬القريب ‭‬‮«‬أحداثًا‭ ‬كبرى‮»‬‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬عنفيّ‭ ‬موجّهٍ‭ ‬ضدّ‭ ‬اليهود،‭ ‬أمّا‭ ‬فى‭ ‬التّاريخ‭ ‬الأبعد،‭ ‬فقد‭ ‬هرب‭ ‬يهود‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬الأيبيريّة‭ (‬الذين‭ ‬أصبحوا‭ ‬يُسمّون‭ ‬لاحقًا‭ ‬بالسفارديم‭) ‬من‭ ‬الاضطهاد‭ ‬المسيحيّ‭ ‬الإسبانيّ‭ ‬ومحاكم‭ ‬التّفتيش‭ ‬التى‭ ‬باركها‭ ‬ودعمها‭ ‬البابا‭ ‬فى‭ ‬روما،‭ ‬إلى‭ ‬الفضاء‭ ‬الإسلاميّ،‭ ‬حيث‭ ‬كانوا‭ ‬يُعتبرون ‭‬‮«‬أصحاب‭ ‬كتاب‮»‬،‭ ‬وبقيت‭ ‬المجتمعات‭ ‬اليهوديّة‭ ‬العربيّة‭ ‬والسفارديّة‭ ‬قائمة‭ ‬وحيويّة‭ ‬حتى‭ ‬نشوء ‭‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬إنّها‭ ‬ازدهرت‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬المراحل‭ ‬التّاريخيّة،‭ ‬وبرز‭ ‬منها‭ ‬أعلام‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬والسّياسة‭ ‬والفلسفة‭ ‬والتّرجمة‭ ‬والتّجارة‭ ‬والحرف،‭ ‬وبينما‭ ‬اضطهد‭ ‬اليهود‭ ‬لقرون‭ ‬فى‭ ‬أوروبّا،‭ ‬كانت‭ ‬المجتمعات‭ ‬اليهوديّة‭ ‬العربيّة‭ ‬تعيش‭ ‬استقرارًا،‭ ‬وازدهارًا‭ ‬نسبيًّا،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاءت‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونيّة‭ ‬و «إسرائيل‮»‬‭‬ لتسلخهم‭ ‬عن‭ ‬مجتمعاتهم‭ ‬الأمّ‭ ‬فى‭ ‬اليمن‭ ‬والمغرب‭ ‬والجزائر‭ ‬وتونس‭ ‬وليبيا‭ ‬ومصر‭ ‬ولبنان‭ ‬وسوريّة‭ ‬والعراق،‭ ‬دافعة‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬انفصام‭ ‬عميق،‭ ‬يعبّر‭ ‬عنه‭ ‬بذكاءٍ‭ ‬شديد،‭ ‬وحساسيّة‭ ‬عالية،‭ ‬الشاعر‭ ‬اليهوديّ‭ ‬المغربيّ‭ ‬سامى‭ ‬شالوم‭ ‬شطريت،‭ ‬الراحل‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬الراحل‭ ‬عنها،‭ ‬إذ‭ ‬يخاطب‭ ‬الشاعر‭ ‬الفلسطينيّ‭ ‬محمود‭ ‬درويش،‭ ‬فى‭ ‬قصيدة‭ ‬سمّاها‭ ‬‮«‬جداريّة‭ ‬بلا‭ ‬جدار‮»‬‭: ‬


‮«‬كم‭ ‬هو‭ ‬لكَ‭ ‬تمامًا‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭/ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬وطن‭ ‬لى‭ ‬كهذا،‭ ‬لا‭ ‬كتابةً‭ ‬ولا‭ ‬أرضًا‭. ‬لكن،‭ ‬باللهِ،‭ ‬لا‭ ‬تشفق‭ ‬عليّ‭ ‬–‭ ‬إذ‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬المقصود‭./ ‬ففى‭ ‬نهاية‭ ‬المطافِ،‭ ‬أنا‭ ‬هو‭ ‬القاتلُ،‭/ ‬ولن‭ ‬تشفع‭ ‬لى‭ ‬ألف‭ ‬عريضةٍ‭ ‬وعريضةٍ‭ ‬ضد‭ ‬الاحتلال‭./ ‬فأنا‭ ‬الجنديُّ‭/ ‬الذى‭ ‬يقتل‭ ‬الحمائم‭ ‬الثلاث‭ ‬بطلقةٍ‭ ‬واحدة،‭ ‬مرّةً‭ ‬بعد‭ ‬مرّةٍ‭/ ‬وقد‭ ‬غدا‭ ‬الأمر‭ ‬عادةً‭:/ ‬فأنا‭ ‬الذى‭ ‬أطلق‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬الحصان‭ ‬المتروكِ‭ ‬قرب‭ ‬البيت‭ ‬الذى‭ ‬غدا‭ ‬بيتى‭ ‬الجديد،‭/ ‬وأنا‭ ‬الذى‭ ‬أحكمتُ‭ ‬إقفال‭ ‬نوافذه‭ ‬دون‭ ‬نواح‭ ‬النادبين،‭/ ‬وأنا‭ ‬الذى‭ ‬سددتُ‭ ‬جيدًا‭ ‬باب‭ ‬البئر‭ ‬بالباطون‭ ‬المسلّح‭/ ‬كى‭ ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬ولا‭ ‬أسمع‭ ‬الحياة‭ ‬فى‭ ‬المياه‭./..../ ‬فأنا‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬لأنى‭ ‬لستُ‭ ‬واحدًا‭ ‬منكم،‭/ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬بؤس‭ ‬بيت‭ ‬القصيد‭. ‬وهأنذا‭/ ‬أسترق‭ ‬الخطى‭ ‬عبر‭ ‬عتباتكم،‭ ‬جيئة‭ ‬وذهابًا،‭ ‬كأنها‭ ‬عتباتي،‭/ ‬مرّة‭ ‬أرشف‭ ‬القهوة‭ ‬العربيّة،‭/ ‬ومرّة‭ ‬ألبط‭ ‬الرّكوة،‭ ‬وأصرخ‭: ‬‮«‬أيها‭ ‬العربيّ‭ ‬القذر‮»‬‭/ ‬وأحطّم‭ ‬كل‭ ‬المرايا‭ ‬كى‭ ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬فيها‭ ‬وجه‭ ‬جدّي،‭/ ‬متحيّرًا‭ ‬فيها‭ ‬بأمرى‭ ‬بلغة‭ ‬عربيّة‭./ ‬وما‭ ‬دخل‭ ‬العربيّة‭ ‬هنا؟‭ ‬أنا‭ ‬شاعر‭ ‬عبري‭./ ‬أنا‭ ‬شاعر‭ ‬سجّان‭ ‬–فلا‭ ‬تصدّق‭ ‬مما‭ ‬أقول‭ ‬شيئًا‭-/ ‬وسجّان‭ ‬نفسي،‭ ‬وسجّان‭ ‬كلامى‭ ‬الذي‭/ ‬قُصقصت‭ ‬جوانحه،‭ ‬وسجّان‭ ‬نومى‭ ‬الذى‭ ‬يهجرنى‭ ‬ويهيم‭ ‬على‭ ‬وجهه‭/ ‬بلا‭ ‬وجهةٍ‭ ‬معيّنة‭ ‬يستريح‭ ‬فيها‮»‬‭.‬



