الأمير والسلطان

بيرم التونسي: الأمير والسلطان

بيرم التونسي : الأمير  والسلطان
بيرم التونسي : الأمير والسلطان

الأمير هو أمير شعراء العامية، محمود بيرم التونسي، أما السلطان فهو أبو الفتوحات السلطان الظاهر بيبرس، وهناك رأي يقول إنه يوجد وجه للشبه بين الاثنين، فكلاهما أبعد وتغرب عن أهله ووطنه في بداية حياته؛ فالأول تم نفيه بعيدا  - عن وطنه مصر - إلى عدة بلاد عاش فيها حياة قاسية لمدة تقترب من عشرين عاما، والثانى تم اختطافه من بين أهله وعشيرته، ثم بيع كعبد فى أسواق النخاسة.. وفى النهاية – بالجد والعزيمة والإصرار – أصبح كل منهما علما من الأعلام فى تاريخنا.. وتمر الأيام ويكتب الأمير سيرة السلطان، التى عرفت باسم «سيرة الظاهر بيبرس».


الأمــير اسمه الحقيقى محمود محمد مصطفى بيرم الحريرى، سافر جده  مصطفى من تونس إلى الحجاز لقضاء فريضة الحج، وأثناء العودة قرر الاستقرار بمدينة الإسكندرية، وكون عائلة وبنى منزلاً فى حىالأنفوشى وأنجب والده محمد وعمه محمود، كما أسس مصنعاً صغيراً لنسج الحرير.


ولد بيرم فى 5مارس وليس 23 مارس عام 1893، على عهدة حفيده المستشار محمود بيرم التونسى وفى سن 4 سنوات ألحقه والده بالكتاب؛ ولأن معاملة شيخ الكتاب كانت قاسية، فقد تركه  ولم يتعلم منه سوى  مبادئ القراءة والكتابة، بعد ذلك دخل المعهد الدينى بمسجد المرسى أبو العباس.

وأثناء الدراسة بالمعهد  وفى سن 12 سنة توفى والده؛ فانقطع عن المعهد وتعلم النجارة على يد زوج أمه التى تزوجت بعد وفاة والده، وعندما بلغ 17 سنة توفت والدته، فانتقل للإقامة مع أخته الكبرى، وقرر أن يجعل له وسيلة رزق فافتتح محلا للبقالة وتزوج وعاش حياة هادئة، وبدأ اتجاهه نحو القراءة والأدب والاطلاع على مختلف أنواع المعرفة، وساعده على ذلك أنه كان يتمتع بحافظة قوية وأيضا قدرة عجيبة على هضم ما يقرأه، وفى عام 1912 اطلع على كتاب فى العروض، فكان نقطة تحول فى حياته، وأصبح لديه قدرة على كتابة مختلف الأزحال والأشعار.


مع تقدمه فى عالم الثقافة أخذت تجارة البقالة تضمحل لظروف معينة.. فى هذه الأثناء طالبه المجلس البلدى بمبالغ كبيرة كضرائب؛ فألهمته قريحته بعمل قصيدة بالفصحى عن  المجلس البلدى، ونشرت فى الصفحة الأولى بإحدى جرائد الإسكندرية موقعة باسمه.

وذاع صيته بعدها وأصبح شاعرا مشهورأَ؛ فترك التجارة وأنشأ عام 1919 مجلة أسماها «المسلة» التى أغلقتها السلطات بعد نشر قصص الفضائح السلطانية فى أزجال ساخرة أسماها قصائد البامية السلطانى والقرع الملوكى،حيث فضح فيها الملك فؤاد والد الملك فاروق. بعدها أصدر مجلة باسم «الخازوق»، ودأب كل يوم على نشر فضيحة جديدة عن الملك فؤاد وأنصاره؛ فأصدرت الحكومة المصرية أمرا إداريا بإبعاده عن البلاد وقامت بترحيله إلى تونس فى 25 أغسطس 1920.


اتصل فى تونس بالعائلة التى تنتمى أصوله إليها؛ فاقتصرت الصلة على بعض المجاملات البسيطة، بالإضافة إلى أنه لاقى كثيراً من التدقيق الأمنى؛ فقرر السفر إلى مرسيليا بفرنسا ومنها إلى باريس للبحث عن عمل، ولكنه فشل فى ذلك؛ فسافر إلى مدينة ليون، التى عاش فيها حياة قاسية جدا. بعد حوالى عام ونصف أخذه الحنين إلى مصر؛ فلجأ إلى حيلة يعود بها؛ فاختصر اسمه فى جواز السفر الجديد.

واستطاع بهذا الجواز العودة إلى مصر فى مارس عام 1923، واستمر وجوده فيها حوالى 14 شهراً التقى فيها بسيد درويش وكتب له عدة أغان سياسية وكذلك أوبريت شهر زاد. قام أحد زملائه من أهل الأدب بالإبلاغ عن وجوده فى مصر؛ فتم القبض عليه ونفيه مرة أخرى إلى مدينة مرسيليا يوم 25 مايو 1923، وهناك عاش حياة ملؤها التشرد والجوع.

وبعد مرور 9 سنوات ترك فرنسا إلى تونس، وفيها استطاع إنشاء جريدة أسبوعية اسمها «الزمان» وجدت رواجا عظيماَ فى شمال إفريقيا وصارت ملتقى أقلام الأحرار فى تونس والجزائر؛ فهال ذلك السلطات الفرنسية وقررت ترحيله خارج تونس، وخير فى البلاد التى يرحل إليها فاختار سوريا.

ورغم أن نشاطه لم يكن إلا نشاطاَ أدبياَ فى سوريا فإن السلطات الفرنسية – التى كانت تحكم  فيها حينئذ– قررت ترحيله إلى أى بلد غير عربى فى غرب إفريقيا حتى لا يستطيع مزاولة أى نشاط كتابى!  

