عزالدين ميهوبي يكتب: حصاة في حذاء بوذا

الكاتب عزالدين ميهوبي
الكاتب عزالدين ميهوبي

في العام 2007 جمعني لقاء براهب بوذي من إقليم التبت في أحد مطاعم بيروت، وبدافع الفضول سألته عن عقيدته وسرّ الرداء البرتقالي الذي يغطّي جسمه، وبأدب جمّ قال لي "إنّه يرمز لأفول الشمس وفنائها.. وهو هكذا الإنسان، فأوراق الأشجار تذبل ثم تتحوّل إلى هذا اللون الأصفر عندما تقترب من الموت."، فقلتُ له "نحن أمّة الإسلام نلبس الرداء نفسه، إنّما لونه أبيض عند الميلاد والموت، فهو قماطة وكفن في ذات الوقت".. وافترقنا على شاي أخضر.

وفي 2012 زار وفدٌ ثقافي صيني بقيادة السيد دان زنغ نائب رئيس اتحاد الكتاب الصينيين الجزائر، والتقيت به في المكتبة الوطنية الجزائريّة بصفتي مديرا عامّا لها، وأثناء تفقده لأجنحتها، توقف طويلا في جناح المخطوطات والكتب النّادرة، ولاحظت اهتمامه الشديد بما عُرض أمامه، من مصاحف بحجم علبة الكبريت إلى رسائل نادرة بخط الأمير عبد القادر الجزائري، وفجأة انتبهتُ إلى أنّ ملامح الرجل تغيّرت تمامًا، فخشيت أن يصيبه مكروه، وكأنّي به شعر بانقباض، وهو يتصفّح مخطوطًا جلديّا يعود إلى العام 1365م.. وظلّ يقلّب صفحاته، دون أنْ يكّلم أحدًا، ممّا أثار فضولَ وحيرةِ الحضور، فسألتُ خلسةً خبيرة المخطوطات بالمكتبة "ما هذا المخطوط؟" فأجابت "لا أدري.. لكنّنا نحتفظ به كأيّ وثيقة قديمة، ولا نعرف شيئًا عنه إلاّ ما هو موثّقٌ على الهامش. وضعناهُ من جملة ما نتوفر عليه بالمكتبة، على سبيل الصدفة إلى جانب نماذج من مصاحف وكتب تراثيّة نادرة، ومخطوطات بلغة الخميادو الأندلسية القديمة، وأخرى بالفارسيّة، كأيّ مكتبة وطنيّة عريقة". وبعد حوالي ثلاثين دقيقة، التفتَ نحوي وقال لي "كيف حصلتم على هذا المخطوط؟" قلتُ "لا أدري.. وهو موجودٌ منذ أن وُجدت هذه المكتبة كما تُبيّن ذلك المعلومات المدوّنة". فابتسم وقال لي "إذن لا تعرفون شيئا عنه؟". قلتُ بعفويّة "أعتقد أنْ لا أحد هنا يعرفُ شيئًا عن هذا المخطوط، مثل كثير منها".  فردّ بثقة عاليّة "هذا كتابُ القلب، وهو الكتاب الرّوحي المقدّس لدى شعب إقليم التبت بالصّين، ولا توجد سوى خمس نسخ مثله في العالم. وإنّني لأتساءل كيف وصل هنا." ثمّ أضاف ضاحكًا "هل تعلم أنّ قيمة هذا المخطوط لا تقدّر بثمن.. خاصّة وأن عدد صفحاته كما يبدو يتجاوز الـ700 صفحة." فالتفتتُ إلى من كانوا حولي، وقلت لهم ضاحكًا "هل سمعتم ماذا قال الرّجل. إذا ضاعَ.. ضعتُ وضعتُم معي"..

 

دان زنغ هذا ليس كاتبًا فحسب، بل كان حاكمًا لإحدى مقاطعات إقليم التّبت، ومكانته السياسيّة كبيرة جدّا في الصّين. ذكَر لي أنّه زار ما يربُو عن الأربعين بلدًا في مختلف قارات العالم، ويسعى في كل رحلة إلى معرفة جوانب من ثقافات الشعوب، إلاّ أنّه وقفَ مشدوهًا أمام مخطوط في آخر الدنيا، يعثر عليه كطفل يتيم (..) في أرض بعيدة، لا تربطها أيّة صلة قرابة بالصّين، قلتُ في نفسي "ربّما يكون صاحبه من أولئك الذين قصدوا الصّين لطلب العلم والحكمة، فاستقرّ به المقام في بلدة بوذيّة فعاد ومعهُ هذا المخطوط..".

