الجنيه الجملى

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

وأهم أسباب فقدان الجنيه لقيمته شيئان: قلة الإنتاج وزيادة السكان بصورة تفوق الحد، وتحاول الحكومة أن تنهض بالتنمية، لكن المشكلة تبقى فى الزيادة السكانية

نحن الآن فى القاهرة المحروسة. بالتحديد فى قلعة صلاح الدين. العام 1832. مصر الآن تحت حكم محمد على باشا. وها هو رئيس الديوان العالى، الذى تتبعه جميع دواوين الدولة، يقف أمام الباشا وقفة عسكرية. ويسأله بكل إجلال واحترام: تمام أفندم. بلغنى أنك طلبتنى.


قال محمد على: اسمع حضرة رئيس الديوان العالى، لقد قررت قراراً مهماً أريدك أن تقوم بتنفيذه فوراً وبكل دقة.

مولاى عزيز مصر، حضرتك تأمر وأنا أنفذ.

أنت تعلم أن ولدنا إبراهيم باشا يحارب فى الشام ضد الدولة العثمانية، وهذه الدولة لا يصلنا منها إلا كل شيء سيئ. لكن أسوأ ما يصلنا منها هو العملات الذهبية، فهى ناقصة الوزن، والناس لا تثق بها، لذلك رأيت أن نخرج عليها حتى فى العملات التى نتعامل بها فى مصر.

هل تريد سموك أن تكون لنا عملات خاصة بنا فى مصر؟

بالضبط. هذا هو ما أريده تماماً.

تفضل سموك، أكمل. أنا أسمع.

أريد إصدار عملة ذهبية قيمتها مائة قرش، وأخرى قيمتها خمسون قرشا، وثالثة قيمتها خمسة وعشرون قرشاً. ولابد أن تصدر هذه العملات دون تأخير وتستبدل بالعملات العثمانية.


علم أفندم وسينفذ أمر حضرتكم بكل دقة. 


وصدرت لأول مرة عملة مصرية تساوى مائة قرش، لكن الملاحظ أن «محمد على» لم يستخدم لفظ «الجنيه» فى تسمية هذه العملة. المهم أن هذه العملة كانت هى البداية. واستمر الحال هكذا حتى عام 1881.


إصلاح العملة


 رحب الخديو توفيق بناظر المالية. أشار له بالجلوس. جلس فى وقار. بادره الخديوي: خيراً يا باشا، لماذا طلبت هذا الاجتماع؟


 قال الوزير: مولاى توفيق باشا، لقد استقر رأى المراقبين الماليين، الإنجليزى والفرنسى،على ضرورة إصلاح العملة المصرية، وهما يريان أن إصلاحها سيساهم كثيراً فى ضبط الأمور المالية لمصر. لكن هذا لا يمكن أن يتم دون موافقة سموكم، لذلك جئت أعرض عليكم الفكرة.

أى شيء يقوله المراقبان الماليان أنا موافق عليه. إبدأوا فوراً.

وبدأوا فعلاً، لكن العمل لم يتم، لأن الأحداث اشتعلت فى مصر، وتم الاحتلال، وتوقف كل شيء، حتى استقر الأمر للإنجليز، وأعيد العرض مرة أخرى فى عام 1884. 

وها هو وزير المالية مصطفى فهمى باشا يعرض الأمر على خديوى البلاد توفيق باشا:

إسمح لنا أن نعيد مشروع إصلاح العملات المصرية يا أفندينا. 

من الذى سيتولى التنفيذ؟

سنشكل لجنة من كبار المختصين، ستكون برئاستى، وبإشراف المستشار المالى البريطانى، وعضوية كل من: قاضى أفندى، وشيخ الإسلام، ووكيل المالية، وناظر الضربخانة (دار سك العملة)، ووكيل إدارة عموم الجمارك، ومدير بنك الكريدى بالإسكندرية.