 


تم وضعه على ظهر سفينة النفى، وأثناء رسوها فى بورسعيد تمكن من التسلل منها إلى الشاطئ ثم إلى داخل مصر فى يوم 6 مايو 1938. عاد الزملاء من أهل الأدب يبلغون سلطات الأمن بما كان من قرار إبعاده عن البلاد.

ولكن الأوضاع فى ذلك الوقت كانت قد تغيرت، حيث توفى الملك فؤاد وتولى الحكم ابنه فاروق. فى ميلاد فاروق كتب بيرم قصيدة مدحه فيها؛فأعجب بها عند سماعها شخصيا، وسأل المحيطين به عن سبب البحث عن بيرم فقيل له بلباقة «أنه كان بينه وبين والدك خلافات سياسية» فقال : وأنا لا شأن لى بسياسة أبى، وكان هذا فصل الخطاب فى بقائه فى مصر!


بعد العودة إلى مصر والاستقرار بها، ترك بيرم  السياسة وتفرغ للإنتاج الفنى والاجتماعى من أوبريتات إلى روايات للسينما والإذاعة والتليفزيون إلى أزجال ومقالات بالجرائد إلى أغان كثيرة توجها بالأغانى التى ألفها لسيدة الغناء العربى أم كلثوم. 


وحين قامت ثورة 23 يوليو استقبلها بيرم بحماس شديد، وعبر عن ذلك فى  مذكراته بما يلى «قام الجيش بما كنت أنا أنادى به من إصلاح، كما قضى على كل ما كنت أهاجمه من فساد، والحمد لله أننى لم أمت قبل أن تتحقق آمالى».


وفى صباح يوم الثورة ذهب مباشرة من المقهى الذى كان يرتاده إلى مبنى الإذاعة ليلقى بصوته أول زجل يحتفى بقيام الثورة بعنوان «عيد الثورة». وقد جاء هذا الزجل على وزن زجل «القرع السلطانى» الذى تسبب فى نفيه لأول مرة وكأنه يغتسل من ذنب اقترفه بمدحه للملك فاروق ليصفح عنه، وظل هذا الذنب يؤرقه حتى قيام الثورة:

العيــد ده عيــد عليــه القيـمــه *** ما فيهشى تشريفه ولا تعظيمه
صابحين وأعراضنا أقله سليمه *** والقيد محطم والأسير متحرر
مرمرزمانى يا زمانى مرمر

صوت المدافع كان زمان يرعبنى*** كأنها متسلطه تضربنى
بقت المــدافع كلهــا تطــربنى *** من كل طلقه سامع الله اكبر
مرمر زمانى يا زمانى مرمر

وفى عام 1954حصل على الجنسية المصرية بقرار من وزير الداخلية آنذاك البكباشى جمال عبد الناصر، وفى سنة 1960 منحه الرئيس جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية لمجهوداته فى عالم الأدب.
فى آخر سطور بمذكراته المؤرخة بتاريخ 1 يناير 1961 كتب بيرم النص الآتى:
«إن إنتاجى الآن وأنا أعيش فى حلوان التى لا يلائم صحتي، سواها قاصر على ملحمة الظاهر بيبرس التى تقوم الآن محطة الإذاعة بإذاعتها فى حلقات يومية بعد أن كانت قطعتها بزعم أنها لا تُمثِّل الحقيقة التاريخية.. ولكن ملحمة الظاهر بيبرس مثلها مثل الأدب الشعبى الخاص بالملاحم مثل قصص ملاحم «أبو زيد الهلالى سلامة».

 

و«الزناتى خليفة» و«عزيزة ويونس»  و «الزير سالم» و «عنترة بن شداد»، ليس المقصود منها التاريخ بقدر ما هو مقصود منها حفز الهمم نحو تقليد أصحاب البطولات فى هذه الروايات، لا سيما وأن رواية الظاهر بيبرس كانت تمثل الفصل الأخير من فصول انتصار الصليبيين فى العصور الوسطى؛ فلعلها تذكير للعرب بأن واجبهم الأول أن يقتفوا أثر الظاهر بيبرس بطردهم الصهاينة من فلسطين، كما طرد هو والعروبة معه الصليبيين والمغول منها!! ووجود مبالغات فنية وخيالات براقة أمور لازمة لاستكمال روعتها الروائية.

وإلا كان يجب وضعها ضمن علوم التاريخ، إذا كان المطلوب هو سرد الحقيقة عارية!! والذى كان له الفضل فى إعادة إذاعتها واستكمال حلقاتها، هو الرئيس جمال عبد الناصر الذى أمر بأن لا تنقطع حلقاتها.. عسى أن يمتد بى الأجل حتى أقوم باستكمال حلقات هذه الرواية.. وبهذا تنتهى حياتى مكافحًا كما بدأت مكافحًا؛ إذ لا أنتوى أن أقوم بعدها بأى عمل إلى أن ألاقى ربًّا كريمًا..

والحمد لله الذى وفقنى إلى ما وفقنى إليه»؛ لهذا عند تناول إبداعاته سوف نفرد لهذه السيرة المساحة التى تستحقها.


نبذة عن إبداعات بيرم
بيرم التونسى معروف عند الغالبية العظمى من أبناء هذا الجيل - للأسف -  بأغانيه التى كتبها وتغنى بها كثيرون من المطربين والمطربات، وعلى رأسهم كوكب الشرق أم كلثوم، والموسيقار محمد عبد الوهاب والموسيقار فريد الأطرش وغيرهم، وفى الحقيقة أن هذه الأغانى لا تمثل سوى جزء من إبداعه،الذى يتمثل فى الآتي:
• الأزجال والأشعار: كتب مجموعة هائلة من الأزجال والأشعار تمس جوانب الحياة المختلفة.


