مبدعون فى أواخر العمر.. أدباء كتبوا أروع أعمالهم بعد الخمسين

مبدعون فى أواخر العمر
مبدعون فى أواخر العمر

كتب: حسن حافظ

عادة ما تظهر الموهبة الإبداعية مبكرًا، لكن فى أحيان أخرى تظهر الموهبة فى سن متأخرة، كوجبة تعد على نار هادئة، فيبدأ المبدع رحلة صعود هادئ، حتى يصل إلى قمة الجبل ولحظة انفجار الموهبة التى تخلد اسمه بمنتج أدبى يحفر اسمه كأحد المواهب الكبيرة، وهى ظاهرة تظهر بوضوح فى الأدب العربى والعالمى لكثير من المبدعين الذين كتبوا أعظم أعمالهم بعدما تقدم بهم العمر وتخطوا سن الأربعين، بل كتب بعضهم أعظم أعماله عند سن التسعين، مثلما هو الحال مع الجاحظ أمير البيان العربى، وغيره الكثير من المبدعين الذين عرفوا طريق الإبداع بعد اكتمال أدواتهم وانفجار موهبتهم، ليظل أمر الموهبة وطريقة التعبير عنها من أهم ألغاز الإنسانية.
 

فى عام 1956 ظهرت رواية (بين القصرين) كأول أجزاء ثلاثية أديب نوبل، نجيب محفوظ، وكان وقتها يبلغ الـ45 من عمره، لكن هذا العمل الذى ألفه النجيب فوق الأربعين من عمره كتب له الخلود فى دنيا الأدب، وأصبحت أشهر رواية عربية فى القرن العشرين، ووصلت بالرواية الواقعية إلى ذروتها، وعندما أصيب بعدها بحالة توقف أدبى ظن البعض أنه أصيب بعقم فنى، لكنه عاد وجدد نفسه أدبيا وانطلق إلى مرحلة أكثر خصوبة وإبداعا، مع مرحلة الرمزية التى بدأها بـ(أولاد حارتنا)، ثم وصل بها الذروة مع أحد أعظم النصوص العربية (الحرافيش)، والتى كتبها وهو فوق الستين من عمره، ليؤكد أن الإبداع الحقيقى لا يرتبط بسن ولا يقف عند حد، نموذج نجيب محفوظ ليس فريدا، بل هو ظاهرة متكررة فى الأدب العربى والعالمى على مدار التاريخ تثبت أن الإبداع الأدبى عادة ما يرتبط بالتقدم فى العمر.

أدباء كتبوا أروع أعمالهم بعد الخمسين

وإذا عدنا إلى الشعر الجاهلى، نجد نموذج الشاعر النابغة الذبيانى، الذى قال الشعر فى سن كبيرة، لذا لقب بالنابغة، حتى قيل "أشعر الناس النابغة إذا رهب"، وكان يعقد له قبة حمراء فى سوق عكاظ، ويجتمع الشعراء عنده ليحكم أشعارهم، والجميع مقر له بجودة الحكم ورجاحة رأيه، لكن التجربة التى تثبت أن العمر مجرد رقم هى تجربة عميد البيان العربى أبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الذى عاش نحو 100 عام، وترك عدة كتب من روائع الأدب العربي، لكن الغريب أنه ألف أبرز وأشهر كتبه بعدما تقدم به العمر مثل كتاب (البخلاء)، أما أشهر كتبه (الحيوان) و(البيان والتبيين)، فمن المؤكد أنه ألفهما وهو قريب من التسعين من عمره، ليدخل الخلود الأدبى من باب نهاية العمر.


وهو نموذج يتكرر مع الفقيه والعالم الكبير ابن حزم، الذى عاش حياة مرفهة فى مقتبل حياته، إذ كان والده من وزراء الخلافة الأموية فى الأندلس، وعاش حياة الرغد سنوات شبابه، ثم بدأ فى تعلم الأدب والشعر والتاريخ، ثم انتقل لتعلم المنطق، ومنه إلى الفقه وأصول الدين، حيث نبغ وألف الكثير من الكتب التى خلدت اسمه، منها كتابه (الفصل فى الملل والأهواء والنحل)، الذى انتهى منه وهو فى عمر 56 سنة، كما أنه ألف كتابه الأشهر (المحلى بالآثار فى شرح المجلى بالاختصار)، والذى مات قبل أن يتمه وهو فى السبعين من عمره. الأمر الذى تكرر مع المؤرخ المصرى الكبير أحمد بن على المقريزى، الذى يعد أهم مؤرخى مصر فى العصور الوسطى، فقد بدأ يكتب معظم مؤلفاته التاريخية المهمة بعد سن الأربعين، وأنتج بعد سنوات النضج أهم كتبه التاريخية (المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار)، و(المقفى الكبير).
وفى المشهد الإبداعى العربى الحديث نجد أن شهرة الكاتب يوسف زيدان، تعود إلى روايته (عزازيل) والتى كتبها وهو فى الخمسين من عمره تقريبا، ونشرها فى 2008، فعلى الرغم من أنه سبق له أن أصدر العديد من الكتب الأكاديمية المتعلقة بتحقيق التراث، ورواية (ظل الأفعى)، إلا أن شهرته الواسعة تأسست على النجاح الساحق لراوية (عزازيل)، التى دخل بها عالم الأدب من الباب الواسع، فقد حصل على جائزة البوكر العربية عن الراوية ذاتها، والتى فرضت اسمه على المشهد الروائى المصرى والعربى، وقريب من هذا جرى مع الكاتب الكبير خيرى شلبى، الذى كتب أمتع رواياته وهو فوق الستين، مثل روايات (صالح هيصة)، و(نسف الأدمغة)، و(وكالة عطية)، و(صحراء المماليك)، وقد حقق الشهرة الجماهيرية الواسعة فى أخريات أيامه على الرغم من الاعتراف النقدى المبكر به كأحد الحكائين المصريين الكبار.