إسرائيل،‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬المدينة‭ ‬على‭ ‬تلّ‮»‬‭ ‬شرق‭ ‬المتوسط‭ ‬لم‭ ‬تسقط‭ ‬من‭ ‬الفراغ؛‭ ‬بل‭ ‬هى‭ ‬امتداد‭ ‬لتاريخ‭ ‬استعماريّ‭ ‬دمويّ‭ ‬ضرب‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬أوروبّا،‭ ‬ومازالت‭ ‬آثاره‭ ‬الكارثية‭ ‬ممتدّة‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬متمثّلة‭ ‬فى‭ ‬مأساة‭ ‬اللجوء‭ ‬عبر‭ ‬المتوسط،‭ ‬والغرقى‭ ‬فى‭ ‬قاعه،‭ ‬والمتجمّدون‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬أمام‭ ‬أسيجةٍ‭ ‬ترحب‭ ‬بشكل‭ ‬شبه‭ ‬حصريّ‭ ‬بـ«الشقر‭ ‬ذوى‭ ‬العيون‭ ‬الزرقاء‮»‬‭‬ ممن‭ ‬هم‭ ‬‮«‬مثلنا‮»‬،‭ ‬عنصريّة‭ ‬كانت‭ ‬نائمة‭ ‬عميقًا‭ ‬لا‭ ‬فى‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرّف‭ (‬المكشوف‭ ‬والواضح‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬فى‭ ‬الـmain‭ ‬stream‭ ‬نفسه‭ ‬الذى‭ ‬تطلّب‭ ‬مأساة‭ ‬شبيهة‭ ‬بما‭ ‬حصل‭ ‬فى‭ ‬أفغانستان‭ ‬والعراق،‭ ‬لكن‭ ‬فى‭ ‬أوروبا‭ ‬نفسها‭ ‬هذه‭ ‬المرّة،‭ ‬لتوقظها‭.‬


فلسطين‭ ‬اليوم‭ ‬هى‭ ‬أمريكا‭ ‬الأمس؛‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الأرض‭ ‬الموعودة‭ ‬جرداء‭ ‬متوحشة،‭ ‬تنتظر‭ ‬من‭ ‬يعمّرها،‭ ‬وكان‭ ‬سكّانها‭ ‬الأصليّون‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وحوشًا،‭ ‬أو‭ ‬ظلالًا،‭ ‬أو‭ ‬أشباحًا‭. ‬كانت‭ ‬جزيرة‭ ‬السلحفاة‭ ‬هى‭‬‮«‬إسرائيل‭ ‬الجديدة‮»‬،‭ ‬‮«‬أرض‭ ‬كنعان‭ ‬الإنجليزية‮»‬،‭ ‬وبنوا‭ ‬مستعمرتهم‭ ‬على‭ ‬سرديّة‭ ‬توراتيّة‭ ‬شبيهة‭ ‬بتلك‭ ‬التى ‭‬‮«‬اخترع‮»‬‭ ‬من‭ ‬مصدرها‭ ‬نفسه ‭‬‮«‬الشعب‭ ‬اليهوديّ‮»‬،‭ ‬وما‭ ‬سيرتكبه‭ ‬ذلك‭ ‬المستعمِر‭ ‬الصّهيونيّ‭ ‬الأبيض‭ ‬من‭ ‬فظائع،‭ ‬فسيندرج‭ ‬كجزءٍ‭ ‬من‭ ‬التّاريخ‭ ‬الاستعماريّ‭ ‬الأوروبيّ،‭ ‬ويتمّ‭ ‬تفهّمه،‭ ‬واستيعابه،‭ ‬وتطبيعه،‭ ‬وتجاهل‭ ‬آثاره،‭ ‬بل‭ ‬الاحتفاء‭ ‬به،‭ ‬مثلما‭ ‬هو‭ ‬الأمر‭ ‬فيما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالتّاريخ‭ ‬الاستعماريّ‭ ‬لأوروبّا‭ ‬نفسها‭: ‬النّموذج‭ ‬الأوضح‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬الاحتفال‭ ‬الرّسميّ‭ ‬البريطانيّ‭ ‬بمئويّة‭ ‬وعد‭ ‬بلفور‭: ‬التّعهّد‭ ‬الذى‭ ‬جلب‭ ‬الوبال‭ ‬والقتل‭ ‬والتّشريد‭ ‬على‭ ‬الفلسطينيّين،‭ ‬وتصريح‭ ‬رئيسة‭ ‬وزراء‭ ‬بريطانيا‭ ‬تيريزا‭ ‬ماى‭ ‬خلال‭ ‬الاحتفال،‭ ‬أنّ‭ ‬بريطانيا‭ ‬‮«‬فخورة‭ ‬بدورها‭ ‬الرّائد‭ ‬فى‭ ‬إنشاء‭ ‬دولة‭ ‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تشير‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬أو‭ ‬بعيد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تصرّفها‭ ‬الاستعماريّ‭ ‬غير‭ ‬الشّرعيّ‭ ‬بحقوقٍ‭ ‬لا‭ ‬تملكها،‭ ‬أثّر‭ ‬بشكل‭ ‬هائل‭ ‬على‭ ‬مصائر‭ ‬عددٍ‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬لهم‭ ‬ولا‭ ‬قوّة،‭ ‬ودمّر‭ ‬حياتهم‭. ‬هؤلاء‭ ‬البشر،‭ ‬مثل‭ ‬نظرائهم‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬السكّان‭ ‬الأصليّين‭ ‬فى‭ ‬المستعمرات‭ ‬الأوروبيّة،‭ ‬غير‭ ‬موجودين،‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لمآسيهم‭ ‬ولحياتهم‭ ‬ولوجودهم،‭ ‬ولا‭ ‬اعتبار‭.‬