وقد جمع منها حتى الآن 471 قطعة، مع العلم بأن هناك كثيراً من القصائد التى كانت تنشر بتوقيع أسماء آخرين أو أسماء مستعارة، كما توجد قصائد أخرى كتبت وتم نشرها فى تونس بالفصحى واللهجة التونسية والعامية المصرية أثناء فترات نفيه هناك.


2–الأوبريتات الإذاعية والمسرحية وأشهرها: 
* أوبريت شهر زاد والذى قام بتلحينه خالد الذكر سيد درويش.


* أوبريت عزيزة ويونس الذى أخذ بيرم قصته من الملحمة الشعبية العربية « السيرة الهلالية» المعروفة  بـ «سيرة بنى هلال» والتى جرت أحداثها أبان الدولة الفاطمية، وقد تم بث الأوبريت من الإذاعة فى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي. 


3- الأعمال النثرية : المقامات - سيد ومراته فى باريس - الفوازير.
• الأعمال السينمائية: كتب القصة والسيناريو والحوار لعد كبير من الأفلام السينمائية، كما كتب السيناريو والحوار لعدد من الأفلام البدوية والتاريخية.
• المقالات الصحفية والقصة القصيرة.


• السيرة الشعبية للظاهر بيبرس، التى كتبها فى نهاية الخمسينيات من القرن الماضى، وقدمتها الإذاعة عام 1960 فى حلقات مسلسلة على جزءين.
سيرة الظاهر بيبرس
السلطان الظاهر بيبرس شخصية تاريخية فذة، من النادر تكرارها فى التاريخ الإنسانى؛ لأنه جمع ما بين البراعة العسكرية، والدهاء السياسى، والحنكة الإدارية؛ ولأن مثل هذه الصفات يصعب أن يحوزها شخص واحد؛ لذا رفعه معاصروه فى خيالهم إلى درجة أصحاب الخوارق الذين فى مقدورهم فعل أى شىء.

ورغم أنه لم يكن مصرى الأصل إلا أن الذاكرة  المصرية خلدته بوصفه ابن تاريخها، ولم تلتفت إلى أنه مملوكى جاء من بلاد أخرى؛ فتحول الظاهر بيبرس فى الوجدان المصرى من حاكم عادى إلى بطل يروى سيرته قصاصون محترفون أو شعراء الربابة فى مقاهى القاهرة - ودمشق أيضا - التى تخصص بعضها فى سيرته حتى وقت قريب.

وكانت تعرف هذه المقاهى بـ»المقاهى الظاهرية». وهذا يعد استثناء فى التاريخ العربى والتاريخ بوجه عام. وقد أضاف شعراء الربابة على هذه السيرة أشعارًا وأزجالاً وأمثالا شعبية لجذب المستمعين حتى أصبحت أضخم ملاحم الأدب الشعبى العربى، إذ يبلغ عدد صفحاتها بعد تجميعها حوالى 16 ألف صفحة!


فى آخر خمسينيات  القرن الماضى كتب بيرم التونسى سيرة هذا البطل بأسلوب عصرى بالمقارنة مع السيرة الشعبية التى ابتدعت فى العصر المملوكى، والتى كانت تغلب عليها الخيالات البراقة والمبالغات الفنية، ولا يظهر فيها الظل التاريخى واضحاَ كما فعل بيرم.

وأيضا أضاف إلى التسلسل الدرامى للأحداث مجموعة هائلة من الأشعـار والأزجـال تخدم السياق الدرامى لأحداث السيرة، وقـدمت هـذه السيرة من خـلال الإذاعة عام  1960فى حلقات يومية.توفى المرحوم بيرم التونسى فى 5 يناير عام 1961 أثناء إذاعة هذه الحلقات، وبالتحديد بعد إذاعة الحلقة رقم 79من الجزء الثانى، و كان قد سبق له الانتهاء من الكتابة حتى الحلقة 87؛ فأكمل الشاعر عبد الفتاح مصطفى وكتب الحلقة 88، وللأسف توقفت إذاعة هذه الحلقات عند هذا الحد.

 


وتعتبر سيرة الظاهر بيبرس أضخم وأعظم أعمال بيرم الإذاعية، ولا أكون مبالغا إذا قلت أنها أعظم وأضخم أعماله على الإطلاق، حيث تتضمن مجموعة هائلة من الأشعار والأزجال والأغانى ضمن السياق الدرامى لأحداث السيرة؛ ففى الجزء الأول فقط كتب ما يقرب من 300 قطعة شعرية بالإضافة إلى 100 أغنية.

وفى الجزء الثانى حوالى ثلث هذا العدد.هذا ناهيك عن البناء الدرامى للأحداث المستندة على الظل التاريخى، وإذا ما تأملنا ما جاء بهذه السيرة  من إبداع، يزداد انبهارنا بالموسوعية المعرفية للعبقرى بيرم التونسى فى علوم شتى؛ فنراه مستوعبًا جيدًا لأحداث التاريخ، وعارفًا  بجغرافية المنطقة التى دارت فيها الأحداث.

ومحللاً لسيكولوجية الأشخاص والجماعات التى أتى ذكرها بالسيرة، ومطوعًا  وناحتًا  للكلمات كى تعبر عن المواقف الدرامية، وأشياء كثيرة لا يمكن أن تتوفر فى شخص واحد إلا إذا كان عبقريًا.. وبيرم التونسى كان كذلك.


