منال قابيل تكتب : فى الطائرة

منال قابيل تكتب : فى الطائرة
منال قابيل تكتب : فى الطائرة

دخلتُ الطائرة وكأننى أدخل أحد هذه الأجهزة الحديثة الخانقة لعمل تلك الأشعة على خفايا الجسد.. أو كأننى على وشك إجراء عملية قلب مفتوح. ما إن جلست فى مكانى حتى بدأ جسمى ينتفض ويرتعش ارتعاشات لاإرادية اقتربت منى المضيفة تستفسر عن حالتى، أجبتها وانا لا أقوى على الكلام ولا أرغب فيه: «بردان».

ابتسمت ابتسامة متفهمة ثم جاءتنى بغطاءين لونهما أزرق، وضعت واحدًا حول كتفى وصدرى والآخر على ساقى وأحكمتهما حولى بيدين مدربتين. ناولتنى قارورة صغيرة وهمست: «هذه النقاط ستدفئك وتريحك، سآتيك بمشروب تضعها فيه، هى آمنة تماماً، نستخدمها نحن دائماً ونقدمها لمن يطيرون لأول مرة».


لم أشأ أن أقول لها إن الطيران هوايتى، والسماء ملعبى وملاذى، وإنى طرت بعدد سنوات شبابها أيام كنت قابضاً على الزمن، أملك الوقت وأبارز القدر.
أكثر من عشرين عاما حلقت خلالها فى فضاءات الكون ولم أهبط إلى أرض الوطن


استكنت قليلاً ومازلت أسمع دقات قلبى صاخبة، لا أقوى على تهدئتها. يتملكنى إحساس بالاضطراب والخجل والتوجس. 
انتبهت إلى من يربت برفق على كتفى. أفتح عينىَّ لأجد مضيفتى تقدم لى كوباً من الحليب. كيف لها أن تعرف عشقى للبن دون كل المشروبات المتاحة! والذى أكاد أجزم من شكله ورائحته أنه لبن مبستر. أو هكذا هيئ لى. بهدوء وضعت عشر نقاط من القارورة الصغيرة فى كوب اللبن وقالت: «تشربها على مهل وتبقى زى الفل».

ومازلت فى اندهاشى، لاحت منها ابتسامة ساحرة فحلَّقت روحى تشدو: «وضحكت تانى.. نفس الضحكة وراحت ماشية.. زى الدنيا ما تيجى فى ثانية.. وتمشى فى ثانية».
نقلنى صوت عبد الحليم إلى البلكونة البحرية الواسعة وداعبتنى نسمات شهر أكتوبر الخريفية، هواء رقيق تتمايل معه الأغصان، يتسلل فى الليل محملاً برائحة الفل لينقل همسات الأحبة، يوصل أشواقهم وموسيقى حليم. تنفست عميقاً لأول مرة منذ دخولى هذا الجهاز وكالمنوم مغناطيسياً نفذت كلام مضيفتى حرفياً. بدأت أشرب ببطء شديد وتركت سرسوب اللبن ينساب على جانبى فمى كما فى الأيام الخوالى. فيتراءى لى ثلاثتنا: درش وأبو على وأنا.. وأسمع قرقعة الأوانى المعدنية وصوت عم نادى يجلجل صادحاً فى بير السلم:
-«حليب يا لبن.. قشطة يا حليب». 
-«صباحك نادى يا عم نادى».
-«صباحكم زى اللبن الحليب». 
 وقبل أن يكرر نداءه نكون فتحنا الأبواب وقفزنا السلالم لنتقابل عند دكان عم مينا. وصوت الأم يتعالى: «يعنى تسيبوا لبن ربنا وتروحوا للقزايز»!
لم تفهم أمهاتنا يوماً سحر شرب اللبن المبستر من الزجاجة وما يثيره فينا من خيالات.


يلمحنا عم مينا من بعيد، فيتوجه إلى المبرد ويخرج ثلاث زجاجات سعة نصف لتر من الزجاج الشفاف مكتوب عليها باللون الأزرق بشكل دائرى «شركة مصر للألبان».
نتناول الزجاجات.. ننزع الغطاء الفضى منها بحركة استعراضية ونرفعها إلى أعلى وندع اللبن ينساب على جانبى الفم ثم نمسحه بظهر اليد أو الذراع متمثلين أبطالنا فى الأفلام الإيطالية والأمريكية عندما يتجرعون الجعة. نقوم بأداء هذه الحركات وكأننا نؤدى دوراً فى أحد أفلامنا المفضلة. كان حسن مغرماً بتقليد الممثل أحمد رمزى أما أنا ودرش كنا نتبادل أدوار كلارك جيبل وهمفرى بوجارت. ولم يكن ما سلكناه فى حياتنا فيما بعد يبعدُ كثيراً عما عشناه معهم على الشاشة.


يبدو أنى هدأت قليلاً، لأن مضيفتى عندما عادت للاطمئنان علىَّ قالت: «أراك أفضل حالاً، أليس كذلك؟» وتركت معى سحر ابتسامتها قبل أن تنصرف لعملها. فدندنت: «تسلم لى وتسلم ضحكتها».

اقرأ ايضا | دخلتُ الطائرة وكأننى أدخل أحد هذه الأجهزة الحديثة الخانقة لعمل تلك الأشعة على خفايا الجسد