‮«‬عبء‭ ‬الرجل‭ ‬الأبيض‮»‬‭ ‬حقيقيّ،‭ ‬إذًا،‭ ‬وموجود‭: ‬إنه‭ ‬عبء‭ ‬تاريخ‭ ‬من‭ ‬الدم‭ ‬والقتل‭ ‬والاستعباد،‭ ‬تشهد‭ ‬عليها‭ ‬حواضر‭ ‬شمال‭ ‬العالم‭ ‬المزدهرة‭ ‬بتقدّمها‭ ‬الماديّ‭ ‬والثقافية،‭ ‬والمجبولة‭ ‬بدماء‭ ‬ودموع‭ ‬شعوب‭ ‬جنوب‭ ‬العالم‭ ‬المتروكين‭ ‬على‭ ‬أراضٍ‭ ‬منهوبة‭ ‬محروقة‭ ‬مكبّلة‭ ‬مرصّعة‭ ‬بقواعد‭ ‬عسكريّة‭ ‬ومخلّفات‭ ‬نوويّة‭ ‬وتنمية‭ ‬مُعطّلة‭.‬


إسرائيل،‭ ‬هذه‭ ‬‮ «المدينة‭ ‬على‭ ‬تلّ‮»‬‭‬ شرق‭ ‬المتوسط‭ ‬لم‭ ‬تسقط‭ ‬من‭ ‬الفراغ؛‭ ‬بل‭ ‬هى‭ ‬امتداد‭ ‬لتاريخ‭ ‬استعماريّ‭ ‬دمويّ‭ ‬ضرب‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬أوروبّا،‭ ‬ومازالت‭ ‬آثاره‭ ‬الكارثية‭ ‬ممتدّة‭ ‬حتى‭ ‬اليوم.

الحديث‭ ‬عن‭ ‬فلسطين‭ ‬ليس‭ ‬حديثًا‭ ‬فى‭ ‬السياسة‭ ‬–أبدًا‭-‬،‭ ‬ولا‭ ‬حديثاً‭ ‬فى‭ ‬الدّين‭ ‬–بتاتًا‭-‬،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬حديثٌ‭ ‬فى‭ ‬التاريخ،‭ ‬تحديدًا‭: ‬تاريخ‭ ‬الاستعمار‭ ‬الأوروبيّ‭ ‬الأبيض‭ ‬ومآلاته‭ ‬فى‭ ‬المستعمرات‭ ‬السابقة،‭ ‬وتاريخ‭ ‬السكّان‭ ‬الأصليين‭ ‬غير‭ ‬المرئيين‭ ‬المدعوسين‭ ‬تحت‭ ‬أقدامه،‭ ‬المختطفين‭ ‬لبناء‭ ‬‮«‬حضارته‮«‬‭ ‬‮»‬إسرائيل» ‬‭ ‬هى‭ ‬نتيجة‭ ‬من‭ ‬نتائج‭ ‬تلك‭ ‬المآلات‭ ‬التى‭ ‬اشتقت‭ ‬لنفسها‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬تاريخًا‭ ‬استعماريًّا‭ ‬مستقلًّا،‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬فى‭ ‬القرن‭ ‬الحادى‭ ‬والعشرين‭ ‬قائمًا‭ ‬ومستمرًّا‭ ‬وفعّالًا،‭ ‬نتيجة‭ ‬. وهنا‭ ‬المأساة،‭ ‬والأمل‭- ‬لنضال‭ ‬أجيالٍ‭ ‬وراءها‭ ‬أجيال‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تتمسّك‭ ‬بالعدالة،‭ ‬لا‭ ‬تحيد‭ ‬بوصلتها‭ ‬عنها،‭ ‬ولا‭ ‬توافق‭ ‬على‭ ‬إضاعتها‭.‬


