عاجل

فهد العتيق يكتب : تحولات وأحلام رجل دين سابق

اللوحات للفنان: مصطفى رحمة
اللوحات للفنان: مصطفى رحمة

يرى الأستاذ لطف أنه مر فى بداية حياته بمرحلة عدم توازن نفسى واجتماعى، فهرب تدريجياً للتشدد الدينى، لكنه لم يستمر طويلاً. حكى لنا مرة عن هذه المرحلة الفاصلة فى تاريخه كما يقول. ذلك أنه فى لحظة تجلت فيها روحه الحديثة والمرحة وإبداعات خياله المفتوح على كل شىء، دخل فى الحياة الجديدة، بعد هذا التحول من متشدد دينى إلى إنسان عادى.

تحول إلى مجرد رجل دين سابق. لهذا تجلى خياله المعطل سابقاً وتصور نفسه يخطب فى أصدقائه الجدد مازحاً ومغرداً بالقول: أيها الأخوة الكفرة. وضحك لهذا المقطع التمثيلى. ثم عاهد نفسه أن يعوض ما فات من سنوات الزهد والتشدد بالعمل الجاد، فى القراءة والكتابة التى كان يحبها منذ طفولته، وأيضاً العمل فى العقار أو أسهم البنوك، لجنى المال لدفع تكاليف حياته الجديدة التى سوف تزيد مصاريفها بعد هذا التحول الكبير.

أخذ رجل الدين السابق بهذه الملاحظة التى أراحته، وجعلته يرضى عن نفسه، رغم شعوره بالتناقض البسيط أو الظاهرى، بين فكرتى الكتابة والأدب مع العمل فى التجارة والعقار، ولهذا صار يحاول أن يبحث فى ذاكرته عن أديب مارس التجارة، لكن ذاكرته لم تساعده. قال فى نفسه يواسيها: الأدب مجرد هواية. ثم انقطع تفكيره عند هذه النقطة، بعد أن هجمت جيوش من الهواجس على وقته.

وبدأ الأديب الجديد لطف يرى أن مسألة أن تكون رجل دين سابقا، فهذا يعنى أنك فى نظر الناس قد تخليت عن الشدة والقسوة والقيود، واتجهت إلى الانفتاح والتسامح والمرونة الاجتماعية والدينية، التى تعم المجتمع الآن. ورأى أن هذا دهاء وذكاء فى شخصيته، لأن هذا التحول سيكون فى مصلحته بشكل عام.


رجل الدين السابق والأديب والتاجر حالياً، هذا المدعو عبد اللطيف، رجل كادح وموظف قديم فى وزارة التعليم، متوسط الطول ويميل جسده للامتلاء وله وجه حليق وبشنب خفيف بعد التحسينات الجديدة. ولأنه موظف متقاعد مبكراً فقد بدأ على الفور فى تنفيذ مشاريعه المؤجلة.

ومن بينها فتح دكانه المغلق من عدة سنوات، أيضاً لم ينس حكاية حادثة السيارة لولده العام الماضى، ولهذا قرر على الفور أن يبدأ تنفيذ أفكاره الجديدة بزيارة جارهم الكبير فى بيته هذا المساء، والتفاهم حول هذا الموضوع القديم بينهم. جارهم يسكن فى نهاية الشارع الفرعى، فى بيت كبير على شارعين، بيت يليق بمدير عام.


لبس المواطن لطف عباءة المشلح السوداء التى ورثها عن والده، وتوجه مشياً على الأقدام إلى بيت الجار، وهو فى حال حماس وفرح وتفاؤل كبير. وصل بهيئته الجديدة وبثوبه الأبيض الطويل والعباءة السوداء المطرزة والمذهبة أطرافها كأنه عريس، وصل ورأى هذا البيت كأنه قصر صغير تحيطه الأشجار من كل جانب.

توقف أمام الباب المفتوح للقصر الصغير فى اللحظة التى هبت فيها من الداخل موجة هواء باردة ومعها روائح أكل لذيذ، كان رجل الأمن النحيف والطويل يتأمل المواطن بصمت من كرسيه تحت الشجرة وكأنه غير مرئى، والمواطن ينظر إلى داخل القصر الصغير بفضول.