ظلت هذه السيرة بعد إذاعتها  حبيسة الأشرطة التى سجلت عليها، إلى أن وفقنى الله لتفريغ محتواها وكتابتها على الورق (1400ضفحة)، ثم التقسيم إلى ثلاثة أجزاء، كل جزء يعالج مرحلة معينة من حياة بطل السيرة أى الظاهر بيبرس صدر بالفعل في معرض القاهرة للكتاب ٢٠٢٢.


ما أحوجنا الآن إلى قراءة هذه السيرة التى تمجد بطولة وفروسية أحد قادتنا العظام، كما تلقى الضوء على فترة مهمة من تاريخنا تم فيها التصدى لقوتين كبيرتين كانتا تهدد الأمة فى ذلك الوقت، وقد عبر بيرم عن ذلك حيث قال:
جيش التتار من الشرق هاجم
ومن البحار داخله جيوش الروم
وأيضا فيها كثير من العبر والدروس التى تفيدنا فى وقتنا الحاضر، وفى هذا المقام سنقدم  نماذج شعرية كتبها بيرم ضمن السياق الدرامى لأحداث السيرة، تتماس مع واقع الحال الذى نعيشه:
لما بقيت سلطان بدأت متاعبى
وبقيت أفكر فى هموم وهموم
مسئول أمام الله عن كل مظلمه
يحس بيها فى البلد مظلوم
مسئول عن الطفل اليتيم اللى خده
يبات بكف معلمه ملطوم
مسئول عن العامل إذا طاح وانكسر
يبات ليلتها من عشاه محروم
مسئول أنا السلطان عن كل أرمله
فى العيد ولادها ما تلاقى هدوم
إذا الجنود ضربوا وشتموا الرعايا
مسئول عن المضروب والمشتوم
اللى يظن الملك نعمة وسعادة
يا ناس ما هو إلا جهول وغشوم
اللى تولَّى حكم الناس يا غلبه
مهما عدل فيها يبات مذموم
وانا استلمت الملك والملك لله
ولسه فوق راسى سُحب وغيوم
أعداء قريبه فى بلادى وملتي
وأعداء بعيدة من التتر والروم
الاثنين أجاهدهم ومالى مساعد
فى الدنيا غير الواحد القيوم
وكما نرى لقد حدد بيرم فى هذه القصيدة ملامح الحكم الرشيد فى أى زمان أو أى مكان.
النموذج الثانى: يردد البعض الآن مقولة «لماذا تشترى  مصر هذا الكم من الأسلحة الآن «، فيرد بيرم على لسان الظاهر بيبرس « لا سلام بلا سيف يحمى ثماره»:
يا نفسى تتمنى تخوضى المعارك
والناس تتمنى السلام يطول
ولا سلام بلا سيف يحمى ثماره
والسيف فيابد فرسان تصول وتجول
ويا مريد النوم على فرش عالي
عمرك ما تبلغ غاية المأمول
واللى يظن الأرض خاليه من العدى
ويبات مآمن للزمان جهول
سيفى أيا سيفى وأنت صديقي
وأبات أقولك شكوتى وتقول
أقولك الأجراح هدت بدايني
وتقولى نام مرتاح وقوم مذلول
ما دمت أنا وأنت فى طاعة المهـ
ـيمن العز والإسعاد لنا مكفول
أنام أنا يا لويس ويرتاح فؤادي
لما أجيبك فى القيود مغلول
وأحرم الإفرنج تدخل بلادنا 
وتحتكم فى عرضها والطول
ويا إلهى لا تخيب رجايا
واجعل دعايا فى السما مقبول

مشاهد من سيرة الظاهر بيبرس:
بركة خان
فكر الأمير ركن الدين بيبرس- قبل أن يلى السلطنة- القيام بمغارة لزيارة بلاد التتر للوقوف على قوة هولاكو واستعداداته لغزو البلاد الإ سلامية، وفى طريقه مر بمملكة أذربيجان، التى كان ملكها رجلا ظالما يذل الرعية ويمارس السلب والنهب منهم ومن الممالك الإسلامية التى حوله؛ فقرر بيبرس قتله وتخليص البلاد والعباد من شروره.

ومكث هناك فترة من الزمن لرد المظالم لأصحابها ومحاولة توحيد ممالك المنطقة لصد هجمات التتار، أثناء ذلك أرسل أحد جواسيس التتار رسالة إلى هولاكو يخبره بما حدث ويستنجد به، وعلى أثر ذلك تم إرسال قوة تترية بقيادة الأمير تغرل للنجدة.  


قال المؤرخون إن الأمير تغرل هو من أحفاد جنكيز خان وابن عم هولاكو، قد اعتنق الإسلام على يد محمود بيبرس، وأسلمت معه قبيلته، وكانت تُدعى القبيلة الذهبية، والسبب فى إسلامه هو المعركة التى دارت بين بيبرس وجنود تغرل؛ حيث أبصر بيبرس يضرب رجاله بدبوسه، فينطرحوا على الأرض أكداسًا محطمة.

