الصوم عن الكتابة

أحمد عبد المنعم رمضان
أحمد عبد المنعم رمضان

نادرًا ما أكتب فى رمضان، أصوم عن الكتابة أيضًا، فأنا لا أدفع نفسى إلى الكتابة، لا أخصص لها أوقاتًا ثابتة، أستسلم لمزاجها وتقلباتها، أنتظرها وربما أستحثها ولكن دون إلحاح، أذكر ما قاله ماركيز فى أحد حواراته أن المشكلة الكبرى التى تواجه معظم الكتاب الذين لا يكسبون ما يكفى للتفرغ للكتابة هى أنهم يكتبون فى أوقات فراغهم، أى عندما يكونون متعبين، ويعلق قائلًا إن هذا هو الأدب الذى ينتجه الرجال المتعبون، فما بالك برجل صائم أو رجل ممتلئ عن آخره، لا أتوقع من أى منهما كتابة مميزة.

ولكن إن حدث وكتبت فى رمضان أفعل هذا فى آخر الليل أو ربما قبيل الفجر، حينها يكون جسدى نشيطًا وخفيفًا وروحى كذلك. عادة ما أقضى ساعات النهار إما فى العمل أو فى تتبع حركة الشمس البطيئة نحو مغربها حتى تتوارى مع صوت الآذان، ثم أتجه إلى شاشات التليفزيون، أتابع مسلسلًا أو اثنين، أُفضل الأعمال المأخوذة عن أصول أدبية إن توافرت، وربما أكتب عن أحدها عاقدًا مقارنة بين النسخة المكتوبة والأخرى المصورة. 


 تصيبنى بعض العطلة فى رمضان، ويرتبك نظامى اليومى -هذا إن ادعيت أن لى نظامًا ما- ليس فيما يخص الكتابة فقط، ولكن الأمر يطول كل مناحى الحياة، العمل والقراءة والنوم والتواصل الاجتماعي، كل شئ يتأثر ويخضع لقواعد الشهر الاستثنائي.

ورغم هذه العطلة، أو ربما بسببها، دائمًا ما أحببت رمضان، لأنه يكسر روتين الحياة الرتيب، مضفيًا عليه عادات ونظمًا مختلفة، ويبدو كفرصة لبداية جديدة، مثله مثل رأس السنة وأعياد الميلاد وكل المناسبات التى نستغلها كوعد ببداية لأيام أفضل ونقطة تحول لتغيير نمط الحياة بشكل أكثر إرضاء لأنفسنا، ربما يكون هذا جزءًا من الحكمة الإلهية من شهر رمضان، فرصة للوقوف فى منتصف الطريق والتوقف عن اللهاث، التقاط الأنفاس والتأمل، النظر إلى الماضى.

وما انقضى ثم توجيه وجهنا شطر الأيام القادمة، وهو ما قد ينعكس على كتابتنا أيضًا. عادة ما نهدر تلك الفرص ونعود فور انتهاء الشهر أو المناسبة الاستثنائية إلى روتيننا المعتاد، غير أن الأمل نفسه بانقضاء الأيام القاسية وبداية حياة أفضل يعود وينعش القلب فى كل عام جديد، نستسلم بكامل إرادتنا لهذا الوهم الجميل وكأننا لم نختبر فشلنا فى التجربة من قبل.  


  كانت أحد أسباب سعادتى بمجئ رمضان فى السنين السابقة هو الحنين إلى أجواء طفولية دافئة، ارتبط فيها رمضان بالعديد من الذكريات، إلا أن هذا الأمر صار هو نفسه سببًا فى انقباض قلبى الآن، حيث أعلم يقينًا أن ما من شئ سيعاد، وأن العالم الذى عهدته لم يعد كما كان بعدما فقدت العنصر الأساسى فى كل هذه الذكريات، حدث هذا فى آخر أيام رمضان بالعام قبل الماضى.

ومن بعدها تحوّلت الفرحة الصافية بقدوم رمضان إلى طوفان من هياج المشاعر ونوبات الاشتياق، إلى غصة لا تفارقنى ولكنها تشتد وتتوحش فى تلك المناسبات واللحظات التى اعتدتها حميمية، يقول ميلان كونديرا فى روايته الأشهر (خفة الكائن التى لا تحتمل) «إن السعادة هى الرغبة فى التكرار».

ولذا فإننا نسعى فى رمضان والأعياد والمناسبات إلى العودة إلى نقطة مررنا بها من قبل وشعرنا حينها بالسعادة، قد يمسنا إحساس بالأمان عندما نتصور أننا نلمس الأرض ذاتها مرة أخرى، أو نوهم أنفسنا بذلك إن استطعنا، متجاهلين أن «الزمن البشرى لا يمضى بشكل دائرى.

وإنما يتقدم بخط مستقيم» كما يوضح كونديرا. يظل رمضان رغم هذه الغصة فرصة للتأمل وشحن الطاقة وكسر الرتابة والتقاط الأنفاس والتوقف عن اللهاث، أما الكتابة فهى ما أتوقعه وأنتظره بشغف بعد الصيام.

اقرأ ايضا | أغوز آتاى: النجاح لا يجعلنا سعداء