فلسطينيّو‭ ‬اليوم‭ ‬هم‭ ‬ناتج‭ ‬وخلاصة‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل‭ ‬كانوا‭ ‬–وما‭ ‬يزالون‭- ‬جزءًا‭ ‬منه،‭ ‬ابتدأ‭ ‬من‭ ‬طلوع‭ ‬فجر‭‬‮«‬الحضارة‮»‬‭‬ فى‭ ‬بلاد‭ ‬الرافدين‭ ‬وسوريّة‭ ‬ومصر‭ ‬القديمتين،‭ ‬ويمتد‭ ‬بهم‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬هم‭ ‬-مثلنا‭ ‬جميعًا‭- ‬خلاصة‭ ‬تاريخ‭ ‬الإنسانيّة‭ ‬الجمعيّ‭ ‬الطويل،‭ ‬لا‭ ‬تاريخ‭ ‬خاصّ‭ ‬ومعزول‭ ‬ونقيّ‭ ‬ومتخيّل‭. ‬الوجود‭ ‬الفلسطينيّ‭ ‬المتنوّع‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬المسلمين‭ ‬والمسيحيّين‭ ‬والدروز‭ ‬والبهائيين‭ ‬واليهود‭ ‬السامريين،‭ ‬والأرمن‭ ‬والشركس‭ ‬والبشناق‭ ‬والأكراد،‭ ‬هو‭ ‬فضيحة ‭‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭‬ الاستعماريّة‭ ‬الإقصائيّة‭ ‬العنصريّة،‭ ‬ذات‭ ‬المنظورات‭ ‬المشتقّة‭ ‬من،‭ ‬والمأسورة‭ ‬لِـ«المركزانيّة‭ ‬الأوروبيّة‭ ‬البيضاء‮»‬‭. ‬ففى‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬المعاصرة‭ ‬اليوم‭ ‬طبقاتٌ‭ ‬وتمييز‭ ‬عنصريّ‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬‮«‬الشعب‭ ‬الواحد‮»‬‭: ‬فعلى‭ ‬رأس‭ ‬الهرم‭ ‬العرقيّ‭ ‬يقبع‭ ‬الأشكناز‭ ‬–‭ ‬اليهود‭ ‬الأوروبيّون‭ ‬البيض،‭ ‬أسفل‭ ‬منهم‭ ‬يتموقع‭ ‬اليهود‭ ‬العرب‭ ‬ومن‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬خلفيّات‭ ‬‮«‬شرقيّة‮»‬،‭ ‬وفى‭ ‬مرتبة‭ ‬أدنى‭ ‬نجد‭ ‬اليهود‭ ‬الأفارقة‭ ‬السّود؛‭ ‬أما‭ ‬شعب‭ ‬الأرض‭ ‬الأصليّ،‭ ‬فهؤلاء‭ ‬غير‭ ‬مرئيين‭ ‬أصلًا‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬أعلن‭ ‬المستعمِرون‭ ‬أنهم‭ ‬يستحوذون‭ ‬على‭ ‬‮«‬أرضٍ‭ ‬بلا‭ ‬شعب،‭ ‬لشعبٍ‭ ‬بلا‭ ‬أرض‮»‬‭. ‬لهذا‭ ‬تعمل‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬استئصال‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬المتنوّع،‭ ‬الثريّ،‭ ‬لصالح‭ ‬سرديّتها‭ ‬الحصريّة،‭ ‬التجانسيّة‭.‬


هذا‭ ‬الملفّ‭ ‬– من‭ ‬ضمن‭ ‬أشياء‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭- ‬هو‭ ‬دليل‭ ‬ساطع‭ ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬كومة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬أدلّة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكارها،‭ ‬تدحض‭ ‬المنظورات‭ ‬الاستعماريّة‭ ‬التى‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تاريخ‭ ‬قبله،‭ ‬ولا‭ ‬‮«‬حضارة‮»‬‭ ‬دونه؛‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبيّ‭ ‬دليل‭ ‬صمود‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬عميق‭ ‬وراسخ،‭ ‬بقاءٌ‭ ‬واستمراريّة‭ ‬فى‭ ‬آنٍ‭ ‬معًا،‭ ‬والاستمراريّة‭ ‬هنا‭ ‬هى‭ ‬تراكم‭ ‬تاريخيّ‭ ‬قديم،‭ ‬لغويّ‭ ‬وثقافيّ‭ ‬واجتماعيّ‭ ‬وأدبيّ،‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بـِ،‭ ‬ولا‭ ‬يقيم،‭ ‬حدودًا‭ ‬وحصريّات‭ ‬ومعازل‭ ‬وجدران‭ ‬دينيّة‭/ ‬ثقافيّة‭/ ‬تاريخيّة‭: ‬سكان‭ ‬فلسطين‭ ‬قبل‭ ‬الاستعمار،‭ ‬قبل‭ ‬حدود‭ ‬‮«‬الدول‭ ‬الوطنيّة‮»‬‭ ‬التى‭ ‬أنشأها‭ ‬وتركها‭ (‬هزيلة،‭ ‬تابعة‭) ‬خلفه،‭ ‬هم‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬نسيج‭ ‬سكان‭ ‬المنطقة‭ ‬التى‭ ‬يسمّيها‭ ‬الأوروبيون‭ ‬بمنظورهم‭ ‬المركزانيّ‭ ‬‮«‬الشرق‭ ‬الأوسط‮»‬،‭ ‬لأنها‭ ‬شرق‭ ‬قارّتهم‭ ‬المركز،‭ ‬وتقع‭ ‬فى‭ ‬مسافة‭ ‬متوسّطة،‭ ‬أو‭ ‬أقرب،‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الشرق‭ ‬الآخر،‭ ‬الأقصى‭.‬


الأدب‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬مستمرة،‭ ‬يدٌ‭ ‬من‭ ‬الماضى‭ ‬تكتب‭ ‬فى‭ ‬الحاضر‭ ‬لأجل‭ ‬المستقبل،‭ ‬وفعاليّة‭ ‬المقهورين‭ ‬لا‭ ‬تأخذ‭ ‬أشكالًا‭ ‬سياسيّة‭-‬حياتيّة‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬تتجلّى‭ ‬بشكلها‭ ‬الأعمق‭ ‬فى‭ ‬الإبداع‭ ‬والكتابة‭ ‬الفنيّة‭: ‬هؤلاء‭ ‬الأشباح،‭ ‬الهمج،‭ ‬موجودون‭ ‬بالفعل،‭ ‬وبالممارسة،‭ ‬وضمن‭ ‬صيرورات‭ ‬تاريخيّة‭ ‬تربطهم‭ ‬باستمراريّة‭ ‬إنسانيّة‭ ‬هى‭ ‬أساس‭ ‬الفنّ‭ ‬وجوهره؛‭ ‬يد‭ ‬تلمس‭ ‬أخرى‭ ‬فأخرى،‭ ‬تدعو‭ ‬خارجها‭ ‬ليصير‭ ‬منها‭ ‬وفيها،‭ ‬فالفن‭ ‬كما‭ ‬العدالة،‭ ‬قيمة‭ ‬عالميّة‭ ‬حقًّا،‭ ‬تسع‭ ‬الجميع،‭ ‬ومفتوحة‭ ‬للجميع،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الباب‭ ‬ولج‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬كثرة‭ ‬من‭ ‬خارجها‭: ‬راشيل‭ ‬كوري،‭ ‬توم‭ ‬هاراندال،‭ ‬روجر‭ ‬واترز،‭ ‬سوزان‭ ‬ساراندون،‭ ‬بل‭ ‬ومن‭ ‬مجتمع‭ ‬المستعمِرين‭ ‬نفسه‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬ألقوا‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم‭ ‬وضعيّة‭ ‬المستعمِر‭: ‬يوآف‭ ‬بار،‭ ‬فيليتسيا‭ ‬لانجر،‭ ‬آيشا‭ ‬آزولاي،‭ ‬وغيرهم‭.‬


