حكايات| أوقاف النساء في مصر«3»..قصص المصريات صاحبات الذكاء والألقاب

أوقاف النساء
أوقاف النساء

بقلم: ثناء رستم

عندما وصفت المرأة المصرية بأنها الصبورة القوية، سند زوجها وأولادها، الحمولة القوية، لم تكن هناك مبالغة فى تلك الأوصاف، فما تحملته السيدة هاجر فى الوادى المقفر الذى حولته بصبرها إلى واحة بفضل الله كان وراءه حكمة إلهية، فقد اختارها الله مصرية لأنها قادرة على التحمل، وصبورة ومتوكلة على الله كأم موسى عليه السلام، وملكة عظيمة مثل حتشبسوت، وشجاعة مثل شجرة الدر. هكذا تراكمت جينات القوة لتصنع شخصية فريدة من نوعها مازلنا نراها حتى الآن، ورافقها مع كل تلك الصفات الذكاء وهى السمة التى نلمحها بكل وضوح فى وثائق وحجج أوقاف النساء التاريخية.

لقد كانت المرأة المصرية شديدة الدقة فى تدبير أمور ثروتها وأملاكها، فلم تكتف بتحديد أوجه الانتفاع بها فقط، ولكنها حددت وبدقة كيفية إدارتها والإشراف عليها وصيانتها من بعدها وحتى مئات السنين.

 

 

ونجد فى وثيقة وقف السيدة زينب قادن التى أوقفتها بتاريخ العاشر من ذى القعدة عام 1286 هجرية، كل ما يظهر طبيعة المرأة الدقيقة التى لا تغفل عن التفاصيل، فقد شترطت فى وقفها أنه تنتفع به فى أيام حياتها، وبما شاءت منه سكنا وإسكانا وغلة واستغلالا، بسائر وجوه الانتفاعات الشرعية الوقفية أبدا ما عاشت، ودائما ما بقيت، من غير مشارك لها فى ذلك ولا منازع ولا رافع ليدها عن ذلك، ولا مدافع مدة حياتها، ثم تحدد المرأة من سينتفع بالوقف، حتى تصل إلى نقطة شديدة الأهمية عن كيفية إدارة الوقف بعد وفاتها.

 

فتشترط الواقفة، أن الناظر على ذلك والولاية عليه بتاريخه أدناه للمصونة زينب خاتون ثم من بعدها يكون النظر على ذلك والولاية عليه، للأرشد فالأرشد من الموقوف عليهم، من كل طبقة  مستحقة لذلك على حسب ترتيب طباقاتهم، وألزمت السيدة صاحبة الوقف على كل من يتولى انظارة عمائرهاب بالعمل أولا، وقبل كل شيء على استمرار عين الوقف، وذلك بتوجيه مصروفات الريع إلى عمارته وترميمه، ولو استنفد ذلك كل الريع بما فيه المستحقون من الوقف، ذلك لأن الإهمال الذى قد  يدب إلى عين الوقف قد يؤدى إلى انهيار العين.

والمرأة المصرية تتمتع دائما ببعد نظر وحصافة بدت واضحة من كل الاحتياطات التى اتخذتها لأنها قد تضطر إلى إدخال أشخاص جدد فى الوقف أو إخراج آخرين اكتشفت فى حياتها أنهم لا يستحقون أن يكونوا من ورثتها، ونجد ذلك الشرط موجودا فى وقف السيدة فاطمة خاتون بتاريخ السادس من شهر محرم عام 1214 هجرية فجاء فيها اأشهدت على نفسها فخر المخدرات، المصونة، الشريفة فاطمة خاتون، بما لها من شرط الإدخال والإخراج فى وقفها المذكور، أدخلت كل من بنت عمها الشريفة صفية خاتون وبنت ابنة الشريفة فاطمة وجعلتهما مستحقين مع المستحقين، فى الوقف المذكور، وأخرجت من وقفها المذكور أولاد المرحوم إسماعيل أفندى وأولادهم وذريتهم، وأبعدتهم عن وقفها.

