الرواية الفلسفية.. فن عربى قديم ازدهر في الغرب لهذا السبب

توفيق الحكيم  و نجيب محفوظ
توفيق الحكيم و نجيب محفوظ

حسن حافظ

الرغبة فى التعبير عن أعقد الأفكار الفلسفية بلغة سهلة مفهومة لكل البشر، كانت واحدة من أكبر أحلام جميع المفكرين، لذا لم يكن غريبا أن يلجأ كثير من المبدعين للرواية ليعبروا من خلالها عن أفكارهم الفلسفية، وهى وسيلة أدت لظهور وتبلور مفهوم الرواية الفلسفية، التى ازدهرت فى الغرب رغم أن أصولها عربية، لتعود للساحة العربية مجددا فى السنوات الأخيرة، وتكون أحد أنماط الكتابة الروائية التى يقبل عليها القراء فى مصر والعالم العربي، خصوصا أن نجيب محفوظ جرب الكتابة الفلسفية فى بعض أعماله، كما أن الإقبال على الرواية المترجمة سمح بتوافر الكثير من النصوص الروائية الفلسفية أمام القارئ العربي.

 

تعود بدايات الرواية الفلسفية فى شكلها الأكثر نضوجا إلى المحاولات العربية الأولى، إذ أنتجت العقول العربية أربع صيغات لقصة (حى بن يقظان)، وهى قصة فلسفية كتبها ابتداء الأستاذ الرئيس ابن سينا، ثم حولها إلى ما يشبه الرواية الفيلسوف الأندلسى ابن طفيل، ثم أعاد صياغتها على أسس فلسفية مختلفة شيخ الإشراق السهروردى تحت مسمى (الغربة الغريبة)، لتكون آخر صياغة أدبية فلسفية على يد ابن النفيس فى القاهرة، الذى كتبها تحت عنوان (فاضل بن ناطق)، وأطلق على راويها اسمه كامل، ونشر الدكتور يوسف زيدان النصوص الأربعة معا، فالبطل فى النصوص الأربعة يرمز إلى النوع الإنساني، فهو حى من الحياة وابن يقظان، أى ابن العقل اليقظ، لعرض الآراء الفلسفية لكل فيلسوف.


لكن من حوّلها إلى رواية هو ابن طفيل الأندلسي، الذى حول القصة إلى شكل روائى لطفل يضل طريقه إلى جزيرة ويربى على يد غزالة، وينشأ وحيدا ليكتشف الدنيا والحياة وصولا إلى الحقيقة المطلقة، وعندما يعود إلى حياة البشر لا يألف زيفها الذى يعمى عن الحقيقة المطلقة، فيقرر العودة إلى الجزيرة المعزولة مجددا، بعدما قابل شخصا يدعى أبسال، الذى كان يبحث عن العزلة والتقى ابن يقظان، ويرى الكثيرون أن هذه الرواية الفلسفية قد أثرت بشكل مباشر فى الأدب الأوروبي، بعدما ترجمت إلى اللاتينية واللغات الأوروبية بداية من القرن السابع عشر، وربما يكون أكثر من تأثر بها هو الكاتب الإنجليزى دانييل ديفو، فى كتابة رائعته الروائية (روبنسون كروزو).

 

ومع ازدهار الفلسفة والرواية فى أوروبا، كان من الطبيعى أن يحدث التلاقى بينهما، فاستخدم الكثير من الفلاسفة الرواية باعتبارها الشكل المقروء الأكثر انتشارا لكى ينشروا أفكارهم الفلسفية فى جمهور أوسع، خصوصا مع عصر الأنوار فى فرنسا، مع عدد من كبار المبدعين فى القرن الثامن عشر، أمثال فولتير الذى كتب روايات فلسفية مثل: (كانديد) التى يسخر فيها من فلسفة التفاؤل عند الفيلسوف الألمانى لايبنتز، ورواية (صادق أو القدر)، التى يقدم من خلالها فولتير قصة فيلسوف من بابل القديمة، كواجهة يعرض من خلالها فولتير آراءه الفلسفية التى كانت محل انتقاد من قبل الكنيسة، كما كتب الفيلسوف والمحلل السياسى والاجتماعى جان جاك روسو روايته (جولى أو نيو هيلواز) التى يقدم من خلالها فلسفته ورؤيته المنتصرة للأخلاق الأصلية بعيدا عن الدين، والتى يمكن الوصول إليها بالعقل، لذا لم يكن غريبا أن تحظر الكنيسة الرواية.