وهو فى الوقت نفسه يكبر ويهلل ويخاطب الجنود باللغة التترية، فدارت مناقشة بينهما انتهت بهدنة، طلب فيها تغرل أن يكون ضيفًا على بيبرس، وفى الحال أنشأ بيبرس يقول:
 صلوا على طه الرسول.  
الحمـد للـه اللى مـن فضل جوده
جعـل عـدانا فى حمانا ضـيوف
يا ريت جميع النـاس  نهـار المشا
كل تحلهـا بالــود والمعـــروف
يوم المنى عندى ويـوم السعـاده
لما أشوف فى الناس قلب عطوف
عــدو واحــد بالســلام يبتـدينـى
أحسن ما أقتل من عدايا ألوف
وربنــا خلــق البشــر بالأيـــادى
ولا خلــق ويا الأيـادى سيـوف
يصعـب عليَّ يا أمـير لما تحضـر
وتلاقى جيشك ع الكـرى منسوف
وضعـت أعادينا من سالف الزمن 
بينا وبينكـم نائبـات وخـدوف
من يوم خروجهم من حصون المدينه
بنى اللعينة فى البـلاد بتطـوف
خلقــوا لنـا فى كـل أمـةٍ أعــادى
وإحنـا نقـابلهـم بقلـب رئوف
جلس بيبرس مع تغرل وأخذ يوضح تعاليم الإسلام السمحة  التى لا تدعو للحرب إلا دفاعا عن النفس ؛ فانشرح قلبه ونزلت عليه هداية من الله و دار بينهما هذا الحوار:
تغرل : أنا عاوز أكون تترى مسلم.
بيبرس : مد إيدك.
تغرل : اتفضل.
بيبرس : قول أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
تغرل : أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
بيبرس : اسمع يا أمير تغرل.. من دلوقتى إذا قتلت مسلم أو سعيت أو ساعدت على قتل مسلم، هتموت كافر وربنا يدخلك جهنم.
تغرل  : مش ممكن أنا أموّت مسلم، لكن اسمع ولد .. مش لازم حد يعرف إن أمير تغرل صار مسلم، أنا وأنت فقط .. اسمك إيه ولد تترى مسلم؟
بيبرس : اسمى محمود بيبرس.
تغرل : أنا عاوز واحد اسم مسلم، تغرل اسم كافر.
بيبرس : هههه.. أنت مبروك وكلك بركة، نخلى اسمك بركة.
تغرل : بركة خان.
بيبرس : بركة خان طبعًا.. إيه الخدمة اللى تقدر تعملها للمسلمين يا بركة خان؟
بركة خان : اسمع .. ابن عمى هولاكو إذا كان يروح يضرب مسلمين فى أذربيجان وللا بغداد أنا مش يروح، كمان قبيلة ذهبية كله لازم يسلم.
بيبرس : كام عدد قبيلتك؟
بركة خان : 100 ألف ولد.
بيبرس : والتتر كلهم كام؟
بركة خان : هوه  كتير ألف ألف ألف ألف ألف.
بيبرس : لو قبيلتك الذهبيه تسلم زى ما أسلمت، تغلبوا جميع التتر غير المسلمين. 
بركة خان: إن شاء الله.. تسلم إن شاء الله.
بعد ذلك أمر بركه خان جنوده أن يستعدوا للرحيل قبل طلوع الفجر. وانسحب بركة خان فى سكون الليل بعد أن ودَّع بيبرس، وبكى لفراقه، وعاهده على أن يكف عنه أذى التتر، ويكون فى نجدته إذا ما استطاع إلى ذلك  سبيلاً، ووجه لبيبرس دعوة لزيارته فى بلادة.


واصل بيبرس رحلته إلى بلاد التتر، وفى طريق عودته فكر فى أن يلبى دعوة بركة خان لزيارته، فواصل السير حيث تقيم القبيلة الذهبية واتجه نحو المسجد ذى المآذن الباسقة، والقباب الشامخة، فوجده غصًّا برجال خشعت قلوبهم، وانحصرت لذكر الرحمن، وأشرقت وجوههم بنور الإيمان.

وما أشد دهشته عندما سمع الأذان بنغم حجازى يهز القلوب، ثم تلاه الخطيب بلسان عربى مبين، لا لكنه فيه ولا عجم ولا ركاكة، وتفسير ذلك أن هولاكو عندما نشر الرعب فى هذه الأصقاع كان العلماء يفرون منها ومعهم كتبهم أو يختفون فى المغارات ، فلما سمع هؤلاء العلماء أن بركة خان اعتنق الإسلام، وأخذ فى إصلاح  ما خربه ابن عمه.

وجعل يفتش عن حملة القرآن وعلماء الدين، فخرجوا إليه من مخابئهم، ووجدوا منه رجلاً أرسله الله ليجمع شتات المسلمين، ويجبر كسر الدين، وقد أكرم وفادتهم، فانفتحت المدارس والمكاتب، وانعقدت حلقات الفقه واللغة والأدب وسائر العلوم التى كانت منتشرة فى هذه البلاد قبل تخريبها. 


ولما انقضت الصلاة وكان بركة خان فى الصف الأول، تقدم بيبرس وصافحه وتعانقا طويلا، ثم اصطحب بركة خان ضيفه إلى قصره ودار بينمها الحوار الآتى:
بركة خان: اسمع بيبرس أنا عاوز أتكلم كلام كتير عشان جهاد فى سبيل الله، بلاد أناضول كله مش مسلم، لازم ييجى مسلم بلاد مقدونيا، مجر، هرسك، رومانيا بولونيا مش مسلم راخر لازم ييجى مسلم، لازم جهاد فى سبيل الله عشان كله ييجى مسلم.


