طقوس مختلفة: الاستغناء عن الطبلة وإفلات القطة

الاستغناء عن الطبلة وإفلات القطة!
الاستغناء عن الطبلة وإفلات القطة!

يُحكَى أنَّ قِطة كانت تضايق التلاميذ الرهبان وهم يتأمَّلون فى أحد أديرة التِبت البوذية، فأمرَ المُعلّم بربطها خلال التأمُّل بحبل طويل يسمح لها بالحركة فى مساحة محدودة. مضت السنوات وظلَّ رهبان ذلك الدير يحرصون على جَلب قطٍ ما وربطه بحبل طويل فى أوقات التأمُّل، وربما كُتبَت المجلدات فى تفسير دلالة ومغزى ذلك القط المربوط. هذه حكاية رمزية، وأغلب الظن أنها لم تحدث من الأصل. 


فى رمضان أو فى غير رمضان، أشياء كثيرة تمضى بقوة العادة، الطقس نفسه لا يستمد وجوده من قوة الإيمان بل مِن حُكْم العادة وقوة التكرار. الطقس شىءٌ رمزى، وتكراره بلا معنى فى حد ذاته، إلَّا لتشكيل علاقتنا بالزَمن وتلوين دوراته كما تتلون الحقول مع تغير الفصول. وكثيرًا ما تُنسَى الدلالات الأصلية (العتيقة) للطقس ويبقى هو مُعلّقًا فى الفراغ، مثل قطة مربوطة بلا ذنب، مهما اجتهد الكثيرون فى استعادة القيم القديمة للمُناسَبة وتجديد التذكير بأصل الحكاية. 


تاريخنا الوجدانى مع الطقوس والرموز هو ما يمنحها الجزء الأكبر من سطوتها الروحية علينا كأفراد. فى كل مرة يتجدّد الطقس تتلاعب صورُ الماضى بما يحدث الآن فى الحاضر، تحاول أن تشكّلها لصالحها. بلا طائل فى الواقع، فالمذاق القديم مفقود، ونسائم الرحمة السارية فى الحارات الضيقة قبيل انطلاق مدفع الإفطار مجرَّد ذكرى لا سبيل للتأكُّد من أنها مرّت من هنا ذات يوم.

وسَيل المسلسلات الهادر فى مولد الدراما الرمضانية السنوى لن يعوِّضنا الإحساسَ بموسيقى تتر مسلسل واحد من تلك التى كبرنا عليها، ليس لتفوُّقها وفرادتها بالمرة، بل فقط لأنها صاحبتنا فى رحلة الاعتياد والألفة وتكوين الذكريات، رحلة إنتاج نسخنا الشخصية من الزمان، وعَيش حصّتنا الفردية من الطقس الجماعى. 


انتهى زمن المسلسل الواحد والقنوات الثلاث. ربما ترحّم بعض أهلنا قديمًا على زمان الراديو وألف ليلة وليلة بصوت زوزو نبيل التى كانت تَسْبح بهم فى ملكوت الخيال، كما يترحّم بعضنا الآن على فوازير نيللى وشيريهان وسمير غانم، تلك طبائع الأمور. لعلَّ العنصر الجديد أن التغيّر صارَ أسرع مِن أى وقت سابق. ويتقادمُ كلٌّ شىء بسرعة غير معقولة كأنَّ الفن انضمّ إلى شريط الأخبار على الشاشات. والوفرة نِعمة ونَقمة، خصوصًا فى الفن. لكل إنسان الآن الحق فى أن يشاهِد ما يشاء وقتما يشاء، صحيح من بين مجموعة خيارات محدودة، لكنَّ زَمن لمة العائلة حول ليالى الحلمية ورأفت الهجان انتهى بلا رجعة وبلا أمل فى رجوع، وربما بلا جدوى من الرجوع. 


ومع ذلك، علينا أن ننتبه وألَّا نُبالِغ فى تقدير الماضى وألّا نُضفى عليه ألوانًا لم تكن فيه، بتأثيرٍ من ضعفنا أمامَ صورنا القديمة، أو ما يسمَّى بمعاناة الحنين إلى الأمس. أصبحت النوستالجيا صَرْعة منذ بضع سنين، وخصوصًا مع سهولة تخزين واستدعاء مواد فنية قديمة عبر شبكة الإنترنت، وصار يتم استغلالها تجاريًا وفنيًا، وسرعان ما امتدَّ الحنين من حُقَب بعيدة نسبيًا إلى حُقب أقرب، حتَّى صارت الثمانينيات هى الأربعينيات الجديدة، فقط لأنها ابتعدت بما يكفى لكى تلتف فى غلالة الغموض المبللة بالشهد والدموع. 


حتَّى لو لم تحل مفردات جديدة محلَّ رموز الماضى وطقوسه فلا بأس، هذه ليست مشكلتنا، نحن أصلًا ننتمى إلى فصيلة على وشك الانقراض، وإذا كان الوافدون الجدد إلى هذا العالَم غير راغبين فى خلق طقوس جماعية ترتبط بثلاثين يومٍ فى كل عام، فهذا شأنهم وهُم أحرار، وكذلك الأمر إن قرروا ابتكار بدائل تخصهم، المهم أن نتنحّى جانبًا بلا مزيد من الدموع على بوجى وطمطم أو حتَّى الصغير بكَّار الذى انضمَّ متأخرًا للغاية إلى رَكب النوستالجيا، لكى يقف فى الطابور الطويل جنبًا إلى جنب الفوانيس المعدنية ذات الشموع وزينة رمضان والمسحراتى، إلى آخر الموتيفات التى تحرص القنوات الفضائية على استخدامها شعارًا لها خلال الشهر الكريم، فى فواصل قصيرة بين فواصل أطول من الإعلانات وفواصل أصغر كثيرًا من المسلسلات والبرامج. 


أتذكّر الآن مشهدًا مِن مسلسل جديد نسبيًا ولا ينتمى لحقبة الدراما الذهبية حيث نازك السلحدار وحسن أرابيسك، هو رمضان كريم (إنتاج 2017)، حينَ يصر العم رمضان (سيد رجب) على القيام بطقس المسحراتى فى منطقته كل سنة باعتبارها عادة مبارَكة ومحمودة ومن المستحيل أن يستغنى عنها، وهو الموظف الحكومى المحترم، على الرغم من أن الجميع مستيقظون فلا أحد ينام مبكراً ويحتاج لمن يوقظه قبيل الفجر ليتسحَّر. كان الإمساك بهذه المفارقة نقطة جيدة فى المسلسل الخفيف الظريف والذى ربما يأتى يومٌ ليس ببعيد يقول فيه بعض الناس: «ياه، فين أيام مسلسل رمضان كريم والحاجات الحلوة دى؟». إنها لُعبة دوائر متداخلة لا تكاد تنتهى، وكلنا فينا شىء مِن عم رمضان هذا، ندق الطبلة لنوقظ ناس مصحصحين وغافلين ولاهين معًا، ولا أحد يستمع إلى ندائنا. لذلك كله فلا بأس من أن نجربَ أن نريحَ أصواتنا وأن نستغنى عن الطَبلة وأن نفلتَ القطّة ونتخلص من الحَبل، ولو مِن باب التغيير.

اقرأ ايضا | مجيد طوبيا قصة حب بنكهة البيتزا الإيطالية والبتاو الصعيدى