الإنسانيّة‭ ‬والتلامس‭ ‬الإنسانيّ‭ ‬هما‭ ‬اللبّ‭ ‬المركّز‭ ‬لهذا‭ ‬الملفّ‭ ‬الذى‭ ‬يحتوى‭ ‬قصصًا‭ ‬بالغة‭ ‬الرّهافة‭ ‬من‭ ‬فلسطين،‭ ‬بمعناها‭ ‬العام‭ ‬الذى‭ ‬تمثّله‭ ‬اليوم‭: ‬مناطق‭ ‬استعمرت‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬وبقى‭ ‬فيها‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬سكّانها‭ ‬الأصليين‭ ‬باعتبارهم‭ ‬‮«‬أقليّة‮»‬‭ ‬فى‭ ‬أرضهم،‭ ‬وأخرى‭ ‬‮«‬محتلّة‮»‬‭ ‬بحسب‭ ‬القانون‭ ‬الدوليّ‭ ‬أو‭ ‬تقبع‭ ‬تحت‭ ‬احتلال‭ ‬فعليّ‭ ‬أو‭ ‬حصار‭ ‬خانق،‭ ‬وتعرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬وقطاع‭ ‬غزة‮»‬،‭ ‬وفلسطينيّون‭ ‬مهجّرون‭ ‬ولاجئون‭ ‬فى‭ ‬أربعة‭ ‬أرجاء‭ ‬الأرض،‭ ‬وممنوعون‭ ‬من‭ ‬العودة‭. ‬فقصّة‭ ‬سميرة‭ ‬عزام‭ (‬1927‭ ‬–‭ ‬1967‭) ‬تقع‭ ‬أحداثها‭ ‬فى‭ ‬العراق،‭ ‬التى‭ ‬عاشت‭ ‬فيها‭ ‬الكاتبة‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬حياتها،‭ ‬وعملت‭ ‬مدرّسة‭ ‬فيها،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬هُجّرت‭ ‬من‭ ‬مدينتها‭ ‬عكّا‭ ‬عام‭ ‬النكبة،‭ ‬وفى‭ ‬القصة‭ ‬ربط‭ ‬ضمنيّ‭ ‬وفذّ‭ ‬بين‭ ‬خيوط‭ ‬الاستعمارات‭ ‬المتشابكة‭ ‬فى‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية،‭ ‬وعلاقات‭ ‬القوّة‭ ‬والتجهيل‭ ‬التى‭ ‬تسهّل‭ ‬طريق‭ ‬الاستعمار‭ ‬وتعبّده‭. ‬


قصتا‭ ‬عبير‭ ‬خشيبون‭ (‬المقيمة‭ ‬فى‭ ‬برلين‭) ‬وسهيل‭ ‬مطر‭ (‬المقيم‭ ‬فى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭) ‬تقاربان‭ ‬الآثار‭ ‬الاستعماريّة‭ ‬الثقيلة‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬بقى‭ ‬من‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬فى‭ ‬أرضهم‭ ‬التى‭ ‬صارت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬فى‭ ‬القلب‭ ‬من‭ ‬مشروع‭ ‬الاستعمار‭. ‬تقع‭ ‬أحداث‭ ‬قصة‭ ‬عبير‭ ‬فى‭ ‬عمّان،‭ ‬وتبحث‭ ‬لقاءً‭ ‬بين‭ ‬فلسطينيّة‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬وسوريّ‭ ‬فى‭ ‬حفل‭ ‬للمغنيّة‭ ‬اللبنانية‭ ‬فيروز‭. ‬استنادًا‭ ‬لجوازات‭ ‬السفر،‭ ‬يحمل‭ ‬بطلا‭ ‬القصة‭ ‬جنسيتى‭ ‬كيانين‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬حرب،‭ ‬أما‭ ‬فى‭ ‬العمق،‭ ‬فينتميان‭ ‬إلى‭ ‬مجتمع‭ ‬واحد‭ ‬ممتدّ،‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬الحدود‭ ‬أن‭ ‬تبدّد‭ ‬طبيعيّة‭ ‬وحدته،‭ ‬إذ‭ ‬تعيد‭ ‬القصة‭ ) ‬بعفويّة‭ ‬بالغة‭( ‬التوحيد‭ ‬الإنسانيّ‭ ‬الممارس‭ ‬يوميًّا‭ ‬للإقليم‭ ‬الذى‭ ‬قسّمه‭ ‬الاستعمار‭ ‬سياسيًّا،‭ ‬ببساطة‭ ‬وبديهية‭. ‬أما‭ ‬قصّة‭ ‬سهيل‭ ‬فتقارب‭ ‬لقاءً‭ ‬‮«‬محرّمًا‮»‬‭ ‬آخر،‭ ‬بين‭ ‬فلسطينيّ‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬وفلسطينيّ‭ ‬من‭ ‬غزّة‭: ‬فلسطينيّان‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لهما‭ ‬أن‭ ‬يلتقيا‭ ‬إلا‭ ‬في فلسطينيّن واليوم‭ ‬هم‭ ‬ناتج‭ ‬وخلاصة‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل‭ ‬كانوا‭ ‬–وما‭ ‬يزالون‭- ‬جزءًا‭ ‬منه،‭ ‬ابتدأ‭ ‬من‭ ‬طلوع‭ ‬فجر‭‬‮«‬الحضارة‮»‬‭‬ فى‭ ‬بلاد‭ ‬الرافدين‭ ‬وسوريّة‭ ‬ومصر‭ ‬القديمتين،‭ ‬ويمتد‭ ‬بهم‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬هم‭ ‬-مثلنا‭ ‬جميعًا‭- ‬خلاصة‭ ‬تاريخ‭ ‬الإنسانيّة‭ ‬الجمعيّ‭ ‬الطويل،‭ ‬لا‭ ‬تاريخ‭ ‬خاصّ‭ ‬ومعزول‭ ‬ونقيّ‭ ‬ومتخيّل‭. ‬الوجود‭ ‬الفلسطينيّ‭ ‬المتنوّع‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬المسلمين‭ ‬والمسيحيّين‭ ‬والدروز‭ ‬والبهائيين‭ ‬واليهود‭، ‬بلد‭ ‬ثالث‭. ‬وبينما‭ ‬يجمع‭ ‬الفرح‭ ‬بطلى‭ ‬قصّة‭ ‬عبير،‭ ‬يجمع‭ ‬الحزن‭ ‬والشعور‭ ‬العميق‭ ‬بالمأساة‭ ‬بين‭ ‬بطلى‭ ‬قصة‭ ‬سهيل،‭ ‬لتكتمل‭ ‬دائرة‭ ‬الحال‭ ‬الواحد‭ ‬والمصير‭ ‬الإنسانى‭ ‬المشترك‭.‬

