حديث الاسبوع

مرحلة مخاض مؤلمة لميلاد النظام العالمى الجديد (1)

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

لم يعد خافياً فيما يجرى فى أطراف الاتحاد السوفياتى السابق بأن الأمر يتجاوز سقف حرب عابرة تدور رحاها بين بلدين جارين جمع بينهما التاريخ والجغرافيا، وباعدت بينهما الحسابات السياسية والاعتبارات الاستراتيجية، ويتخطى مستوى سوء فهم أو تفاهم بين قطرين متجاورين، ولا حتى مجرد نزاع بسبب تضارب المصالح القطرية، إنه يتجاوز كل ذلك وغيره ليؤشر على أن الأمر يتعلق بلحظة صدام عنيفة بين قوى عالمية، تحاشت لفترة طويلة مثل هذه المواجهة المباشرة، لأن شروط ذلك لم تحقق، وانتظرت هذه القوى بما يجب من ترصد وتوجس ويقظة هذه اللحظة لتنقل مواجهتها إلى ما كانت تضمره وتخفيه.


ما يحدث فى قلب قارة عجوز ساد الاعتقاد لردح طويل من الزمان أنها أضحت محصنة ضد الحروب، بحيث لا تجرؤ أية قوة خارجية على المقامرة بوجودها، إن هى فكرت فى شن حرب ما فى هذه القارة المحصنة بالتطور الاقتصادى والتكنولوجى والعسكرى القوي، وفى تكتل حربى يجمع أكبر القوى العسكرية العالمية. ما يحدث هناك ويلقى بظلاله على الأوضاع العالمية يمثل لحظة اصطدام عنيف بين المصالح الكبرى للقوى العالمية، وهى لحظة كان العالم يتوقعها، لكنه كان فقط يجهل توقيتها وموعدها بالتحديد.
ما يحدث هناك لا يمكن أن يكون حدثا عابرا من الأحداث العابرة التى تزول بزوال ظروفها، و إن كان حربا عنيفة و مدمرة، بل الأكيد أن الأحداث المباشرة فيما يحدث هناك ستنتهى فى لحظة من اللحظات، وتتراجع الدبابات والمدرعات وتصمت المدافع والرشاشات، وتتوقف الطائرات الأكثر فتكا عن التحليق، والصواريخ النفاثة، وتعود الجيوش إلى قواعدها فى انتظار أوامر جديدة. لكن التداعيات المباشرة وغير المباشرة ستستمر فى التناسل، لأن الحرب المباشرة ستنتهى عاجلا أم آجلًا لكن الأسباب الحقيقية للحرب ستستمر فى التفاعل وتمد فى عمر الحرب والمواجهة.