عظيم. هل معك مذكرة بذلك؟

ها هى المذكرة يا أفندينا. نرجو التوقيع عليها.

ها هو توقيعى.


كانت مهمة اللجنة تحديد وحدة العملة المصرية، وبيان أنواع النقود المساعدة، ووضع شروط سك هذه النقود، وعيارها، واستعانت اللجنة بمديرى دور الضرب فى لندن وباريس وفيينا وألمانيا، وأخيراً تقدمت بعد عام من البحث باقتراحاتها فى تقرير أقرته الحكومة بدكريتو خاص فى 14 نوفمبر 1885، واستقر الرأى على اتخاذ الجنيه المصرى وحدة للنقود، وتقرر وزنه 5.8 جرام من الذهب.

وهذه هى أول مرة تظهر تسمية الجنيه المصرى.

وجدير بالذكر أن كلمة الجنيه ليست عربية، بل هى اسم عملة إنجليزية قديمة كانت متداولة منذ أكثر من أربعمائة عام مضت «guinea». 


 المهم أن قيمة الجنيه تحددت بثمانية جرامات ونصف جرام من الذهب الخالص، فإذا كان جرام الذهب عيار واحد وعشرين الآن يساوى 844 جنيها، فإن الجنيه المصرى الذى خرج للنور عام 1885 يساوى الآن سبعة آلاف ومائة وأربعة وسبعين جنيها بسعر اليوم، فهل عرفنا قيمة الجنيه الذى رفض السايس أن يقبله بقشيشاً هذه الأيام؟


الجنيه الأحمر


جرت الأيام بسرعة. نحن الآن فى عام 1898. مصر تحت حكم الخديو عباس حلمى الثانى. والسلطة المالية مركزة فى يد المستشار المالى البريطانى، والمستشار المالى الآن هو سير إلوين بالمر. وها هو سير إلوين بالمر يدعو الرأسمالى اليهودى المتمصر سوارس للقاء مهم. 


قال بالمر لسوارس: دعوتك اليوم لأطلب منك المشاركة فى مشروع مهم.


أى مشروع يا جناب المستشار؟


مشروع إنشاء بنك، بنك أهلى مصرى.


إنشاء بنك؟! 


مسيو سوارس، أنت تعلم أن بريطانيا لها استثمارات كثيرة فى مصر، وهى تزداد يوماً بعد يوم، ونريد بنكاً ليدعم هذه الاستثمارات، واليهود الآن هم أكبر قوة مالية فى مصر، وهم أصحاب الخبرة الكبيرة فى الأعمال المالية، لذلك رأيت أن نتعاون معا من أجل مصلحة بريطانيا ومصلحتك.


أنا لا مانع لدى. لا أحد يكره المصلحة، لكن دعنى أدرس الأمر.


هذا حقك. واسمح لى أن أعطيك هذا الملف، ففيه دراسة وافية للفكرة، ويمكنك طبعاً أن تضيف أو تحذف ما تراه. أنا أعرف أن من حقك أن تبحث عن مصالحك.


أعدك أن أرد عليك فى أقرب وقت ممكن.


درس سوارس المشروع. استعان بالخبراء. تبلور الموضوع أمام عينيه. تقدم به لجناب الخديو عباس حلمى الثانى. وها هو يشرح للخديوي نشاط البنك:


البنك يا صاحب الجناب الخديوى سيقوم بتقديم القروض للحكومة المصرية حين تحتاج لقروض، ولحكومة السودان أيضاً، كما سيقدم القروض للفلاحين وأصحاب المصانع، وسيقبل الودائع والسندات والأسهم ويفتح حسابات ذات فوائد للعملاء.


عظيم. أنا سعيد بأن يكون هناك بنك مصرى يعمل فى مصر، بدلاً من أن تنفرد البنوك الأجنبية بالساحة المصرية. 


بقى هناك شيء واحد يا أفندينا، سيكون للبنك حق إصدار الأوراق المالية.


