دبلوماسية خطوط الطيران.. محددات وضوابط

د. أحمد فؤاد أنور
د. أحمد فؤاد أنور

كتب: د. أحمد فؤاد أنور

من يتابع خروج الاتفاق بشأن تسيير خط طيران مباشر من مطار بن جوريون إلى مطار شرم الشيخ، إلى حيز التنفيذ بدء من اليوم الأحد، سيجد أوجه تشابكات سياسية واقتصادية وأمنية عديدة وربما تناقضات أشبه بحال تقلبات شركة العال الإسرائيلية التي تعد طرفا أساسيا في الاتفاق وتطبق منذ سنوات شعار الأمر ونقيضه على مستويات منها: الالتزام بالتعاليم الدينية اليهودية المتعلقة بحظر الطيران يوم السبت وتقديم وجبات مطابقة للشريعة اليهودية فقط، حيث يتم التحايل على هذا بتأجير حق الانتفاع للطائرات وأطقم تشغيلها بالكامل يوم السبت لشركات إسرائيلية أخرى! المراوحة بين نقيضين والتحايل ينطبق أيضا على ملكية الشركة فهي في الأساس شركة حكومية ساهمت في جلب هجرات جماعية ضخمة من أبرزها هجرة يهود الاتحاد السوفيتي السابق، ويهود أثيوبيا.. لكن مع حلول عام 2003 تم خصصتها تدريجيا بطرح أسهمها للبيع في بورصة تل أبيب ومنذ عام 2005 امتلكها رجل أعمال يهودي متدين نصف أمريكي.. لكن بعد خسائر جائحة الكورونا تقرر أن تعود الحكومة الإسرائيلية وتشترى معظم الأسهم، وهو ما لم يتم تنفيذه حتى الآن حيث اكتفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بشراء 15 % فقط من الأسهم.

مناسبة الحديث هو تبلور واضح إقليميا لما يمكن أن نطلق عليه (دبلوماسية خطوط الطيران) بين إسرائيل والمغرب والإمارات والبحرين والسعودية التي تسمح بعبور أجوائها للطيران القادم من خارج إسرائيل.. على غرار (الدبلوماسية الشعبية) سيئة السمعة مؤخرا، و(دبلوماسية البنج بونج) الشهيرة بين الولايات المتحدة والصين. فبعد الأزمة بين قطر والرباعي العربي كان من بين الاجراءات منع الطيران من عبور الأجواء الخاصة بالدول الأربعة، ومع تجاوز الأزمة تم استئناف الرحلات بشكل طبيعي.. وقبل ذلك قام الرئيس الأسبق حسني مبارك بإرسال نجليه مع عدد من السياسيين الرسميين إلى ليبيا لتفعيل مصالحة تضمنت تدشين خط طيران. وفي المقابل تم مؤخرا التخلي عن تنظيم رحلات طيران بين القاهرة وتل أبيب من خلال شركة تابعة لمصر للطيران والسماح برحلات من خلال مصر للطيران ذاتها.. وهو ما أعقبه اتفاق على تدشين خط بين تل أبيب وشرم الشيخ واكب حلول الأعياد اليهودية من ناحية وعدم ادراج مصر وزيارة سيناء تحديدا ضمن البقاع الخطرة التي دأب مكتب محاربة الإرهاب التابع لرئاسة الوزراء الإسرائيلي على التحذير من زيارتها.

