رائحة دمياط الطيبة

رائحة  دمياط الطيبة
رائحة دمياط الطيبة

زمان، عندما كان يدخل علينا شهر رمضان بخيره وبهجته كنا نستعد له بتعليق الزينات حيث يتعاون شباب الحى فى عمل فانوس كبير، ولما كانت بلدنا تشتهر بالنجارة فقد كان يُصنعُ من قطع خشبية مع شفاف ملون، وبداخله مصباح موصول ببيت قريب، فلا يُضاء النور إلا قرب المغرب ويظل مضيئاً حتى السحور.
تغيرت أمور كثيرة، منها أن الجيل الجديد لم يعد يستقبل رمضان بنفس الحماس، والمدافع التى كانت تصوب فوهتها ناحية قرية «السنانية» حيث النخيل الكثيف وأشجار الجوافة لم تعد تطلق عبواتها فترتج الأرض من تحت أقدامنا.

أتصور أن ظهور التقنيات الحديثة قد استولت على ألباب الصبية والشباب، وباتوا أقرب ما يكونون لنماذج مختلفة فى الفكر والسلوك. حتى الورش التى كانت تسهر حتى الصباح باتت تُغلق أبوابها بعد انتشار حالة الكساد فى المهنة الرئيسية وهى إنتاج حجرات السفرة والنوم والصالون.

كذلك فإن أنماط الحياة اختلفت تماماً فلم يعد الشباب يلعبون كرة الشراب حتى سماع صوت الأذان، وبدلاً من ذلك نراهم يقضون أوقاتهم فى مشاهدة مسلسلات التليفزيون. إضافة إلى ذلك فإن إلغاء مولد أبوالمعاطى منذ أيام الدكتور أحمد جويلى قد خلع عن الناس هذا الغطاء الروحى الذى كان يدفعهم لزيارة المكان وقضاء وقت ممتع فى رحاب جامع قديم هو «عمرو بن العاص» الذى يعد ثانى مسجد بنى فى إفريقيا، لقد تمت صيانته وإعادة افتتاحه فى عهد الوزير زاهى حواس وهو من قرية «العبيدية» فى قرب فارسكور.

عن موضوع إلغاء مولد أبوالمعاطى كتب محمد أبوالعلا السلامونى مسرحية تهاجم القرار باعتباره طقساً شعبياً تُؤدى فيه كافة فنون الفرجة التى ذكرها الدكتور على الراعى فى مقالاته عن فن المسرح.

يعود رمضان إذن وقد اختفت بعض المظاهر، فلم يعد هناك مسحراتى يمر على البيوت ليطرق الباب ويذكر اسم رب العائلة وأولاده، وهو نفس الشخص الذى يسوق حماره فى أول يوم عيد ليحصل على أجره مع نصيب معلوم من الكعك والبسكويت.

وبسبب الغلاء فإن أسواق الياميش انحسرت ولم يعد الإقبال عليها كاسحاً بل باتت مقتصرة على الأغنياء دون سواهم، وهنا يتردد المثل الشعبى: «نصف الفطرة خروب» أى أن اللوز والجوز وعين الجمل والبندق أصناف غير مطلوبة. يمكننا كذلك رصد بعض التحولات فالأسر فى مدينتنا الشغالة والتى لا تعرف الراحة لم تعد لفكرة التزاور وتبادل الأطباق فهى أمور مكلفة وإن حدثت فهذا يقتصر على شرائح ثرية، لا تمر بالضائقة الاقتصادية.

كان من عادة الأسر الذهاب إلى مصيف رأس البر، وتناول طعام الإفطار قرب شاطئ البحر المتوسط، أو داخل الكازينوهات المطلة على النيل «الجربى» ونلاحظ أن رب الأسرة يفعل ذلك مرة أو مرتين فى الشهر الفضيل حتى يحافظ على الميزانية.

وأشير إلى أنه تأتينى دعوة فى نفس الشهر من كنيسة الروم الأرثوذكس للإفطار وأحياناً للسحور. فكاهن الكنيسة الأب بندلامون كان طالباً عندى فى المرحلة الابتدائية وهو يصر فى كل عام على دعوتى التى ألبيها عن طيب خاطر.

وأحب أن أسجل هنا أن جيل الشباب يستغلون هذا الشهر فى زيارات متكررة للمدن الساحلية للاستمتاع بالبحر أو الحدائق وتناول إفطارهم بشكل جماعى فى مدن بورسعيد، جمصة، الإسكندرية، والعودة بعد السحور.

هناك شعيرة مازالت قائمة هى أن بعض الأسر المنحدرة من قرى قريبة من العاصمة دمياط مثل الشعراء والمنية والسيالة وطبل والشيخ ضرغام ينظمون مآدب قرب النهر، ثم ينطلقون فى لنشات للتمتع بصفاء السماء وهو ما يقل فى مواسم الشتاء دون غيرها.

ولو وقع رمضان فى فصل الخريف تكون هناك فرصة مهيأة لطهى الطيور المهاجرة مثل البلبول والشرشير والخضير، وغيره. وهو يباع فى مدينتنا بــ«التورة» التى تعنى أربعة «طيور». وبالرغم من أن تناول طعام السمك غير محبب فإن الأسبوعين يشهدان إقبالاً على «السوق الكبير» لاختيار سمك البورى أو السهيلى أو الطوبارة لتمليحه وتناوله أول يوم عيد (يسمى العيد الصغير).

الزيجات تعقد فى أول أو ثانى أو ثالث يوم العيد، وتقوم فرق موسيقية بالزفة الدمياطى وهناك أكثر من 15 فرقة لهذا الغرض مع المزمار البلدى والقربة ورقصة الحصان وأيضاً التنورة.

يتهم بعض المغرضين الدمايطة بالبخل، ولو أنك مررت بشوارع المدينة أول يوم رمضان فسوف تطاردك الرائحة الطيبة لطبخة البط المرجان المحشوة «بالمُرتة».
ـ تعالى مد إيدك. ودى مش عزومة مراكبية.

سألنى محمد المنسى قنديل مرة وكنت أصحبه فى أحد شوارع دمياط: هل الدمايطة بخلاء؟ 
 قلت له على الفور: أنا بخيل لكن عليك سؤال كل المارين لتصل إلى نتيجة مرضية. رمضان كريم.

اقرأ ايضا | الاستغناء عن الطبلة وإفلات القطة