وكشفت وثائق أوقاف النساء عن طبيعة المجتمع المصرى وطبقاته الاجتماعية من خلال الألقاب التى كانت تتبع اسمها بدقة شديدة، ولم تكن تكتب بشكل عشوائى أو غير مستحق لصاحبته وهو أمر كان يشبه القانون الذى حدده ما كان يعرف بـديوان الإنشاء، وهو من أهم دواوين الدولة الإسلامية، إذ كان يتولى المكاتبات الرسمية بين الخلفاء وولاتهم، فى الولايات والأقاليم، لاسيما منذ الدولة العباسية، وظهرت أهمية هذا الديوان فى مصر منذ زمن الدولة الفاطمية، التى اتخذت القاهرة عاصمة لها لتنافس الخلافة العباسية فى بغداد، وقام ديوان الإنشاء فى مصر منذ الدولة الفاطمية بدور هام، ليس فى ميدان المكاتبات الرسمية فحسب، بل وفى تنظيم الألقاب الرسمية التى شاع استخدامها بزمن الفاطميين، وبلغ ديوان الإنشاء أوج مجده فى عهد دولة المماليك، لا سيما فى ميدان النظم والتقاليد الخاصة بإصدار الألقاب لكل من الرجال والنساء على حد سواء، وغدت المراسيم والدساتير التى يصدرها ديوان الإنشاء ذات قواعد دقيقة، من حيث مراعاتها واتباعها فى مخاطبة الرجال والنساء، كل على حسب منزلتهم فى المجتمع.

ويوضح الدكتور حسن الباشا فى كتابه االألقاب الإسلامية فى التاريخ والوثائق والآثارب، أن الدساتير الصادرة عن ديوان الإنشاء، لا سيما منذ العصر المملوكى، تشير إلى أن االألقاب الأصولب هى التى تأتى فى أول قائمة الألقاب، ومن شأن الألقاب الأصول تحديد طبقة الملقب من علو وهبوط، والألقاب أو الفروع فضلا عن النعوت أى الصفات التى جرى إغداقها على المرأة إشادة بجمالها وخصالها أو لسمة معينة اشتهرت بها فى الأوساط المحيطة بها.

وبسبب ذلك التحديد الدقيق لمسألة ألقاب المرأة، أصبح من الممكن أن نتعرف بسهولة على طبقة السيدة صاحبة الوقف من الألقاب التى تلى اسمها، وتصدر لقب افخر المخدراتب المرتبة الأولى التى تدل على أن صاحبة اللقب فى أعلى درجات الطبقة الأجتماعية واعتزازا وتكريما لها وهو اللقب الذى تصدر قائمة الألقاب الأصول وكذلك الفروع التى تسيق الاسم العلم للمرأة، والمعنى فى اللقب أنها مستترة فى بيتها على نحو ما يقال فى اللغة إن الغابة اخدر الأسدب أى بها يستر الأسد.

ورغم أن اللقب يبدو طريفا الآن من تشابهه مع المخدرات، وهو أمر سيئ فإنه كان أرفع ألقاب المرأة ودليلاً على علو مكانتها الاجتماعية ودائما ما يتبعها عدد من الألقاب المكملة لتلك المكانة، فيكتب، فخر المخدرات وتاج المستورات، ذات الحجاب الرفيع والستر الحصين المنيع والست المصونة والجوهرة المكنونة الست ازينب قادن بنت عبد الله، المعروفة بزوجة خشدانها مولانا الأمير عثمان بيكب.

وانحصرت تلك الألقاب فى بنات الطبقة العليا وحدها ولم يكن ممكنا أن تحمل سيدة من طبقة أقل تلك الألقاب، فكل طبقة كانت لها ألقابها وأوصافها، فعلى سبيل المثال سقطت من حجة وقف الست عائشة بنت عبدالله بعض الألقاب، فجاء فى وقفها افخر المخدرات وتاج المستورات، ذات الحجاب الرفيع والستر المنيع الست عائشة بنت عبدالله البيضا معتوقة المرحوم الجناب العالى الأمير كتخدا مستحفظان، المعروفة بزوجة الجناب العالى الأمير حسن كتخداب، وسقط من مجموعة الألقاب االحصين والست المصونة والجوهرة المكنونةب، ويبدو أن السبب هو أن صاحبة هذا اللقب وإن كانت من الطبقة العليا إلا أنها لم تكن من المرموقات فيها.