وفى نفس الفترة، نجد المفكر الفرنسى مونتسكيو، يكتب رواية (رسائل فارسية)، التى استخدمها لتوجيه انتقادات شديدة الحدة لأنظمة الحكم الأوروبية وقتذاك، بينما كتب المفكر والروائى دنيس ديدرو، روايته (جاك القدرى وصديقه)، التى يقدم من خلالها فلسفته وإيمانه بالحتمية، فكل شيء مكتوب على الجبين، وكل شيء فى الحياة مكتوب مسبقًا فى لفافة كبيرة بحسب ما يصرح أحد أبطال الرواية، لتصبح الرواية الفلسفية ركنا أصيلا فى المشهد الروائى الأوروبى طوال القرن التاسع عشر، ففيه ظهرت واحدة من أشهر الروايات الفلسفية وهى رواية (هكذا تكلم زرادشت) للفيلسوف الألمانى نيتشه، الذى بشر فيها بفلسفة الإنسان الأعلى، ولتقدم بعدها العديد من المحاولات الفنية الأكثر نضجا التى تمزج بين تشويق الرواية وعمق الأفكار الفلسفية، كما هو حال رواية (سد هارتا) للألمانى هرمان هيسه، وهى رواية تحمل عنوانا من اللغة السنسكريتية، بمعنى من وجد معنى وجوده، بما يكشف عن نوعية القضايا الفلسفية التى تناولتها الرواية.

 

وقدم كلٌ من جان بول سارتر وألبير كامو أفكارهما كأبرز المفكرين والفلاسفة فى فرنسا منتصف القرن العشرين، من خلال الأعمال الروائية، وقدم سارتر فى مسرحيته (الذباب) مناقشة فكرية حول مفهوم الإرادة الحرة، بينما قدم كامو، أفكاره الفلسفية كرائد لفلسفة العبث والوجودية، فى شكل روائي، وهو ما يظهر بوضوح فى روايته الأشهر (الغريب)، التى تتحدث عن عبثية الوجود الإنسانى وعبثية الموت، ثم قدم فى روايته (الطاعون) مجموعة من الأسئلة الفلسفية حول القدر.

 

ثم أخذ شعلة الرواية الفلسفية الروائى التشيكى الفرنسى ميلان كونديرا، الذى يركز فى رواياته على طرح أفكار فلسفية بقدر اهتمامه بالحبكة الدرامية، مثلما هو الحال فى روايته (حفلة التفاهة) و(كائن لا تحتمل خفته)، ويعد الكاتب الأمريكى إرفين يالوم أحد أبرع من يقدم الرواية الفلسفية الممزوجة بالتحليل النفسى كونه أستاذ مادة التحليل النفسى فى الجامعات الأمريكية، وهو ما يظهر بوضوح فى روايته (حين بكى نيتشه)، و(علاج شوبنهاور)، و(مأزق سبينوزا)، ومن عناوين الروايات واضح أن أبطالها هم ثلاثة من كبار الفلاسفة فى القرون الماضية.

 

ولم تتوقف محاولات الرواية الفلسفية عند حد تقديم أعمال روائية تعرض أفكارا فلسفية، بل استخدم البعض الرواية فى التأريخ للفلسفة، أى عرض المسار التاريخى لتطور الفلسفة فى شكل روائي، وهو ما قدمه بنجاح باهر الروائى النرويجى جوستاين جاردر، فى روايته الشهيرة (عالم صوفى) 1991، التى تُرجمت عن النرويجية إلى مختلف لغات العالم، والتى عدت مع الوقت المدخل الأنسب لقراءة الفلسفة، إذ قدم عبر قصة الفتاة صوفى مداخل سلسة لأبرز التيارات الفلسفية وتطورها، وفى العالم العربي، عرفت الرواية الفلسفية طريقها إلى المشهد المصري، فيعد توفيق الحكيم من أوائل من قدموا أفكارا فلسفية فى أعماله الروائية والمسرحية بداية من مسرحية (أهل الكهف)، ومجموعته القصصية (أرنى الله)، كما قدم نجيب محفوظ وهو خريج قسم الفلسفة فى جامعة القاهرة، لمحات فلسفية قوية فى روايته (الثلاثية) عبر شخصية كمال عبد الجواد، ثم قدم عدة روايات بأفكار فلسفية تتعلق بتاريخ الإنسانية والعلاقة بالله والبحث عنه، كما فى روايات (أولاد حارتنا) و(الطريق)، ثم قدم رواية فلسفية خالصة فى (الشحاذ)، عبر شخصية المحامى الذى يمر بمحنة الأسئلة الفلسفية حول الوجود والذات، ويطرح محفوظ الكثير من الأسئلة ذات البعد الفلسفى والصوفى فى الرواية بشكل مكثف ما يجعلها واحدة من أهم رواياته ذات البعد الفلسفي.

 

وسار على درب الرواية الفلسفية فى المشهد العربي، الروائى التونسى محمود المسعدى فى روايته (حدث أبو هريرة قال)، والروائى الليبى إبراهيم الكونى فى روايته (عشب الليل)، والمفكر والروائى المغربى حسن أوريد فى (سيرة حمار)، والروائى اللبنانى أنطوان الدويهى فى (آخر الأراضي)، والروائى الليبى فرج العشة فى روايته (سينسيوس وهيباتيا)، كما يمكن عد بعض روايات المصرى يوسف زيدان روايات فلسفية مثلما هو حال (عزازيل) و(فردقان: اعتقال الشيخ الرئيس).