بيبرس : وأنا أيضًا يا أمير بركة خان جيتك لنتكلم فى الجهاد فى سبيل الله، ثم أنشا يقول:
أصـلى على نـور الجــود محـمـد
اللـى اصـطفاه الـواحـد الـديــان
بعـت مكاتيبــه لكســرى وقيصــر
فـى دولـة الأعجـام والـرومــان
واللى استجاب للحق فاز بالسعـا
ده والجاحدين فى أسفل النيران
أنا يا رسـول اللــه تابع طـريقـك
لمـا هـديت النـاس إلـى الإيمـان
فتح النفوس للنور عند المهيمن
أعظــم مـن اللى يفتــح البلـدان
أنا لا أبالى لو مضى العمر وانتهى 
من بعــد إسـلامـك يا بركه خان
مثلك يا بـركه خــان فى أمة التتر
زى القمــر ليلـة الغمــام يبـــان
فكرتنى بأبو حفـص سيـدنا عمـر
نهــار ما أسلــم ذلـت الأوثـــان
وبعــد إســـلامـه بـــلال المــؤذن
جـلجـل بصـوته عـنـد كــل أدان
طلعتلى إنسان شـريـف المخـايـل
وأنا اللى نادر لما أشوف إنسان
ياما يُعم الخير على الأرض كلها
لمــا تكـون كــل البشـر إخــوان
أقام بيبرس عدة أيام فى ضيافة بركة خان، وذات يوم أثناء جلوسهما فى بهو القصر، إذا بالأميرة «جولسن» ابنة الأمير بركة خان تخرج من إحدى الغرف بهذا البهو ومعها وصيفاتها ومعها أيضًا إناء مملوء بالحبوب، وأخذت تبدر منه للحمام الذى حين رآها انطرب فرحًا، وجعل يقفز على كتفيها، ويلتقت الحَبَّ من يديها وهى تبتسم وتدفعه برفق؛ فلما رآها بيبرس بهت بحسنها وجمالها. 


قبل نهاية فترة الضيافة لبيبرس عند بركة خان، طلب بيبرس يد الأميرة جولسن منه، الذى رحب فرحا بعد موافقة ابنته، وتم عقد القران، ثم تم تجهيز ركب عودة بيبرس وعروسه إلى مصر، حيث سلك الركب عدة دروب إلى بحر قزوين، حيث استقل الركب إحدى السفن كمرحلة فى طريق العودة إلى مصر.


وفى الطريق لا حظ بيبرس أن السفينة تتأرجح برفق على الأمواج، ومعها تميل رأس جولسن على هبوب النسيم الذى يداعب شعرها الأصفر، وقد ابتدأت رموشها الذهبية تصافح خدودها الوردية، فسكت عن الكلام حتى استولى عليها النعاس، فزادت جمالاً على جمالها وفتنةً على فتنتها، فأنشأ بيبرس يقول، صلوا على طه الرسول
سبحان من قلب قلوب البرايا
ومبدل الأحوال إلى أحوال
أصابع الرحمن تملك قلوبنا
تمليك مهيمن ذو جمال وجلال
أنا كنت أقول للقلب لو مال مع الهـ 
ـوى عشق الغوانى والصبايا محال
بنتك يا بركة خان هدت عزايمى 
وأنا اللى عزمى ياما هد جبال
طفلة ولا تدرى ما تفعل عيونها 
الذابلة فى القلب من أفعال
فيها جمال الروض والروض مز
دهر لكن عليها هيبة الشلال
كأنها من نور ربى خلقها 
وخلق جميع الناس من صلصال
ضربت عليَّ نطاق ساحر جعلني
بين السما والأرض مالى مجال
الحب جانى منين يا بنت المغولى
وأنا طول حياتى فى ميدان قتال
داير على الإسلام أحارب جنو
دكم وأدوق الإفـرنج كــل وبــال
طفله ولا تدرى ما تفعل عيونها 
الذابله فى القلب من أفعال
فيها جمال الروض والروض مز
دهر لكن عليها هيبة الشلال
كأنها من نور ربى خلقها 
وخلق جميع الناس من صلصال
ضربت عليَّ نطاق ساحر جعلنى
بين السما والأرض مالى مجال
الحب جانى منين يا بنت المغولي
وأنا طول حياتى فى ميدان قتال
داير على الإسلام أحارب جنو
دكم وأدوق الإفـرنج كــل وبــال   
وبعد أن أصبح الظاهر بيبرس سلطاناَ، اتفق بركة خان معه على محاربة هولاكو، وأرسل له رسالة يقول فيها: «قد علمت محبتى للإسلام وعلمت ما فعله هولاكو بالمسلمين، فاركب أنت من ناحية حتى آتيه أنا من الناحية الأخرى؛ حتى نهزمه أو نخرجه من البلاد، وأعطيك جميع ما كان بيده منها»

معركة المنصورة
جنـود اللـه لا يُحصى عــددهــا
ولا ينفـد مـن الـدنيـا مـدادهــا
مـن الأبـابيــل تنـزلك حـجــارة
على الفُجَّار فى لحظـة تبـيـدها
وبجيوش الجراد فى يوم وليـله
يغطى النخـل ما يملى جـريــدها
وبالطــوفـان تتغـــير مـدايـن
فـلا تعــرف قديمها من جـديـدها
وأمـا الــزلـزله لمــا تــــدمــــدم
على القـارات تتغــير حـــدودها
أما الــريـح جنـد اللـه كـانت
عقــوبـة عـاد مـره لا تعيـدها
وريـــح الــبر مـا يبـلغ أذاهـا
ريـاح البحر لما المـوج يزيـدها
عواصف عاد فوق البحر لابيض
عليك يا لويس ما خلفت وعودها
تشوف بعينيك فوق الموج مراكبك
بتتمـرجـح وتنزل فى لحــودها
وتتـمنـى تفـنيــك نـار جـهـنــم
لأن النـــار تـترجـَّى خمــودهـــا
ولسَّه النـار بـاقيه فـى انتظارك
ونـارنا عليك ما يغلى وجـودهــا
وصل لويس إلى دمياط بـ 300 مركب اصطفت فى عرض البحر؛ فلما رأى أهل دمياط هذا العدد، وكانوا قبل ذلك قد اكتووا بنار الغارات الإفرنجية على مدينتهم استولى عليهم الرعب، فتركوا ديارهم ومنازلهم، واتجهوا إلى مدينة المنصورة وفارسكور، بل إنهم تركوا المعديات التى كانت على النيل لأجل نفاذ القضاء والقدر؛ فنزل لويس واحتل دمياط بكل سهولة فى 5 يونيو 1249، ولم يبقَ فى دمياط غير أهل العزم الذين يقولون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ومن بين هؤلاء ولى الله شيحة جمال الدين مع بعض الفقراء المستضعفين. 


