وقت الهدنة والقراءة

الكتابة في رمضان.. من يكسر الإيقاع دون نشاز؟

للفنان الليبى عبدالرزاق الريانى
للفنان الليبى عبدالرزاق الريانى

كتبت :  إسراء النمر

يضع شهر رمضان الكُتّاب فى حيرة شديدة مع أنفسهم، خاصة هؤلاء الذين يتعاملون مع الكتابة كروتين يوميّ له قدسيته، فلكل كاتب طقوسه الخاصة، فهناك مثلاً من لا يستطيع أن يكتب سوى فى الساعات الأولى من النهار، وهناك من لا تزوره الكتابة إلا فى الليل، وهناك من لا يكتب إلا فى المقاهي، وسط الصخب وبين الناس، وهناك من يميل إلى الهدوء التام وهو يكتب.. بصحبة فنجان القهوة وسجائره، لكن مجيء رمضان يفرض إيقاعه الخاص وطقوسه على الجميع، فتُغلق المقاهى فى النهار، ويلتزم الناس بمواعيد الإفطار والسحور، فتنقلب حياة البعض، فيصبح ليلهم نهاراً، ونهارهم ليلاً، وأول من يرتبك أمام هذا التغيير المفاجئ، رغم حلاوته، هو الكاتب، لأنه فى فعل الكتابة يبتهل ويصلى أيضاً، وفى هذا التلاقى والتشابه بين طقوس رمضان وطقوس الكتابة، يعجز البعض عن مواصلة مشاريعهم الإبداعية، بل وعن مواصلة القراءة أو أى فعل يستلزم مجهوداً ذهنياً، فى المقابل هناك من تصير حياتهم أكثر تنظيماً، فيستطيعون إنجاز الكثير، بمتعة هائلة ورغبة فى دمج الطقوس ببعضها، فالكتابة بما هى فعل إبداعى متعدد المراحل، لا تنحصر فى حالة الإمساك بالقلم والخط على الورق، بل تتضح تجلياتها الأخرى -رمضانياً- فى الإعداد الذى يشمل القراءة والمشاهدة والسماع، كمراحل أولية فى عملية الكتابة. ينكسر الإيقاع اليومى عند الكتّاب، لكن دون نشازٍ يفضح جمال السيموفنية الكتابية. 
هنا يحكى لنا عدد من الكُتّاب والكاتبات عن أحوالهم مع الكتابة فى رمضان وعما إذا كانوا يصومون عنها أيضاً!

فى سنوات الطفولة الأولى، حين كنا نسكن حى شبرا العريق، ذلك الحى الذى مازالت تخايلنى أطياف حكاياته حتى الآن، كان لشهر رمضان الكريم بهجة خاصة لا أنساها أبدًا؛ حيث الشوارع تتزين والحركة التى لا تهدأ ليلًا أو نهارًا، وحيث جو من المحبة والوئام يعم بين أبناء هذا الحي.

ولا أنسى أبدًا كيف كانت العائلات (سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين) يتسابقون فى دعوات الإفطار. وقد كانت من أجمل اللحظات فى طفولتى عندما أنزل بعد الإفطار إلى الشارع لألعب بالفانوس مع من هم فى مثل سنى من الأطفال من أبناء الجيران.


لكن بعد أن غادرنا منزلنا القديم منذ سنوات بعيدة وانتقلنا إلى حى المعادي، تغيرتْ أشياء كثيرة منها افتقادى لتلك البهجة القديمة التى تصاحب قدوم هذا الشهر الكريم. أغلب الظن أننا كبرنا بفعل الزمن الذى لا يهزمه أحدٌ.

ولم نعد نمتلك تلك البراءة التى تجعلنا نبتهج بأبسط الأشياء ونفرح بالمتع الصغيرة. لكن ما لا يمكن أن أغفله أن شهر رمضان فى مصر تحول أيضًا فى السنوات الأخيرة إلى حالة عجيبة من الهرولة اليومية فى كل شيء منذ لحظات الاستيقاظ الأولى، الكل لا يفكر إلا فى أصناف الطعام التى ستوضع على مائدة الإفطار. وهو نراه متجليًا فى كل أشكال التزاحم فى الأسواق ومحلات الحلويات.


وقد تبدأ مقدمات هذه الهرولة قبل قدوم شهر رمضان بأيام لإنهاء كل الأمور التى تتطلب الذهاب إلى مصالح حكومية بسبب الخوف من زحام الطرق، فالأماكن الحكومية لا تكاد تنجز شيئًا يذكر فى هذا الشهر. وما إن يبدأ شهر رمضان حتى نشهد سباق الهرولة الحقيقى بالنهار والاسترخاء التام بعد الإفطار أمام من المسلسلات التلفزيونية.

والحقيقة أننى أعجب أشد العجب  حين أتأمل كيف تحول هذا الشهر الكريم من شهر للروحانيات وللتدبر إلى شهر تسوده ثقافة الطعام واللا عمل. لكننى منذ أكثر من عشر سنوات بعد تمضية شهر رمضان عدة مرات خارج مصر بدأت أنزعج من المبالغات فى أى شئ.

ودربتُ نفسى على أن أصنع طقوسى الخاصة. وللفرار من هذا الضجيج اتخذت قرارًا بأن يكون شهر رمضان وقتًا للهدنة من العالم وفرصة للتأمل بعيدًا عن الضجيج وأى نشاط اجتماعى أو ثقافي.

لا يتوقف الأمر عند حد الاعتذار عن أى دعوات عائلية للإفطار أو حتى المشاركة فى ندوات أو قراءات شعرية، بل إننى تقريبًا أقول لأصدقائى بكل وضوح لا لقاءات معكم فى رمضان ونكتفى بالتواصل عبر الهاتف أو الرسائل البريدية.


لقد قررتُ أن أجعل شهر رمضان للقراءة فقط، خاصة الكتب ذات الطابع الفكرى التى تحتاج وقتًا وإيقاعًا أهدأ فى الحياة. ويوجد ركن فى مكتبتى للكتب المؤجلة وقائمة تنتظرنى من الكتب الدسمة التى أجلتُ قراءتها طوال العام بسبب ضيق الوقت. تستهوينى أيضًا القراءة فى تاريخ الأديان أو التصوف أو علم الكلام. كما أننى أعاود القراءة فى الكتب المقدسة القرآن والإنجيل والتوراة. نادرًا ما أقرأ أدبًا فى تلك الفترة إلا إذا كان ديوانًا جميلًا لا أستطيع مقاومة إغرائه.


وعادة أبدأ طقس القراءة بعد الإفطار لمدة ساعتين ثم بعدها أذهب للتريض ساعة على النيل ثم أعود لأستكمل بقية البرنامج بعد السحور، غالبًا ما يكون لمشاهدة الدراما التلفزيونية نصيب قليل فى هذا البرنامج، قد أتابع مسلسلًا أو اثنين على الأكثر، إذا وجدت ما يستحق المشاهدة، لأننى عادة ما أؤجل أو أفضل مشاهدة الأعمال الدرامية الجيدة بعد انقضاء شهر رمضان الكريم بعيدًا عن تأثير آراء المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي. ولعل من محاسن هذه الفترة أنها تعيد شحنى للعودة إلى الكتابة فيما بعد.

اقرأ أيضا | في آداب القاهرة ميلاد متجدد لـ«جابر عصفور»