خيرى شلبى أنجز أمتع رواياته بعد الستين 

الظاهرة نفسها نجدها فى الأدب العالمى، فلدينا ألكسندر دوماس الأب، الأديب الفرنسى العالمى، الذى كتب أروع إنتاجه فى العقد الخامس من عمره، خصوصا رواية (الكونت دى مونت كريستو) 1844-1846، و(الفرسان الثلاثة) 1844، وفى نفس القرن ظهر أحد أعظم كتاب الرواية على مر العصور، وهو الروسى فيودور دوستويفسكى، والذى كتب أروع أعماله الأدبية وهو فى عمر 45 وما تلاها من سنوات عمره، ففى هذا العمر كتب روايته (الجريمة والعقاب) 1866، ثم (المقامر) 1867، و(الأبله) 1869، و(الشياطين) 1972، و(المراهق) 1875، ثم روايته الأشهر (الإخوة كارامازوف) 1880، التى كتبها وهو فى عمر الـ 59، وكانت آخر أعماله إذ توفى بعد نشرها بعدة أشهر.


أما الكاتب الإيرلندى صمويل بيكيت، والذى يعد أحد مؤسسى ما عرف باسم مسرح العبث، فقد كتب أعظم أعماله فى سن متأخرة من حياته، وخصوصا بعد مروره بتجربة الحرب العالمية الثانية المدمرة، خصوصا مسرحيته الأكثر شهرة وتأثيرا فى الأدب العالمي؛ (فى انتظار جودو)، وهى المسرحية التى انتهى من تأليفها العام 1949، أى وهو فى العمر 43. وكذلك نجد الكاتب التشيكى الأصل ميلان كونديرا، يعرف طريقه إلى الذروة الإبداعية فى سن متأخرة، فقد أسس شهرته على (كتاب الضحك والنسيان) 1978، والذى كتبه وهو فى 49 من عمره، ثم كتب عمله الأشهر (كائن لا تحتمل خفته) العام 1984، أى وهو ابن 57 عاما، ليحظى بشعبية هائلة على مستوى العالم، وتنهال عليه الجوائز العالمية بعدها. 


ويشكل الأديب البرتغالى خوسيه ساراماجو، حالة نموذجية لكيف تأتيك الشهرة وتصاحب المجد فى آخر العمر، فالرجل الذى بدأ الكتابة فى مرحلة الشباب باعتباره صحفيا وكاتبا للروائية والمسرحية، توقف عن الكتابة الإبداعية لنحو عشرين سنة، وركز على عمله الصحفى، ولم يخلص للكتابة الأدبية إلا بعد عام 1974، أى وهو فى 52 من عمره، ولم يعرف الشهرة الحقيقية إلا بعد نشر روايته الأشهر (ثورة الأرض) عام 1980، أى وهو يشق طريقه نحو الستين من عمره، ثم عزز مكانته الأدبية بعدد من الروايات التى أثارت الكثير من الجدل والاستقبال النقدى الحافل والمبيعات القياسية مثل (الطوف الحجرى)، و(الإنجيل يرويه المسيح)، و(العمى)، و(الكهف)، و(انقطاعات الموت)، وتوج هذه المسيرة التى بدأت بعد الخمسين بحصوله على جائزة نوبل للآداب العام 1998، اعترافا بمنجزه الأدبى الكبير.

دوستويفسكى كتب «الإخوة كارامازوف» عند شمس المغيب

نفس الحالة تواجهنا عند استعراض قصة صعود نجم المفكر والأديب الإيطالى أمبرتو إيكو، الذى عاش على التدريس الجامعى متخصصا فى علم الرموز والعلامات، وعد أحد كبار المتخصصين فى مجاله على مستوى العالم، لكن الشهرة لم تدق بابه إلا بعدما نشر روايته (اسم الوردة) 1980، وهو فى 48 من عمره، ورسخ مكانته الأدبية سريعا بعدد من الروايات التى حققت نجاحا هائلا وترجمت إلى مختلف لغات العالم، ومنها: (بندول فوكو) و(مقبرة براغ) و(الشعلة الغامضة للملكة لوانة)، والتى جعلته واحدا من أكثر الكتب مبيعا على مستوى العالم.