 

كان زنغ فرحًا، وفرحنا معهُ أيضًا لأنّنا اكتشفنا كنزًا لم ينتبه إليه العم ماوْ في عزّ سطوته على بلدان العالم الثالث. وعندما عاد دان زنغ إلى وطنه بعد أيّام، جاءتني مديرة الجناح مسرعة وملحّة في لقائي، فخشيتُ أنّ شيئا ما قد حدث، وقبل أن تتكلم قلت لها "طمنيني.. المخطوط في مكانه؟" ردّت ضاحكة "لقد عثرنا على نسخة ثانيّة من مخطوطة التّبت المقدّسة.."، فضربتُ أخماسي بأسداسي، وقلتُ "ليتَ دان زنغ بقيَ أيّامًا أخرى فيسمعُ خبر المخطوط الثاني.". رويتُ الواقعة لصديق فقال بخبث "لو علمَ الدّلاي لامَا بالأمر، لجاءً حافيا.. لقد وضعتُم حصاةً في حذائهِ".

 

عدتُ إلى تاريخ المخطوط، وعمرهُ حوالي سبعة قرون، وتساءلتُ مثل زنغ "كيف وصلتِ المخطوطة التبتيّة إلى ديارنا؟ ومن هذا الجزائري الذي أوصلته قدماه إلى جبال الهمالايا؟". لو تعلّق الأمر بأحداث جرتْ في السنوات الأخيرة، لقلتُ ربّما هو رحّالة مغامر عثر على المخطوطة في سوق الأشياء العتيقة، فابتاعها، ولمّا لم يجدْ من يفكّ رموزها أعطاها للمكتبة بدافع الشّفقة على أوراقها الجلديّة القديمة ووزنها الثقيل. وقلتُ أيضًا ربّما جاء بها مرافقون لابن بطوطة بعد رحلته إلى الصّين وما كابدَ من أهوال، فوجدتُ أنّ الاحتمال يبقى قائمًا بالنظر إلى أنّ ابن بطوطة توفيَ في العام 1377م بينما يعود تاريخ كتاب القلب إلى 1365م.. فرجعتُ إلى كتابهِ "تُحفةُ النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" المتضمّن تفاصيل الرّحلة، فوجدتُ أنّهُ عبرَ في بدء رحلتهِ إقليم الجزائر، وزار مدن تلمسان ومليانة وجزائر بني مزغنّة، العاصمة الجزائر حاليًا، وبجاية وقسنطينة وعنّابة، وأثناء عودته إلى المغرب من مدينة تشيوانتشو أو غواننزهو الصينيّة (Quanzhou) كان في عام 1346م، يشير خطُّ السّيْر أنه عبر البحر من كالياري الإيطالية إلى مدينة طنجة المغربية، أي أنه لم يمر بالجزائر، ومع ذلك يبقى الاحتمال قائمًا ولو بنسبة ضئيلة، وما على الخبراء إلاّ فكّ لغز الفارق الزمني 19 عامًا.. خاصة وأنّ ابن بطوطة زار المعابد البوذية والطاويّة بالهند والصين والتقى بالمغول.. وجلب معه شواهد كثيرة.. واستحضرتُ رواية "المخطوطة الشرقيّة" للأعرج واسيني، فوجدتُ أنّها بعيدة عن مخطوطة التّبت، فالأعرج جعل أبطاله نوح الصّغير بن الملياني والباحث الأنثروبولوجي الأمريكي أوسكار ينطلقون من حضرموت في أجواء غرائبيّة ليس فيها للبوذيين نصيبٌ. فإمّا أن يفكّ الشفرة دان زنغ أو نحيل الأمر إلى دان براون صاحب شفرة دا فنشي.. أو نعيد مشاهدة فيلم "سبعة أيام في التبت" الذي تألق فيه الممثل براد بيت.. فربما أضاف جزءًا ثانيا من فيلمه يكشف سرّ المخطوطة التي عُثر عليها في الجزائر..

 

ثمّ بحثتُ في تاريخ الأبجديّة التي كُتبت بها المخطوطة فوجدتُ أنّ مخترعها هو الوزير ثونمي سامبهوتا Thonmi Sambhota في منتصف القرن التّاسع الميلادي، حيثُ تمّ إرساله إلى الهند لدراسة فنّ الكتابة التي تعتمدُ على الأبجديّة الهنديّة، وبه تمّت ترجمة الكتب المقدّسة إلى اللغات التبتيّة، الزونغ خا Dzongkha واللاداخية Ladakhi والبالتية Balti ، ومع تطوّرها، أصبح في التّبت لغتان منطوقةٌ ومكتوبةٌ، تحافظان على الإرث الثقافي واللغوي.

 

عندما غادرت منصبي بالمكتبة الوطنية في ربيع 2013، استوصيتُ إدارة المخطوطات خيرًا بمخطوطة التّبت النّادرة، وقلت في نفسي كان عليّ أنْ أقول للقائمين عليها "ابحثوا جيّدا فربّما عثرتم على مخطوطة من مملكة السّنغاي جنوب الصحراء حيث كان المغيلي مستشارً لسُلطانها أو مومبايْ بالهند حيث بقايا الفاطميين الذي أقاموا طويلاً بإيكجان قريبًا من سطيف الجزائريّة"..