 


على‭ ‬صعيد‭ ‬آخر،‭ ‬تبحث‭ ‬قصص‭ ‬خالد‭ ‬الجبور‭ ‬وزياد‭ ‬خداش‭ ‬جوانب‭ ‬أكثر‭ ‬إشكاليّة‭ ‬ويوميّة‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬المُستعمَرين‭: ‬فى‭ ‬قصة‭ ‬خالد‭ ‬عمّال‭ ‬فلسطينيّون‭ ‬يتمّ‭ ‬تهريبهم‭ ‬إلى‭ ‬داخل ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ )‬أى‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬أراضيهم‭ ‬المستعمَرة‭(‬ ليعملوا‭ ‬فى‭ ‬بناء‭ ‬المستوطنات‭ ‬الإسرائيليّة‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬قانونيّ،‭ ‬مختبئين‭ ‬يوميًّا‭ ‬فى‭ ‬قبو‭ ‬المبنى،‭ ‬ليُلقى‭ ‬القبض‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬وحدة‭ ‬إسرائيلية‭ ‬خاصة‭ ‬تطارد‭ ‬أمثالهم‭! ‬مفارقات‭ ‬صارخة‭ ‬وبناء‭ ‬سيرياليّ‭ ‬مركّب‭ ‬للسّياق؟‭ ‬أبدًا‭. ‬هذا‭ ‬واقع‭ ‬يوميّ‭ ‬يعيشه‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬العمال‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬الواقعين‭ ‬بين‭ ‬مطرقة‭ ‬الاستعمار‭ ‬الإسرائيلى‭ ‬وسندان‭ ‬الفقر‭ ‬والبطالة‭ ‬الناتجة‭ ‬–ابتداءً‭- ‬عن‭ ‬الأول‭. ‬أما‭ ‬نصوص‭ ‬زياد‭ ‬القصيرة‭ ‬جدًّا‭ ‬فتزيد‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬التعقيد‭ ‬المُفارق،‭ ‬إذ‭ ‬تكشف‭ ‬الذل‭ ‬المضمر‭ ‬فى‭ ‬عمليّة‭ ‬‮«‬سلام‮»‬‭ ‬حوّلت‭ ‬‮«‬السلطة‭ ‬الفلسطينيّة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬الاحتلال،‭ ‬أو‭ ‬–فى‭ ‬أحسن‭ ‬الحالات‭- ‬متفرّجً‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬قوّة‭ ‬على‭ ‬جرائمه‭ ‬العبثية‭ ‬المُراهقة،‭ ‬وتحفر‭ ‬فى‭ ‬حلّ‭ ‬فاجع‭ ‬لمشكلة‭ ‬بسيطة‭: ‬كيف‭ ‬سيتصرّف‭ ‬أستاذ‭ ‬وصفّه‭ ‬مع‭ ‬طالب‭ ‬يوجعه‭ ‬وجهه‭ ‬المحروق‭ ‬بقذائف‭ ‬القصف‭ ‬على‭ ‬غزة‭ ‬إن‭ ‬هو‭ ‬ضحك؟‭ ‬وأى‭ ‬صلاة‭ ‬سيوجهونها‭ ‬للغيم،‭ ‬ولأى‭ ‬سبب؟‭ ‬أهى‭ ‬صلاة‭ ‬استسقاء؟