الرحلة بين مطار بن جوريون الواقع في منتصف المسافة تقريبا بين تل أبيب والقدس ومطار شرم الشيخ تستغرق 50 دقيقة وتم فتح باب الحجز للتذاكر عبر شركتي (ارقيع) التي تسير رحلات ثابتة وشارتر إلى 16 دولة شرق أوسطية وأوروبية، و(يسرائير) تُسيّر رحلات ثابتة داخلية وموسمية خارجية قريبة، بجانب العال التي تستعد بدورها بعد الحصول على التأشيرات والموافقات التنفيذية المطلوبة بالفعل، ومن المؤكد أن إسرائيل قدمت في المقابل معاملة بالمثل تتمثل في السماح لمصر للطيران بتشغيل خط طيران موازٍ، وفي حين تم ابراز الاتفاق على تدشين الخط في الإعلام الإسرائيلي على أن حدث فريد حيث تعود طائرات إسرائيلية مدنية هذه المرة للهبوط في شرم الشيخ بعد أن ظلت مقاتلات تهبط فيها خلال سنوات الاحتلال حتى تحريرها مع كل سيناء. والملاحظ أن الإعلام الإسرائيلي وبالطبع أعضاء الحكومة الإسرائيلية تجاهلوا ذكر المقابل السياسي الذي قدمته الحكومة الإسرائيلية لمصر.. وأبدى قلقه من تكلفة عالية للتأمين بتمويل من الحكومة الإسرائيلية، ومن تكرار تجربة البحرين التي تشغل شركتها الونية فق على الخط المباشر الذي تم تدشينه بين البحرين وإسرائيل. ويبدو أنه بالنسبة لمصر فإن رأس جبل الجليد يمكن توقعه على عدة ملفات منها ما يتعلق بضبط الحدود وتسهيلات للطائرات المقاتلة المصرية بتجاوز المجال الجوي المصري واختراق المجال الجوي الإسرائيلي لمباغتة عناصر إرهابية داخل جحورها في سيناء حيث لا تتوقع أن يتم مهاجمتها من الجانب الإسرائيلي.. وهو ما تم الكشف عنه رسميا عبر تصريح للقيادة السياسية المصرية التي نجحت أيضا في ترجمة الاتفاق الشفهي الضمني القاضي بتعليق بنود في الملحق الأمني لاتفاقية السلام تتعلق بحجم وتسليح القوات المصرية في المناطق أ ، ب، ج. حيث تم الإعلان عن تحويل الاتفاق الشفهي لاتفاق مكتوب تم التوقيع عليه بالفعل بواسطة خبراء من الطرفين.

وبعيدا عن السماء وعلى الأرض يجد المراقب أن هناك خطوطا تتيح منذ سنوات الطيران من إسرائيل إلى شرم الشيخ، لكنها ليست مباشرة وأشهرها الخطوط الجوية التركية والأردنية. مع الوضع في الاعتبار تجربة فاشلة داخليا لتسيير خط بين بن جوريون وإيلات. وارتفاع غير مبرر لأسعار التذاكر المطروحة للرحلات بين مطار بن جوريون ومطار شرم الشيخ.. حيث تستغرق الرحلة 50 دقيقة فقط ومع هذا تتجاوز الأسعار 800 دولار وهو ما قد يعادل سعر رحلة من إسرائيل إلى الولايات المتحدة، مع ملاحظة أن حجم العمل تضاعف بينما العمالة لا تزال متقلصة منذ فترة الركود المواكب لتفشى جائحة الكورونا مما سينعكس بالتأكيد على مستوى الخدمة!!

تركيبة الركاب المستهدفين على هذا النحو ستكون في الأغلب سكان شمال تل أبيب حيث يتركز الأثرياء ذوو الخلفية العلمانية. وهو ما قد يتغير إذا ما تم تدشين خط آخر بين حيفا وشرم الشيخ حيث سيتدفق من المدينة التي يعيش فيها فلسطيني ال48 مع اليهود، وكذلك من مدينة الناصرة القريبة وعدد من التجمعات السكنية لفلسطينيي ال48 في الجليل أعداد كبيرة خاصة وأن المسافة أمام الرحلات البرية كبديل للطيران تكون أطول وأكثر ارهاقا.. مما يمنح الرحلات المباشرة جاذبية أكثر.    

 البعد السياسي في دبلوماسية خطوط الطيران التي يمكن وضع العراقيل بالطبع أمامها أمنية وإدارية في أي وقت.. إذا تم التراجع عن اتفاقات أو التزامات من الجانب الإسرائيلي مرتبط كذلك بجوانب اقتصادية منها معاناة شرم الشيخ وقطاع السياحة في مصر من ضربات موجعة متتالية خارجة عن الإرادة فبعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو استمر قطع السياحة عن مصر لفترة طويلة لأسباب سياسية (عن طريق وقف خطوط الطيران المباشر مع روسيا)، وحين تم تجاوز الأزمات حلت جائحة كورونا، وحين بدأ التعافي حلت فورا الأزمة الأوكرانية وما ترتب عليها من قطع للسياحة من أوكرانيا ومن روسيا بالطبع.

 

في الختام يجب أن يكون واضحا أن كثير من أوراق وتفاصيل التفاوض بين الجانب العربي في شرم الشيخ ثم النقب لم تظهر للعلن بعد.. وأن دبلوماسية خطوط الطيران في جميع الأحوال لا تستطيع اغفال العمل على إحياء التفاوض الإسرائيلي الفلسطيني وضرورة الكف عن انتهاك المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس وستتأثر بالتالي بأي تصعيد أو أزمات واسعة النطاق والعكس صحيح.