ثورة على العادات

سناء عبد العزيز
سناء عبد العزيز

تعودتُ أن أبدأ يومى ببعض التمرينات الخفيفة. عشرون دقيقة تكفى لفرد الأطراف وتحريك رقبتى وثنى جزعى فى كل اتجاه، ولم يكن فى وسعى يومًا ما أن أواصل تلك التدريبات إلا عبر ثلاثة أصوات؛ صوت فيروز بملامسته السماء، صوت محمد فوزى المشبع بالطمأنينة، وصوت أحمد منيب الصادق تمامًا، فلماذا باءت كل محاولاتى لتنويع قائمتى بأصوات أخرى بالفشل الذريع!


تعودت بعد هذا الطقس الرياضى أن أعد لنفسى شوبًا كبيرًا من الشاى الخفيف ألقى فى قعره حفنة من أعواد القرنفل، أضعه أمامى على الطاولة وأجلس على الأريكة نفسها التى لم يغيرها الله.


ما إن تهدأ الأبخرة، أحمله من أذنه الواحدة وأبدأ فى ارتشافه على مهل، وفى اليد الأخرى أحمل كتابًا جديدًا أو الكتاب الذى تعذر إكماله بالأمس. تعودت ألا أبرح مكاني، لا أطوى صفحة الكتاب، لا أستجيب لرنات الهاتف أيًا كان محدثى إلا مع الرشفة الأخيرة. أضع فنجان القهوة على السخان.

وأنا أتابعه بحرصٍ بينما أتناول فطورى المعتاد؛ بيضة مسلوقة، ملعقتى فول وقطعة من الجبن، مع شرائح الطماطم والخيار ولا مانع أبدًا من لقمة مربى أو قطعة حلاوة أو قالب من الزبدة. بمجرد أن يرتفع وش القهوة إلى حافة الكنكة، أشد الفيشة وأصبها فى نفس الفنجان الذى بوضعه على المكتب يبدأ العمل اليومى على مدار الساعات.


لعادتى تلك لذة محببة للنفس، لا تزداد بمرور الأيام إلا سطوة وفتنة وإغراء، لكن الروح المجبولة على الثورة تستنكف الوقوع فى فخ العادات، ما إن تستشعر خطرًا حتى تبدأ فى إطلاق الإشارات، وحين لا نستجيب، تطلق ثورتها على كل العادات.


بمرأى هلال رمضان، لا تختلف عاداتى فحسب، بل يصبح وجودى بأكمله مختلفًا تمامًا عن وجودى المعتاد. تتخذ التمارين هيئة الصلاة، ودون رشفات الشاى بأعواد القرنفل، أشرع فى القراءة حتى ينطمس الخط الفاصل بين الواقع والخيال. 


الوقت على حائط مدرسة الثلاثين يومًا لا يمضى أبدًا على راحتنا، بين غمضة عين وطرفتها تسترد الساعة سطوتها. تحرك عقاربها إيذان بقرب طى ملفاتى التى أعمل عليها لأجل طقوس الإعداد للإفطار وهو ما يدفعنى بحزم للإمساك بكل ثانية قبل أن تنفلت من بين أصابعي.


العقل يشحذ أقصى طاقته لإنجاز أكبر قدر ممكن دون التلكؤات المعهودة. وسائل التفكير فى ترجمة جملة أو كتابتها تتخذ أقصر الطرق وأسهلها للوصول إلى الهدف. التنبيهات الصادرة عن المعدة فى الأيام العادية لا تتمكن فى هذا الشهر من عرقلة الجسد وقد تملكته شهوة الإنجاز.


يومى فى رمضان يومان، يسمح لى بالعمل نهارًا على معدة خفيفة، والاندماج ليلًا فى خضم الحياة. ترسو القدمان العالقتان طيلة العام بعيدًا عن الأرض، بمنتهى الاطمئنان بين الناس، أتابع المسلسلات والبرامج التلفزيونية وأتلذذ بالمشى فى الزحام.

 

وثمة ابتسامة معلقة على وجهى لكل من أقابله وكأنى أعرفه من قبل، لابد أن جوًا من الألفة يتولد تلقائيًا من رحم المشاركة الجماعية، وما إن تختفى يختفى بدوره بقية العام.


وجه آخر تعرفت عليه بفضل رمضان. يبدو فى ظاهره كثورة مضادة عليه، ولكنه فى طياته لا يخرج عن السياق. يحدث هذا حين يتخذ رمضان لأسباب لم أتمكن يومًا من تفسيرها، هيئة العادة التى تتكرر كل عام. نظرة مجملة على المشهد، تجعلنى أنظر إليه كمناسبة رتيبة تتكرر كل عام، فأتعمد التغافى عن رمضان. أستيقظ على تمارينى الخفيفة، أفرد أطرافى وأتثنى على صوت فيروز ومحمد فوزى وأحمد منيب، أعد لنفسى شوبًا من الشاى بأعواد القرنفل، أرتشفها وأنا أقرأ كتاب. وهكذا يمضى الشهر كبقية العام، ودون وعى منى أو بكامل إرادتى أسقط فى فخ الرتابة على مدى 365 يومًا، وقد اُستنزفت روحى بأكملها من فرط الثورة على العادات.

اقرأ ايضا | اليمنى حبيب عبد الرب سروري يؤسس جزيرة المطففين