فى‭ ‬قصة‭ ‬عزت‭ ‬الغزّاوى‭ ‬التفاتة‭ ‬إلى‭ ‬مأساة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬مآسى‭ ‬الفلسطينيين‭: ‬الأسرى‭ ‬فى‭ ‬سجون‭ ‬الاحتلال،‭ ‬وهم‭ ‬اليوم‭ ‬يبلغون‭ ‬4‭,‬400،‭ ‬منهم‭ ‬160‭ ‬طفلًا،‭ ‬أما‭ ‬بطلات‭ ‬القصّة‭ ‬فهن‭ ‬من‭ ‬النساء،‭ ‬إذ‭ ‬للنساء‭ ‬دور‭ ‬بطوليّ‭ ‬ومركزيّ‭ ‬وفاعل‭ ‬فى‭ ‬فلسطين،‭ ‬ويبرز‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬أيضًا‭ ‬فى‭ ‬قصة‭ ‬سهير‭ ‬أبو‭ ‬عقصة‭ ‬داوود،‭ ‬وبطلاتها‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬أيضًا،‭ ‬فالنساء‭ ‬هنّ‭ ‬الأرض‭) ‬تقع‭ ‬أحداث‭ ‬قصة‭ ‬خالد‭ ‬فى‭ ‬يوم‭ ‬الأرض‭(‬ ‬وهن‭ ‬الزيتون‭ ‬المتجذّر‭ ‬فيها‭ (‬تتحوّل‭ ‬تلميذتان‭ ‬فى‭ ‬قصة‭ ‬لزياد‭ ‬خداش‭ ‬إلى‭ ‬شجرتين‭)‬،‭ ‬وهنّ‭ ‬المطر‭ ‬الذى‭ ‬يرويه‭ ‬والحصب‭ ‬الناتج‭ ‬عنه‭ (‬يلعب‭ ‬المطر‭ ‬دورًا‭ ‬مركزيًّا‭ ‬فى‭ ‬قصة‭ ‬سهير‭ ‬أبو‭ ‬عقصة‭ ‬داود‭.‬


أما‭ ‬قصة‭ ‬محمود‭ ‬شقير‭ ‬فهى‭ ‬التفاتة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬مضحكٍ‭ ‬مبكٍ،‭ ‬من‭ ‬المأساة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬يتعلق‭ ‬بدور‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬العاجز،‭ ‬والمحكوم‭ ‬بمصالح‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬وفيتوهاتها‭ ‬فى‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن،‭ ‬فى‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬فلسطين‭ ‬ومأساة‭ ‬الفلسطينيين‭. ‬فى‭ ‬حين‭ ‬تطلعنا‭ ‬قصة‭ ‬إياد‭ ‬البرغوثي،‭ ‬بتكثيف‭ ‬شديد،‭ ‬على‭ ‬نزاع‭ ‬مع‭ ‬الاستعمار‭ ‬يطال‭ ‬لا‭ ‬المساحة‭ ‬المكانية‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬الفضاء‭ ‬الزمانيّ،‭ ‬إذ‭ ‬يصبح‭ ‬الاحتفال‭ ‬بقدوم‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬سببًا‭ ‬آخر‭ ‬لفرض‭ ‬السطوة‭ ‬والمصادرة‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬والتاريخ‭ ‬إلى‭ ‬الفضاء‭ ‬الزمانيّ‭ ‬المجرّد‭ ‬نفسه،‭ ‬مع‭ ‬إشارات‭ ‬ذكيّة‭ ‬إلى‭ ‬أمزجة‭ ‬إنسانية‭ ‬متعارضة‭ ‬ومتباينة‭ ‬يوحّدها‭ ‬الاضطهاد،‭ ‬ويذهب‭ ‬بها‭ ‬باتجاه‭ ‬التضامن‭. ‬


أما‭ ‬قصّة‭ ‬شيخة‭ ‬حليوى‭ ‬فتستكمل‭ ‬رسم‭ ‬دائرة‭ ‬الإنسانيّ‭ ‬وتغلقها‭ ‬على‭ ‬امرأة‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الغيبوبة‭ ‬الخارجية‭ ‬الكاملة،‭ ‬والاستيقاظ‭ ‬الداخليّ،‭ ‬تتأمل‭ ‬العالم‭ ‬المباشر‭: ‬التلفاز،‭ ‬والستارة،‭ ‬والممرضات،‭ ‬وزائريها‭ ‬الذين‭ ‬تقلّصوا،‭ ‬وتشاهد‭ ‬تحوّلاته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحوّلاتهم‭ ‬الشخصيّة‭ ‬البسيطة،‭ ‬إذ‭ ‬يتحوّل‭ ‬جسدها‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬سجن‭ ‬لا‭ ‬خلاص‭ ‬منه،‭ ‬وتتحوّل‭ ‬وقائع‭ ‬غرفة‭ ‬صغيرة‭ ‬فى‭ ‬مستشفى‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬يتغيّر‭ ‬ويتحوّل،‭ ‬ولا‭ ‬سبيل‭ ‬للتواصل‭ ‬معه‭ ‬أو‭ ‬دفعه‭ ‬عن‭ ‬مساره،‭ ‬ملخّصة‭ ‬بذلك،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تقصد،‭ ‬الأفق‭ ‬المسدود‭ ‬لفلسطين‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬ظالم‭ ‬تحكمه‭ ‬القوّة‭. ‬

قد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬فلسطين‭ ‬موجودة‭ ‬على‭ ‬الخارطة‭ ‬الرسميّة‭ ‬للعالم،‭ ‬ولا‭ ‬فى‭ ‬قرارات‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدّة،‭ ‬ولا‭ ‬فى‭ ‬المشاريع‭ ‬المستقبلية‭ ‬للقوى‭ ‬الكبرى‭ ‬ذات‭ ‬المعايير‭ ‬المزدوجة‭ ‬والمنافقة،‭ ‬لكنها‭ ‬موجودة‭ ‬فى‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬يحتفل‭ ‬بالعدل‭ ‬والمساواة‭ ‬كقيم‭ ‬إنسانية‭ ‬عالمية‭ ‬عليا،‭ ‬ويسعى‭ ‬لتحقيقها؛‭ ‬موجودة‭ ‬فى‭ ‬طفل‭ ‬يواجه‭ ‬دبابة‭ ‬المستعمر‭ ‬الإسرائيلى‭ ‬بحجر،‭ ‬ويسميّه‭ ‬العالم‭ ‬المتحضّر‭ ‬إرهابيًّا؛‭ ‬موجودة‭ ‬فى‭ ‬استمراريّة‭ ‬الفلسطينيّين‭ ‬المتصلة‭ ‬بالإنسانية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الفن‭ ‬والأدب.