احتل لويس مدينة دمياط، وأقام فيها ثلاثة شهور ينتظر وصول بقىة المراكب، ولم يدرِ أنها تبعثرت فى البحر، فاستخار الشيطان، وسار بجيوشه نحو المنصورة  فى طريقه للقاهرة، وكان هو ومن معه يجهلون الطريق، فقطعوا شهرًا كاملاً يسيرون من الشرق للغرب ومن الشمال للجنوب، مع أن المسافة بين دمياط والمنصورة لا تزيد عن 50 ميل يقطعها الماشى فى يومين اتنين.


أصبح معظم الجيش الفرنساوى مغروز فى الطريق لا يعرف هل يذهب إلى القاهرة من اليمين أو من الشمال، وتشاء حكمة الله وقدرته أن يفيض النيل، ويرتفع عن المعتاد عشرة أذرع، فألهم الله أهل البلاد أن يحطموا الجسور، فاندفعت المياه، وغمرت المساحة التى تشغلها جيوش فرنسا، فزادتها «وحسة على وحسة»، فعادت الجنود كأنها فئران المصيدة، نصفها فى الماء، ونصفها فى الهواء، وهنا خرج ولى الله شيحة جمال الدين من مكمنه، وسار حتى أشرف على الجيوش الفرنسية التى تخوض فى مياه النيل، ثم أنشأ يقول، صلوا على طه الرسول:
سبحان ربى إن كان على الماء عـ
رشه ومنه أوجد كل شيء حى
إذا رحم خلقه فبالماء رحمته
وإذا غضب بالماء ما يبقى شي
يا نيل يا مبروك جيت فى أوانك
نكبه على أهل الضلال والغى
يا خير جند الله سايح ورايح
تصد مجرم للكنانه جي
يا نعمة الرحمن أصبحت نقمه
فلا أنتَ مية عوم ولا أنت ري
يا منعش العطشان من حر ناره  
ما لكَ صبحت لهيب بتكوى كي
أذل خلق الله من سل سيفه 
عشان يخيف  الناس يخاف المي
يا من على أرض العباد انتشرتم
النيل بأمر الله طواكم طى

عثر جاسوس الإفرنج «جوان» فى قرية سلامون على أعرابى ساذج دلَّه على الطريق الجاف الموصل إلى القاهرة، فمشى معه الأعرابى لقاء ريالات معدودات؛ لأنه حسبه أحد التجار المسافرين، فلما عرف جوان هذا الطريق عاد إلى لويس ليخبره بما علم؛ أمر لويس أخاه «الكنت روبرت» أن يأخذ معاه نصف الجيش الفرنساوى ويذهب من الطريق الجديد.


فى هذا الوقت توفى الملك نجم الدين أيوب، وأخفت زوجته شجرة الدر هذا الخبر حتى لا يؤثر ذلك على الروح المعنوية للجيش، وكانت الجيوش الإسلامية محيطة بالجيش الفرنساوى تنتظر المدد الوارد من البلاد العربية، وإذا بجيش الكنت روبرت يفاجئها فى فبراير 1250ويدخل من أولها ويخرج من آخرها، وخسر المسلمون فى هذا الهجوم قائدًا من خيار القواد هو الأمير فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ أتابك العسكر. 


أشرفت الجيوش الفرنسية على المنصورة، وكانت شجرة الدر فى قصرها بهذه المدينة، حيث اجتمع بيبرس معها  - وهى الحاكم الفعلى للبلاد– وعرض عليها خطة يتم بموجبها استدراج القوات الصليبية داخل مدينة المنصورة ثم الإجهاز عليها،فوافقت على هذه الخطة.


نزل محمود بيبرس من قصر شجرة الدُّر، وركب فرسه إلى المعسكر، ودق طبول الحرب، فاجتمع قادة الجيش، فأمرهم بأن يحيطوا بالمنصورة إلى أن يدق لهم طبول الهجوم. وما كاد يتم كلامه حتى رأى فارسًا عليه جلال ومهابة وضع يده على كتف بيبرس، وقال وأنا يا محمود رايح أخوض برجالى للجيش الفرنساوى بالمياه، وأحمل عنكم هذه المشقات، فقال محمود ومن يكون السيد العظيم، فقال أنا السيد أحمد البدوى.


كان قائد الفرقة الفرنساوية التى وصلت إلى المنصورة يُدعى «الكنت ربرت»، وهو شقيق الملك لويس التاسع، وعليه يعتمد أشد الاعتماد، وقد وقف أمام جيشه كأنه البرج المبني، وعلى جسمه دروع الفولاذ المذهبة بالنقوش الدينية، وعلى رأسه خوذة مهيبة، وكان بجانبه اللعين «جوان» الذى جعلوه مستشارًا لهذه الحملة؛ فلما رأى جوان كثرة جيوش بيبرس، ورأى بيبرس نفسه، أشار على «الكنت روبرت» أن ينادى بالمبارزة وهو واثق من أنه سوف يقتل قواده الواحد بعد الآخر، وبذلك تنكسر شوكتهم ويتفرقوا، فوافقه الكنت على ذلك، وخرج جوان من الصف، وأنشأ يقول بصوته:

