الحياة تفرض إيقاعها سريعًا لهذه الأسباب

الحياة تفرض إيقاعها
الحياة تفرض إيقاعها

ليس هناك فى ذاكرتى الشمية ما هو أرسخ من رائحة الفول المدمس فى القِدرة، والتى باتت تضعها أمى على سخان كهربى صغير، لساعات طويلة، بالأخص فى ليالى شهر رمضان. بمرور الزمن استبدلت الكهرباء بالغاز الطبيعى (البديل الأرخص) فأصبحت تدمس الفول على الموقد، أما بائعة الجبن والزبد القروية التى عاشرناها طويلًا أخبرتنا بالطريقة المُثلى لتدميس الفول: تعلّق الفوالة بمسمار مثبت فى الحائط، توقد لمبة الجاز أسفلها، لتنضج حبات الفول على حرارتها الضعيفة فى عملية تستمر ليوم كامل.

والهدف من كل هذا الصبر الطويل أن يتحول الفول إلى ما يسمى بـ«العجمية» أو «الكهرمان» بحسب وصف أمى وبائعى الفول المتجولين فى شوارع القاهرة، وهم يروجون لطعام المصريين الأزلى.. ستظل تلك الرائحة بمثابة ترس يدير آلة التذكر المعقدة فى ذهنى، تلك الرائحة وما تجلبه معها من دفء وعطف، ترسل صوت أبى عندما يوقظنى وأخى قبل السحور، نتثاءب ثم ننهض متثاقليْن، نتناول البيض المسلوق والجبن والخيار، تذكرنا أمى بتناول قدر يسير من الفول: «كلوا فول كويس عشان ماتجوعوش.. الفول مسمار البطن». ننفذ تعليماتها بعيون ناعسة شبه مغمضة، تكتمل توليفة السحور بصوت سيد مكاوى الذى يداهم رغبتى الشديدة فى النوم فينبهنى، تذوب لقمة الفول فى فمى، أنصت إليه كالبنت الصغيرة الجميلة التى تتجول معه وتبتسم، يتقاطع صوت مكاوى مع صوت المسحراتى الفعلى والذى اختلق ضربة خاصة شاذة على طبلته، تختلف عن الضربة المعتادة التى نحفظها كدقات قلوبنا.

بخفة، أصحو لكى أذهب إلى مدرستى، ثم لا أكاد أصل إلى الحصة الرابعة حتى أشعر بنعاس شديد، أقاومه بكل قوة كى لا تفلت منى معلومة قد أحتاج إليها عند الامتحان، أصل إلى البيت فى حالة انهيار تام بسبب سمفونية روائح الطبخ العظيمة التى تحاصرنى يمينًا ويسارًا فى طريق العودة، أنعم بنوم طويل وهادئ، لا يؤرقنى فيه أدنى شعور بالذنب لأننى لن أستذكر دروسى حتى آذان المغرب، وبالطبع إلى ما بعد بوجى وطمطم والفوازير وألف ليلة وليلة، ربما استذكرت لساعتين بعد صلاة التراويح، وفى فمى قطعة كنافة بالكريمة وبجانبى صحن القطائف، أو أتناول ما تبقى من كوب الخشاف عند الإفطار، وألوك قطع القراصيا بتلذذ، أنام مجددًا لأصحو على نداء السحور.


تغير العالم عندما تغيرتُ، أم تغيرتُ فتغير العالم؟
ما أعرفه أننى منذ بدأت أعد طعام الإفطار والسحور كزوجة، لثلاث مرات، ولكن بلا أبناء أطبخ لهم، تبدّل العالم، لم أعد أدمن شيئاً سوى القهوة، كففت عن متابعة ما يتابعه الناس، أنصتّ عامًا وراء عام لأصوات السماء، تابعت بشغف حركة النجوم وشكل قرص الشمس فى صباحات قضيتُ لياليها فى العبادة والتضرع والبكاء كليالى قدر محتملة، صرتُ أشعر بقرب ما من الله، حتى أننى رأيت السماء كأنما تنفتح أمام ناظرى، فأوشك أن أراه، كلما اشتدت وحدتى، كلما تعرضت للنبذ والتنمر وسوء المعاملة وامتحانات الحياة الصعبة، كان يرسل إلىَّ حضرته وعطفه فى رؤى طمأنت قلبى وساندتنى.


متى تغير رمضان؟ 
منذ هجرنا الفانوس النحاس وشمعته؟ منذ انكسر ظهر شيريهان؟ منذ عافت نيللى الأضواء؟  منذ ظهور إعلانات شبكات المحمول؟ أم منذ ظهر اليوتيوب وأصبح فى مقدور الإنسان استعادة الزمن بكل سهولة؟ فلا حماس لشىء ولا دهشة أو مفاجأة فى تلقى الفن فصار فى غالبية الأعمال فاترًا باهتًا؟ 


أجل، تغير تقريبًا كل شىء، ولكن تظل الكثير من البيوت فى شتى ربوع مصر تحافظ على قدر يسير من الاحتفال بالشهر الفضيل، تظل المساجد عامرة بالمصلين رغم تحذيرات الإصابة بالكوڤيد، لا تزال موائد الرحمن تزين شوارعنا وحاراتنا، «تتصرف» ربات البيوت لتوفير ما يلزم أسرهن أثناء الشهر، ويتهيأ الآباء بقدر طاقتهم لشراء الملابس الجديدة لأطفالهم، قبيل عيد الفطر، عربات الفول، والزبادى الذى ينفد بسرعة الصاروخ من المحال، أقول إن الحياة كثيرًا ما تفرض إيقاعها على البشر، فتعجزهم، ولكن هى ذاتها الحياة التى تخضع لكل من يبذل جهدًا ويعمل بإصرار ليظفر بما يسعده.

اقرأ ايضا | علاء عبد الهادي يكتب : مولاى يا مولاى