كما‭ ‬يعبّر‭ ‬عنها‭ ‬شاعر‭ ‬فلسطين‭ ‬الأبرز‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬لا‭ ‬تسألوا‭ ‬الأشجار‭ ‬عن‭ ‬اسمها‭/ ‬لا‭ ‬تسألوا‭ ‬الوديان‭ ‬عن‭ ‬أُمها‭/ ‬من‭ ‬جبهتى‭ ‬ينشق‭ ‬سيف‭ ‬الضياء‭/ ‬ومن‭ ‬يدى‭ ‬ينبع‭ ‬ماء‭ ‬النهر‭/ ‬كل‭ ‬قلوب‭ ‬الناس‭ ‬جنسيتي‭/ ‬فلتسقطوا‭ ‬عنى‭ ‬جواز‭ ‬السفر؛‮»‬
وكما‭ ‬يعبّر‭ ‬عنها‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭. ‬
أهلًا‭ ‬بكم‭ ‬فى‭ ‬فلسطين‭.‬

هشام‭ ‬البستانى‭ ‬هو‭ ‬كاتب‭ ‬من‭ ‬الأردن،‭ ‬يكتب‭ ‬القصّة‭ ‬والشّعر‭ ‬والمقالة،‭ ‬والأشكال‭ ‬الهجينة‭ ‬والمُولَّدة،‭ ‬صدر‭ ‬له‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬خمسة‭ ‬كتب‭ ‬هى‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬والموت‭ (‬الفارابي،‭ ‬2008‭)‬،‭ ‬الفوضى‭ ‬الرتيبة‭ ‬للوجود‭ (‬الفارابي،‭ ‬2010‭)‬،‭ ‬أرى‭ ‬المعنى‭ (‬الآداب،‭ ‬2012‭) ‬مقدّماتٌ‭ ‬لا‭ ‬بدَّ‭ ‬منها‭ ‬لفناءٍ‭ ‬مؤجّل‭ (‬العين،‭ ‬2014‭)‬،‭ ‬وآخرها‭ ‬شهيقٌ‭ ‬طويلٌ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتهى‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭ (‬الكتب‭ ‬خان،‭ ‬2018‭)‬؛‭ ‬وصدر‭ ‬له‭ ‬فى‭ ‬الفكر‭ ‬السياسيّ‭ ‬كتاب‭ ‬الكيانات‭ ‬الوظيفيّة‭: ‬حدود‭ ‬الممارسة‭ ‬السياسيّة‭ ‬فى‭ ‬المنطقة‭ ‬العربيّة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الاستعمار‭ (‬مجلّدان،‭ ‬المؤسسة‭ ‬العربيّة‭ ‬للدراسات‭ ‬والنشر،‭ ‬2021‭). ‬وصِف‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬فى‭ ‬طليعة‭ ‬جيل‭ ‬غضب‭ ‬عربى‭ ‬جديد،‭ ‬رابطًا‭ ‬بين‭ ‬حداثة‭ ‬أدبيّة‭ ‬لا‭ ‬تحدّها‭ ‬حدود،‭ ‬وبين‭ ‬رؤية‭ ‬تغييريّة‭ ‬جذريّة‮»‬‭. ‬تُرجمت‭ ‬قصصه‭ ‬ونصوصه‭ ‬الشعريّة‭ ‬إلى‭ ‬لغات‭ ‬عدّة،‭ ‬نُشرت‭ ‬الإنجليزيّة‭ ‬منها‭ ‬فى‭ ‬دوريّات‭ ‬بارزة‭ ‬فى‭ ‬الولايات‭ ‬المتّحدة،‭ ‬وبريطانيا،‭ ‬وكندا‭. ‬اختارته‭ ‬مجلة‭ ‬ذى‭ ‬كلتشر‭ ‬ترِب‭ ‬البريطانية‭ ‬عام‭ ‬2013‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬ستّة‭ ‬كتّاب‭ ‬معاصرين‭ ‬من‭ ‬الأردن‭. ‬حاز‭ ‬كتابه‭ ‬أرى‭ ‬المعنى‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬جامعة‭ ‬آركنسو‭ ‬للأدب‭ ‬العربيّ‭ ‬وترجمته،‭ ‬وصدر‭ ‬بنسخة‭ ‬ثنائيّة‭ ‬اللغة‭ (‬إنجليزيّة‭ ‬–‭ ‬عربيّة‭) ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬The Perception of Meaningعام‭ ‬2015‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬نشر‭ ‬جامعة‭ ‬سيراكيوز‭ ‬فى‭ ‬نيويورك‭. ‬أدرجت‭ ‬إحدى‭ ‬قصصه‭ ‬فى‭ ‬أنطولوجيا‭ ‬أفضل‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة‭ ‬الآسيويّة‭ ‬لعام‭ ‬2017،‭ ‬واختير‭ ‬محرّرًا‭ ‬لنفس‭ ‬الأنطولوجيا‭ ‬فى‭ ‬نسختها‭ ‬لعام‭ ‬2019؛‭ ‬وهو‭ ‬أيضًا‭ ‬محرّر‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬فى‭ ‬مجلّة‭ ‬ذى‭ ‬كومون‭ ‬الأدبيّة‭ ‬الأميركيّة‭ ‬التى‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬جامعة‭ ‬آمهيرست،‭ ‬وحائز‭ ‬على‭ ‬زمالة‭ ‬الإقامة‭ ‬الأدبيّة‭ ‬التى‭ ‬تقدّمها‭ ‬مؤسّسة‭ ‬روكفلر‭ ‬الأمريكيّة‭ ‬فى‭ ‬مركزها‭ ‬فى‭ ‬بيلّاجيو‭ ‬–‭ ‬إيطاليا‭. ‬صدرت‭ ‬الترجمة‭ ‬الإنجليزيّة‭ ‬لكتابه‭ ‬الفوضى‭ ‬الرّتيبة‭ ‬للوجود‭ ‬الشهر‭ ‬الماضى‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬ميسون‭ ‬جار‭ ‬برس‭ ‬فى‭ ‬بالتيمور،‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭.‬

اقرأ ايضا | شاهد أثر الأولياء فى مجلة «الثقافة الجديدة»