الحرب يا حافـيين واسع ميـدانهـا      
وآدى روبرت الكنت نازل يناجز
واقـف روبرت الكـنت يطلب نزالك
يا جند نجم الدين فهل من مبارز؟
على ظهور الخيل يبان كـل فارس
وتحت ضرب السيف يبان كل عاجز
اطلع يا واد يا بيبرس بوس رجل سيـ
دك واركـع أمامه يا صبى المخابـز
وأنت أيا قلاوون يا بوشناب  طويلة
يا للى طــول عمرك مناكف مناجـز
وأنت يـا بلبـان يـا واد يـا رشيـدي
اخرج إلى الميـدان وشد المهامـز
وفين شجــرة الـدُّر  تحضر  معاكم
من قبل ما تكتب فى ضمن النواشز
آدى إحنـا يا صـعاليك جينـا بلادكـم
ولا صبــح بينا وبينكـم حـواجــز
وما كاد اللعين يتم كلامه، حتى بادر الأمراء الفرسان للقاء الكنت روبرت، فأقسم بيبرس أن لا  يخرج إليه أحد سواه، ولما رآه جوان يتقدم بدبوسه المشهور، ويقذف به إلى الهواء، ويلقفه مرة، ويتركه مرة يقع على الأرض، فيحدث رجة تنخلع لها القلوب، خاف على الكنت روبرت، وقال:
ارمى الدبوس دا مش سلاح فرسان، دا سلاح دقاقين.
بيبرس: رمينا الدبوس، وآدى السيف.


ولما رمى محمود بيبرس الدبوس المخيف، وجرد السيف، أشار جوان إلى الكنت روبرت بالهجوم عليه فتلقاه بيبرس، واشتبك الفارسان، وتبادلا الضرب والطعان، وفى هذا يقول الشاعر: 
فى ساحة الميدان أصلى على النَّـ
ـبى صلاه تزيده فوق جماله جمال
تعالَ شوف الهول فى حومة الو
غى يا للى ما شفتش عمرك الأهوال
قلع بيبرس الدرع والصدر عارى
وخصمه واقف فى دروعه تقال
رمى بيبرس السيف يا دى العجـ
ـيبه فعله ما يفعلها غير الجهال
عساكر الإفرنج وقفت حيارى
للفارس العريان والمختال
وينط فوق الكنت فى البطن يرفـ
سه والكنت فوق سرجه كأنه شوال
والكنت يضرب كل ضربه قويه
محمود يزوغ منها يمين وشمال
ومن ورا محمود يركب كتافه
كالطفل يلعب لعبة الأطفال
ويختفى محمود تحت حصانه
ويرفع الاتنين كما الشيَّال
ساعتين يقاسى الموت سبع فر
نسا ما طال منك يا بيبرس مطال
وفى النهايه الكنت جتله المصيبه
بضربه من محمود ومنها مال
مال منقسم نصين على ساحة الو
غى وقالهم محمود فين الشيَّال
عساكر الإفرنج وقفت حيارى
للفارس العريان والمختال
وينط فوق الكنت فى البطن يرفـ
سه والكنت فوق سرجه كأنه شوال
والكنت يضرب كل ضربه قويه
محمود يزوغ منها يمين وشمال
ومن ورا محمود يركب كتافه
كالطفل يلعب لعبة الأطفال
ويختفى محمود تحت حصانه
ويرفع الاتنين كما الشيَّال
ساعتين يقاسى الموت سبع فر
نسا ما طال منك يا بيبرس مطال
وفى النهايه الكنت جتله المصيبه
بضربه من محمود ومنها مال
مال منقسم نصين على ساحة الو
غى وقالهم محمود فين الشيَّال
فلما رأى الإفرنج ما حل برئيسهم هجموا هجوم اليائس، وتلقتهم الجيوش بالحديد والبأس الشديد، وتولت الرماح قبض الأرواح، وتكفلت السيوف بتعجيل الحتوف، وإذا بفرقة الكنت تنهار، ويحل بها البوار والدمار، فتراجعوا يدفع بعضهم بعضًا إلى الأراضى المغمورة بمياه الفيضان، فتلقتهم فرقة الدراويش بقىادة السيد أحمد البدوي، وكان لهم صراخ يرعب القلوب، وضربات تلحق الرأس بالعرض.


وقع كثير من الصليبيين قتلى فى أزقة المنصورة، وحاول من نجا منهم الفرار، ولكن المسلمين لحقوا بهم قرب فارسكور حيث أجهزوا عليهم وأسروا لويس التاسع نفسه ومجموعة من كبار أمرائه وقادة جيشه. ونقل لويس التاسع إلى دار القاضى إبراهيم ابن لقمان أسيرًا.


بعد أيام من أسر الملك لويس أرسل نيابة عنه الجاسوس جوان إلى بيبرس ليعرض شروطه لإنهاء الحملة والعودة إلى بلاد، فلما استمع بيبرس لهذه الشروط أنشا يقول صلوا على طه الرسول:
خد يا جوان  يا سفير مِنِّى رساله
لملوك أوربا لويس وغير لويس
تقــول لهم  يا جـوان أمة محـمـد
من قبـل منكـم تعـرف التقـديـس
وتحط فوق الرؤوس عيسى ابن مر
يم سـت العـذارى أم قدر نفيـس
وابنها المحبوب عيسى اللى يحـ
ـيى الميتين ويــداوى كــل بئيــس
القـدس معبـد زى مـكة المكـرمه
وخــير ما سـارت إليه العيـس
واسـأل حبـايبنا نصارى المشار
ق من الأزل عايشين فى جـو أنيـس 
جيتوا  بلادنا يا تجار البـطاطـس
متسترين بالـدين يا ملاحيـس
يا لويس ما تمليش علينا شروطك
والاشتراط ما يجيش من المحابيس
عجزت عن فتح الأراضى بسيفك
وإزاى بقى يا لويس تاخدها فطيس
كفاية ما أصابك يا سبع فرنسا
ارجـع فرنسا فى أمان يا تعيس.

اقرأ ايضا | 61 عاماً على رحيله ومازال «التونسى» يمتعنا بأزجاله