أوافق. ليبدأ البنك على بركة الله.


وصدرت الموافقة على إنشاء البنك فى نهاية أغسطس 1898، تحت اسم البنك الأهلى، وبدأ البنك فى إصدار الأوراق المالية، وصدر الجنيه المصرى الورقى لأول مرة. وكان الجنيه عبارة عن سند كتب عليه البنك «أتعهد أن أدفع عند الطلب مبلغ جنيه واحد مصرى لحامل هذا السند» وتحت هذه العبارة «تحرر هذا السند بمقتضى الدكريتو المؤرخ فى 25 يونيو 1898».

وطبع الجنيه الأول باللون الأحمر، وطبعت عليه صورة جمل واقف وجمل آخر يبرك على الأرض. وكانت قيمة الجنيه الورقى تساوى جنيهاً ذهبياً. 


الحاج جنيه


كانت قيمة الجنيه المصرى فى بداية القرن العشرين تزيد على قيمة الجنيه الإنجليزى بقرشين ونصف القرش.

وكى نعرف قدرته الشرائية يكفى أن نذكر أن رأس مال بنك مصر عند إنشائه (1920) كان ثمانين ألف جنيه، ورأس مال شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة كان ثلاثمائة ألف جنيه، وشركة مصر للطيران عند تأسيسها سنة 1932 لم يزد رأسمالها عن عشرين ألف جنيه.

أما إعانة الحكومة المصرية السنوية للإذاعة عام 1934 فقيمتها خمسة آلاف جنيه. ورأسمال شركة مصر للتمثيل والسينما التى أسسها طلعت حرب عام 1925 كان خمسة عشر ألف جنيه. وتكلفة بناء خزان أسوان لم تزد عن ثلاثة ملايين جنيه. وكان مرتب الموظف المحترم حوالى ثلاثة جنيهات. لقد كان الجنيه فعلاً هو «الحاج جنيه».


الجنيه فى منتصف القرن


كان للجنيه فى الخمسينات وما بعدها قيمة كبيرة، صحيح أنه لم يعد يساوى جنيهاً ذهبياً لكنه كان يساوى ثلاثة دولارات، وحين قامت مصر بتأميم قناة السويس قال عبد الناصر فى خطبة شهيرة، إن شركة القناة تساوى مائة مليون دولار، أى حوالى خمسة وثلاثين مليون جنيه. وفى الستينات بنت مصر السد العالى فكانت تكلفته ثلاثمائة مليون جنيه، وكان مرتب موظف الحكومة الجامعى فى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات سبعة عشر جنيها، رفعها السادات إلى خمسة وعشرين جنيهاً فكانت زيادة عظيمة. 


الجنيه فى زماننا


فقد الجنيه قيمته شيئاً فشيئاً، وبعد 30 يونيو راح خصوم النظام الجديد يجمعون العملة الصعبة من المصريين العاملين فى الخارج لمنع تدفق الدولارات على مصر، لتضييق الخناق على الدولة المصرية، وحربها اقتصادياً فارتفع سعر الدولار، ومع تعويم الجنيه تجاوز سعره ثمانية عشر جنيهاً. ولقلة قيمة الجنيه صار الناس يستهينون به، لحد أن سايس السيارات يحتقره ولا يرضى به بقشيشاً، ويسميه الناس «الأهيف»، وهى صيغة مبالغة على وزن «أفعل» من كلمة، «الهايف». فسبحان مغير الأحوال..

وأهم أسباب فقدان الجنيه لقيمته شيئان: قلة الإنتاج وزيادة السكان بصورة تفوق الحد، وتحاول الحكومة أن تنهض بالتنمية، لكن المشكلة تبقى فى الزيادة السكانية، فهل يحاول المصريون أن يتحكموا فى هذه الزيادة ليسترجع الجنيه بعض قيمته؟