ما يحدث اليوم سيستمر فى التفاعل وفى إفراز التداعيات والنتائج والعواقب، لأن الذى يحدث يتجاوز فى المكان والمدى والمساحة الضيقة والمرسومة بدقة، والزمن الذى لا يملك أحد وضع نهاية محددة له.
إننا بصدد القول إن ما يحدث، و خرج إلى العلن فى شكل حرب ضروس تدور أطوارها المباشرة بين روسيا وأوكرانيا كممثلين رئيسيين ومباشرين فوق الركح الذى يظهر فى الصورة كفضاء للحرب، هو فى حقيقته محاولة حقيقية لإعادة تشكيل نظام عالمى جديد يقضى على نظام القطبية الأحادية الذى ساد منذ سقوط جدار برلين قبل حوالى 33 سنة من اليوم، وهو السقوط الذى أعقبه زوال واندثار القوة الثانية فى نظام القطبية الثنائية التى سادت فى العالم طوال عقود من الزمان.
و هكذا فإن مساحة الحرب التى تدور رحاها بين روسيا وأوكرانيا ليست محددة فى إطارها الجغرافى الضيق حيث تدور أطوار ومراحل الحرب، بل ما خفى من وراء هذه المواجهة المسلحة يؤشر على أن المواجهة الفعلية هى فى حقيقتها بين قوات عظمى هى بصدد التجاذب والتنازع حول إعادة تشكيل معالم نظام عالمى جديد، يعيد النظر فى التوازنات التى يستند إليها وجود وسيادة النظام العالمى الراهن، والحرب فى هذه الحالة هى المختبر الفعلى الذى تتفاعل فيه مختلف العناصر بهدف إفراز نظام عالمى جديد.
بداية يمكن القول بأن روسيا التى تعتبر نفسها الوريث الشرعى للاتحاد السوفياتى بدأت فى الاستفاقة من غيبوبتها التى أعقبت تفكك الاتحاد السوفياتى السابق، والتى دامت عقودا من الزمان، بعد أن شعرت بتعافى اقتصادى وامتلكت اللياقة البدنية المناسبة، فبادرت بجس نبض القوى المهيمنة المعادية لها بشن تدخل عسكرى فى جورجيا قبل حوالى 14 سنة من اليوم، وزادت من وتيرة المواجهة بأن دعمت علانية ومباشرة انفصال جمهورية أوسينيا الجنوبية، قبل أن تنتقل إلى مرحلة المواجهة المباشرة حينما دعم الغرب الانقلاب فى أوكرانيا وتم إسقاط النظام الموالى لروسيا، بأن ضم شبه جزيرة القرم سنة 2014.


فالغرب تفطن إلى أهمية وضع رزمة من الحصى فى حذاء روسيا من خلال دعم وفرض أنظمة موالية له فى كثير من جمهوريات الاتحاد السوفياتى السابق، للتضييق على موسكو وكبح جماحها فى التحرك بأعماق القارة الأوربية، وإن كان قد بدا لفترة معينة أن موسكو ترضخ للأمر الواقع، فإن ما يحدث اليوم بين روسيا وأوكرانيا يؤكد أن موسكو لم تكن خاضعة، بقدر ما كانت تعد العدة للحظة التى ستخرج فيها المواجهة إلى العلن وإلى المباشر.


ما يحدث حاليا يمثل منعطفا حاسما فى مسار النظام العالمى الجديد الذى تدل مؤشراته الأولى على أنه سينقل العالم من أحادية قطبية، و يعيده إلى نظام القطبية الثنائية مع بعض التعديلات الجوهرية و الأساسية، لأن نظام القطبية الثنائية القديم كان يسود برأسين، الاتحاد السوفياتى و الولايات المتحدة الأمريكية، ويستند إلى مراجع إيديولوجية بين نظامين اقتصاديين متناقضين، شيوعى أو اشتراكى من جهة، وليبرالى متوحش أو معتدل من جهة ثانية. بينما مرحلة مخاض النظام العالمى الجديد الذى يتسبب فى آلام قوية بأوكرانيا، تؤشر على ولادة نظام عالمى جديد بقطبية تقوم على تكتلات دولية تقودها روسيا والصين وأقطار أخرى موالية لها من جهة، وفى الضفة الأخرى يوجد تكتل آخر تقوده الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، ويستند هذه المرة إلى مراجع اقتصادية وأمنية وعسكرية.


إن النظام العالمى السائد حاليا تفسره وتبرره طبيعة الأسباب التى مكنته من السيادة والوجود، وهى أسباب كانت مرتبطة بعوامل إيديولوجية بحتة، حيث كانت الليبرالية تواجه وتتصدى وتحاصر الاشتراكية بتلاوينها كافة، بما فى ذلك الشيوعية. أما مؤشرات النظام العالمى الذى قد يكون يعيش مرحلة مخاضه الأخير، فتؤكد أن قضايا الأمن والاقتصاد ألقت بالإيديولوجيا إلى الخلف واحتلت الواجهة فى الصراع المحتدم بين القوى العظمى للتحكم فى مقود ركب النظام العالمى المنتظر.