رمضان قديمًا وحديثًا: بين المظهر والجوهر هناك فرق !

بين المظهر والجوهر
بين المظهر والجوهر

ذات مرة، حينما كنتُ طالباً في إحدى الجامعات العراقية فى بداية التسعينيات، أخبرنى أحد أصدقائى بأنه لن يصوم شهر رمضان الذى كان على الأبواب حينها، لأنه توقف عن ممارسة الطقوس الدينية بما فيها الصيام والصلاة لأسبابٍ فكرية وعقائدية. إذ رأى هذا الصديق بعد وقتٍ طويلٍ من الجدل والنقاش والحوار مع الذات عن الإيمان بالله والدين بأنّ للإيمان مظهراً وجوهراً.. شكلاً ومضموناً، ورأى بأنّ من يمارس الإيمان من حيث المظهر والجوهر هم قلة قليلة من الناس.

وبأنّ من يمارس الإيمان من حيث المظهر فقط هم الغالبية من الناس، وبأنّ من يمارس الإيمان من حيث الجوهر فقط هم من القلة. وبالنسبة لصديقى، فقد آثر أن يمارس الإيمان من حيث الجوهر فقط من دون الالتزام بالمظهر الإيمانى المتمثل فى الصلاة والصوم وبقية الطقوس الدينية، على اعتبار أن شكل الإيمان ومظهره من الممكن أن يتجسد بأساليب كثيرة وعديدة فى الحياة، وليس بأساليب أو أشكال الصلاة والصوم. فمثلاً حينما تكتب قصيدة أو رواية أو تغنى أغنية أو حينما ترسم لوحة أو تقوم بنشاط فنى وجمالى وإنسانى، فإنّ ذلك يعدّ ممارستك للصلاة بطريقتك الخاصة.

وخصوصاً إذا تذكرنا بأنّ الإيمان الحقيقى هو التواصل الروحى بين الإنسان وبين الله أو بين الطاقة الخفية المغروزة فى الكون، وبأنه أيضاً أمرٌ شخصى يتمثل فى العلاقة بين الإنسان والخالق من دون تدخل الآخر فى هذه العلاقة لا من قريبٍ ولا من بعيد. 

ولكن مشكلة صديقى كانت هى أنه كان يود البقاء فى العيش فى أجواء رمضان الجميلة التى كان يمارسها سابقاً، ولكن من دون صيام وصلاة. فاقترحتُ عليه لكى يبقى فى الأجواء الرمضانية، أن يصوم إلى حد الساعة الثانية عشرة ظهراً مثلاً، وأن يمارس بقية الطقوس الرمضانية الجميلة والممتعة التى كان يمارسها العراقيون فى رمضان. أى أن يتسحّر مع أسرته وهو يشاهد البرامج والمسلسلات العراقية والعربية وبالأخص المصرية التى تُعرض طوال الليل، وأن يجلس مع أسرته حول مائدة الفطور الغنيّة بألذ أنواع الفاكهة والخضراوات والحلويات والطعام مثل شوربة العدس والرز ومرق الباميا والفاصوليا والدجاج والتمر مع اللبن بكل متعة وحب واحترام لبقية أسرته الصائمة.

واقترحت عليه أيضاً لكى يكون ملازماً للأجواء الأسرية والرمضانية متابعة أحد المسلسلات الفنية الرصينة مع أسرته والحديث عنها معاً أنا وهو فى اليوم التالى. وصادف أنّ تلفيزيون العراق عرض فى ذلك الشهر وبالتحديد بعد منتصف الليل المسلسل المصرى الخالد «أرابيسك» من تأليف السيناريست الراحل المهم أسامة أنور عكاشة، وتمثيل باقة من الفنانين الرائعين الذين أبدعوا جميعاً فى المسلسل بشكلٍ ملحوظ، وبالأخص الفنان الكبير صلاح السعدنى والممثلة القديرة هالة صدقى.

ومنذ ذلك الحين، وكلما أقبل شهر رمضان أتذكّر صديقى وتصوراته الإيمانية المختلفة عن السائد وأتذكّر المسلسل الجميل «أرابيسك». ألا يعدُّ هذا التذكر المزدوج من قبلى بين رمضان والمسلسل من طرائف القدر؟ ألا يشير إلى اعترافى الضمنى برؤى صديقى الإيمانية القائمة على أنّ الفن والأدب وكل نشاط إنسانى جميل هو بمثابة صلاة وصوم وبمثابة شكلٍ جديدٍ للتواصل بين الإنسان والله؟

بعد مرور سنوات طويلة، التقيت بصديقى مجدداً فى مقر إقامتى الحالية فى الدنمارك، ورحنا نتذكّر الكثير من محطات حياتنا المشتركة بما فيها رؤاه الدينية وعلاقتها بمسلسل «أرابيسك». بل أنّ صديقى وكلما حلّ شهر رمضان وهو فى الدنمارك منذ أكثر من عشرين عاماً، يفتقد بحميمية أمامى الأجواء الرمضانية فى العراق، بل ويتذكّر كيف أنها كانت أجواءً مفعمةً بالمحبة والحس الإنسانى الخالص وبالمتعة الروحية المتمثلة فى سهر العوائل مجتمعين فى منازلهم وفى تبادل الزيارات فيما بينهم وفى تجوال الناس بفرحٍ فى الأسواق التى كانت تنتعش بقوة لكثرة الزبائن.


وعلى الرغم من افتقاد صديقى لهذه الأجواء الرمضانية وبالأخص العائلية فى الدنمارك على اعتبار أنه يعيش وحيداً فيها، إلاّ أنه كان يقوم مازحاً بتذكير بعض العوائل العراقية التى يعرفها هنا لدعوتهم له فى منازلهم فى الليالى الرمضانية، مع أنّ هذه العوائل تعلم بأنه لا يمارس الطقوس الدينية الرمضانية، وتعلم أيضاً بأنه يمارس هذا الطقس من باب التواصل الاجتماعى والإنسانى معها. ولكن الشىء الذى لم تعلمه عنه، هو أنه كان وما زال يحب العيش فى الأجواء الرمضانية، لكى يذكّر نفسه دائماً وأبداً بأنّ سبب الصيام هو لكى يتذكّر الناس الصائمون جميع الجوعى والفقراء فى العالم، ولكى يمدوّا يد العون لهم فى هذا الشهر المميز، وهو ما كان يفعله صديقى باستمرار على الرغم من عدم ممارسته للمظهر الرمضانى المعروف.

شاعر وكاتب عراقى مقيم فى الدنمارك

اقرأ ايضا | استراحة الشجن والحنين