وفى وثيقة أخرى يوضح أصول السيدة صاحبة الوقف، فيذكر فيها الجركسية الجنس، وجاء فيها: افخر المخدرات وتاج المستورات، ذات الحجاب الرفيع والستر المنيع، الست المصونة، خديجة خاتون بنت عبدالله البيضا الجركسية الجنس معتوقة المرحوم الأمير الحاج عبدالرحمن كتخداب. ونلاحظ أيضا لقب البيضا (البيضاء) وكانت سمة مميزة للنساء تضاف إلى قائمة ألقابها، وكان هناك وثائق توصف فيها المرأة بالسمرا (السمراء) دلالة على لون بشرتها الذى يميزها، كما جاء فى وثيقة المصونة حليمة خاتون السمرا.

أما وثيقة وقف زينب هانم بتاريخ الثامن عشر من شهر شوال عام 1184 هجرية، فيختفى منها لقب فخر المخدرات دلالة على أن صاحبة تلك الوثيقة ليست من نساء الطبقة العليا.

وتحمل وثيقة جلسن خاتون بتاريخ الخامس عشر من شوال عام 1189 هجرية لقبا جديدا يدل على مكانة اجتماعية ودينية وهو لقب الشريفة، وهو مشتق من الشرف، ويؤكد أنها تنتسب إلى طائفة الأشراف أى يعود نسبها إلى الحسن والحسين رضى الله عنهما، أى أنها من آل البيت الكرام، كما جاء فى ألقاب المرأة االحاجةب وكان يطلق على المرأة التى أدت فريضة الحج فعليا وليس كما يستخدم الآن من إطلاقه على أى سيدة متقدمة فى العمر.

وجاء فى وثيقة آمنة خاتون بتاريخ الخامس عشر من شهر جمادى الأول 1202 هجرية بأنها المصونة الحاجة آمنة، حيث كانت تعتبر تأدية فريضة الحج من دواعى الاعتزاز لمن قامت بتأديتها، وأكدت الوثائق على ذكر سيدات يعتبرن من الطبقة الوسطى وتنتمى أصولهن إلى طبقة كبار الحرفيين وتنتمى أيضا إلى طبقة الأشراف مثلما جاء فى وثيقة وقف االشريفة صايمة بنت عبدالرحيمب بتاريخ 19 من ربيع الثانى عام 1168 هجرية، وجاء فيها أنها ابنة المرحوم المير عبد الرحيم شيخ طائفة الخياطين، ووضحت الوثيقة الطبقة التى تنتمى إليها بمجرد ذكر ألقابها المختصرة، وهو أمر يدل أيضا على أن رؤساء الطوائف من الحرفيين كانوا يحتلون مكانة عالية فى المجتمع وبالتالى نساؤهن.

وتم ذكر وصف خاص جدا لسيدة ضريرة الحرمة لطيفة البصيرة بقلبها، وهو من ألقاب الفروع التى شاع استخدامها فى العصر العثمانى ويحمل تكريما واضحا للمرأة، لا يمس صفة تلازمها ولا يجرح شعورها عند ضرورة توصيف حالتها فى كتابة وثيقة الوقف، كما جاء وصف المرأة االنقيةب فى العصر المملوكى ليدل على أن السيدة صاحبة اللقب من النساء الصالحات التى تنتمى لأب أو زوج أو أسرة من رجال الدين، أو تكون هى نفسها من العالمات فى الحديث فتوصف من ضمن ألقابها بالنقية.

وبعد أن اهتمت المرأة بكل التفاصيل الدقيقة التى وضعتها فى وثيقة الوقف، انطلقت لتملأ الدنيا بأعمالها الطيبة الخيرة التى حملت فيها هموم عائلتها من بعدها والمحتاجين والفقراء فأنشأت أشهر أوقاف الخير التى عرفت بأوقاف المياه أو عمائر المياه.