فى هذه اللحظة قال رجل الأمن: أهلاً وسهلاً، فارتعب عبد اللطيف وتلفت يبحث عن مصدر الصوت. قام الشاب الطويل من مكانه بهيئته وملابسه التى تشبه ملابس العسكرى. مشى تصحبه ابتسامة حارس أمن، اقترب من البوابة، فشاهد عبد اللطيف عن قرب، هذا الولد الطويل الأسمر والنحيف فحياه بصوت متلعثم ثم طلب منه السماح له بالدخول.
 سأله رجل الأمن: هل معك موعد.


 قال عبد اللطيف: لا. 
ثم أخبر حارس الأمن: صاحب البيت وافق على مقابلتى فى بيته بعد أن اتصلت به قبل يومين. 
وأكمل بحماسة طفل مرتبك: هو يعرفنى وأنا أريده فى موضوع مهم. 
قال رجل الأمن: للأسف يا عم. الدخول ممنوع. 
وأضاف: لكن انتظر قد يسمح لك بالدخول بعد انصراف الضيوف. 
ثم سأله رجل الأمن عن اسمه.
اسمى عبد اللطيف أبو فرج.
أهلاً وسهلاً. هل أنت صحفى.
لا. أنا أريد الجار حفظه الله فى موضوع خاص.
 نظر رجل الأمن فى وجهه بإشفاق ثم سمح له بالجلوس على كرسى أبيض من البلاستيك مجاور لكرسيه. جلس عبد اللطيف على الكرسى تحت الشجرة المظلمة، وقد بانت على وجهه علامات الراحة بعد توتر الحوار السابق وتوقعه أن يتم طرده من المكان، جلس مستمتعاً بالراحة بعد وقوف طويل. جلس الحارس على الكرسى المجاور له، ثم بدأ بينهما نوع من الحوار الممل وغير المفيد، مثل من أين أنت. وأين تعمل. وأين تسكن. كان البواب يسأله بلا مبالاة ثم يلتفت إلى باب البيت، والرجل يجيب على الأسئلة بكل اهتمام وحماسة، وكلما أراد سليمان الاسترسال قاطعه رجل الأمن بسؤال آخر لا قيمة له. 


حتى وصل البواب إلى السؤال المهم: ماذا تريد من سعادته.
وهنا شعر عبد اللطيف كأن ماساً كهربائياً خفيفاً لسع روحه فارتبك بعد سماعه كلمة سعادته. ولهذا حكى حكايته بارتباك واختصار. 
قال لرجل الأمن: فى العام الماضى قام ابن هذا الجار بدهس ابنى فى ذلك الشارع القريب بسيارته وكسر رجله. وأشار بأصبعه المرتجفة إلى ذلك الشارع الفرعى الصغير والمظلم المقابل. 
وأكمل: وأنا مع الأسف سامحته ابتغاء مرضاة الله ولم آخذ حقى، لكن الآن تغيرت الأحوال وصارت لدىَّ ظروف مادية وأرجو منه مساعدتى. 


قال الحارس وهو مشغول ويتلفت فى كل الأنحاء: وهل شفى ابنك؟
قال المواطن: الحمد لله. لكنه يعرج قليلاً.
قال الحارس وهو يبتسم: أنت سامحته والآن غيرت رأيك.
قال عبد اللطيف بتلعثم: ليس كذلك بالضبط. يعنى. أقصد...
قال الحارس: كيف يعنى. وكان الحارس لا يزال يبتسم ابتسامة ساخرة شعر معها عبد اللطيف بالضعف والإحراج.
قال عبد اللطيف: نعم أنا سامحته وانتهى الأمر. 


ثم أوضح مرتبكاً: لكنه قد يستطيع الآن مساعدتى لأن ظروفى ساءت وأنا الآن فى وضع محتاج.
قال الحارس: انتظر ربما تتمكن من مقابلته. ثم وقف الحارس وذهب إلى البوابة بعد أن سمع صوتاً من الداخل يناديه.
استراح الجار عبد اللطيف أبو فرج بعد أن تركه الحارس، شعر بالراحة بعد أن غادره الحارس بأسئلته الثقيلة والمخيفة، أغمض عينيه على الكرسى مع هذا الهواء المنعش الذى يلفح وجهه فيخدره، يرغب أن ينام قليلاً بعد يوم كامل من المشاوير السخيفة. 