 

وأعترفُ أنّني لا أعرف شيئا عن البوذيّة إلاّ ما وقع بين يديّ من كتابات، فدفعتني واقعة دان زنغ إلى الاقتراب من هذه الديانة وطقوسها، فقرأت عن التبت وتاريخها، وأبجديات كتابها المقدّس "سوترا الماهايانا"، أو كتاب القلب كما أتصوّر، حيث ترتّل النّصوص وتؤدّى الصّلوات، ويُحتفى بمناسبة أُولامبَانا التي يعتقد أتباعُ بوذا أنّ أبوابَ العالم الآخر تُفتح، ليُبعث الأمواتُ من جديد، فيزورون الأهل والأقارب والأحبّة الذين يقومون بدورهم بتقديم القرابين والذبائح..

 

والبوذيون، يختلفون مثل المسلمين والمسيحيين في مذاهبهم ومعتقداتهم، إلاّ أنّهم يتقاطعون في أشياء كثيرة، ولا أعرفُ إن كان بينهم من يكفّر غيره ممّن لا يقاسمونه بعض الطقوس..

 

وفي ظلّ فضولي لمعرفة أسرار البوذيّة، لاح طيفُ أونغ سان سو تشي المعارضة البورمية التي قضت أعوامًا في السّجن، ومُنحت جائزة نوبل للسلام 1991، وخرجت تحت تصفيق وإعجاب العالم وهي تطلّ من شرفة بيتها بتلك الكاريزما التي جعلت العالم يتعاطف معها، غير أنّها أخفقت في امتحان الحريّة، عندما تعلّق الأمر بالمفاضلة بين طائفتين، بوذيّة ومسلمة، فالسيّدة النحيفة انتصرتْ لطائفتها، مفضّلة الحسابات السياسيّة على الانسانية، وتجاهلت الإبادة التي يتعرّض لها مسلمو بورما، الرّوهينغيا، الذين تعرّضوا لأبشع أنواع الاضطهاد والتقتيل، وقالت إنّها تعمل من أجل المصالحة الوطنيّة. وما جدوى ذلك بعد خراب مالطا..

 

عندما دخلت السياسة خرجت الحكمة من منطق المرأة التي عانتْ طويلاً، ولم يختلف موقفُها عن ألبير كامُو الحائز على جائزة نوبل للآداب 1957 الذي لم يتردّد في القول عندما سُئل عن موقفه من نضال الشعب الجزائري من أجل حريته "أيّهما تختار الثورة أم فرنسا؟" فقال "أختار أمّي" وهو الذي وُلد وترعرع ونشأ وكسب شهرته في الجزائر.. فسو تشي اختارت أمّها برداء برتقالي..

 

وعُرفَ بوذيو ميانمار أو بورما أنهم من أكثر أتباع البوذية تشدّدًا، حتى أنّ أحد زعمائها واسمه "ويراثو Wirathu "، ويفضل تسميته ببن لادن بورما، يتباهى بالتحريض على إبادة المسلمين، ويذهب آخرون إلى أن زواج المرأة البورمية من خنزير أشرف لها من الزواج من مسلم.. وقد تابعتُ فيلما وثائقيا، تم عرضه بمهرجان عنابة للفيلم المتوسطي 2018، هو "الموقر Le Vénérable" للبلجيكي باربيت شرُودر، يبرز وحشية وعنف هذا الزعيم البوذي الذي لا يجرؤ جنرالات ميانمار على لجمه، لأن تأثير كلماته أقوى من عصيّهم، ومنسوبُ خطاب الكراهيّة الذي يحملُهُ لا حدود له، يختزلُ الإسلاموفوبيا في أقصى تجليّاتها.

 

وعلى النقيض من ذلك، فإنّ الزعيم الرّوحي للبوذيين الدّلاي لاما (نوبل للسلام 1989)، استنكر ما يتعرّض له مسلمو بورما، واعتبر عنفَ الرهبان البوذيين خروجًا عن روحِ البوذيّة.. وهنا تذكّرتُ كتاب القلب، وقلتُ بيني وبين نفسي "يبدو أنّ الدّلاي لامَا قرأ فصولَ كتابِ القلب بصدق، أمّا أونغ سو تشي فقرأت فصول بيانها الانتخابي بكثير من البراغماتية"، وشتان بين من نشأ في سقفِ العالم ومن خرج من سجن ليبحث عن كرسيّ في برلمان التصفيّة العرقية. هكذا ينقلبُ مفهوم الحريّة عند أولئكَ الذين ينقلون معهم قضبان الزنزانة إلى سجن.. السياسة.