يتذكر عبد اللطيف ذات مساء لا زال خالداً فى ذاكرته، قبل حوالى عام حين بدأ فى التحول من متشدد دينى إلى إنسان عادى غير متشدد. رمى ثياب السنة القصيرة ولبس ثياباً طويلة لها ياقات جميلة، وكان قد سبق هذا التحول المفاجئ جيوش من الأفكار والهواجس التى كانت تقول له ما فائدة هذا التشدد الأعمى يا عبد اللطيف، خصوصاً أنك صرت تمشى فى طريق مهجور الآن، وصرت تخسر كثيراً ولا تكسب شيئاً. 


وهكذا تحول لطف بعد أن كبر قليلاً إلى إنسان عادى غير متشدد. لكنه لاحظ أنه تحول أيضاً، منذ أشهر قليلة إلى إنسان شره متلهف للحياة ومتعها بمبالغة كبيرة وانفعالات عالية، وأحس فعلاً أن تصرفاته بعد هذا التحول صارت أقرب إلى تصرفات وميول المراهقين أو الشياطين أو المتوترين، تلك التصرفات التى كان يحتقرها حين كان رجلاً رسمياً ومتشدداً دينياً، وكان ينصح الناس بالابتعاد عن الجشع والتهور والأنانية والمبالغة فى الاستهلاك وطلب شهوات وملذات الدنيا. شعر أنه بدأ ينتقد ذاته، خصوصاً بعد هذا الموقف المهين، أمام بيت الجار الكبير وكأنه شحاذ. 


يتذكر أنه فى تلك اللحظة التحولية المحرجة بالنسبة له، حاول الابتعاد والغياب تدريجياً عن أصحابه القدامى من المتشددين، والاقتراب من أقرباء وأصدقاء جدد من عشاق الحياة والعمل والمال والسفر. قال لنفسه بهمس: أنا متشدد سابق لكننى على الأقل لم أكن وزيراً سابقاً، وكان فى ذهنه أن الوزير السابق ليس صاحب سمعة جيدة خصوصاً فى ظل ظاهرة الفساد المنتشرة بقوة بين كبار المسئولين حيث جمع أغلبهم فى أرصدتهم الملايين دون وجه حق.

وأخبر نفسه أيضاً أنه لم يكن رجل دين سابقا بالمعنى الحرفى للعبارة، لأنه لم يطلق فتاوى علنية مبالغاً فى تشددها أو إرهابها فى وسائل الإعلام ولم يخطب يوماً فى الناس، فقد كان مؤذناً ومساعد إمام ومساعد خطيب مسجد. مجرد مساعد.


أفاق من غفوته وهواجسه وانتبه أنه يجلس أمام بوابة كبيرة لقصر غامض، بيت مظلم محاط بالأشجار. بيت مغلق ومطفأ الأنوار والمكان كله صار مظلماً. اعتدل فى جلسته على الكرسى مصدوماً وفى عينيه أثر نوم عابر، مشى باتجاه الغرفة الصغيرة للبواب وقد قرر ترك هذا البيت ونسيان هذا الموضوع كاملاً. التفت فوجد رجل الأمن أو البواب شبه نائم على سرير خارج الغرفة.

وحين وقعت عيناه على عينى البواب ابتسم ابتسامة مجاملة مرتبكة، لم يكن الوقت مناسباً للكلام أو التفاهم، وقف عبد اللطيف مـتأرجحاً مع إحساس خفيف بذلك الدوار القديم الذى يزوره فى الحالات الغامضة والمخيفة.


قال بصوت مبحوح وخافت من أثر الهواء البارد: مع السلامة.
 قال له البواب بصوت فيه نوم: سألنا المسئول عنك، وقال لنا إنه لا يعرف أحداً بهذا الاسم.
 لم يرد المواطن عبد اللطيف، كان مرتبكاً ومصدوماً ويريد إغلاق الموضوع.
هز رأسه ثم مشى بهدوء فى الشارع من حيث أتى، ناسياً أومتجاهلاً أن يرد على رجل الأمن. مشى إلى بيته وهو يفكر فى خطط جديدة وهادئة وبديلة قد تعيد له حقوقه القديمة، التى أهدرها عامداً متعمداً، فى لحظة من لحظات غياب الوعى والحكمة والبصيرة فى وقت واحد.

اقرأ ايضا | يرى الأستاذ لطف أنه مر فى بداية حياته بمرحلة عدم توازن نفسى واجتماعى، فهرب تدريجياً للتشدد الدينى