إبراهيم محمد عامر يكتب : موبايل عم مجدى

اللوحات للفنان: محمد الطراوى
اللوحات للفنان: محمد الطراوى

منذ ستين سنة وأكثر كان عم مجدى كهل اليوم طفلاً، صغيراً، له أب وأم. وألعاب يلعب بها. ألعاب تناسب ذلك الزمن البعيد. ولا شك أنه كان أيضاً كبقية الأطفال، يتعلق باللعب حد الجنون. بحيث يبكى أذا جربت أن تبعدها عنه أو تبعده عنها. ويبدو على وجهه كل الرضا والانبساط إذا قربتها منه. طفلاً كبقية الأطفال..


ومن المفترض أن عم مجدى قد تجاوز هذه المرحلة منذ عقود، بل من الطبيعى والمنطقى. فقد أصبح عجوزاً كهلاً لا تراه إلا أذا سمعت صوته، فتتفحص أمامك ذلك الجسد النحيل للغاية، والرأس الغارقة فى الشيب. والعينين اللتين لا تريان إلا ما مسافة نصف متر فقط أمامها.


من المفترض أن يكون ذلك الرجل العجوز ذو السبعة أحفاد قد توقف عن تعلقاته الصبيانية بالألعاب، ولكن..
أقصد لكنك لا تعرف عم مجدى..


أو ربما كلنا كذلك، فأنا من جيرانه.. لم نكن نعرف حقيقة الطفل الصغير الذى يسكن جسد ذلك العجوز الكهل.
لقد جن عم مجدى تماماً بما نسميه «الموبايل»..


جن بمعنى الكلمة..
بعدما جلس ذات مساء على المقهى مع زوج ابنته، ورآه يخرج ذلك المخلوق العجيب المبتكر من جيب جاكتته، ويطالع فى شاشته الصغيرة.. ولما كان يسمع عن ذلك الـ«موبايل»، فأنه قد أراد أن يجربه.. يلمسه، بعدما سمع عنه الأعاجيب..


وأول الأمر، أو أول لمسة، بدا عليه التعجب الشديد، من ضآلة حجم موبايل زوج ابنته، فسأله عن فوائد هذا الموبايل، فأخذ زوج الابنة يعدد لحماه مزايا هذا التليفون المهم.


كيف يعرف منه أخبار الدنيا كلها، وكيف يستمع منه إلى القرآن والموسيقى.. وجز على أسنانه وهو ينطق أسماء مغنيين معينين أمثال عبدالوهاب وأم كلثوم، فانخلع قلب المسكين لهفة ورجاء.


وأخذ يشرح له كل فوائد التليفون، بل ويضيف من عنده فوائد لا توجد أصلاً فيه، ولكن ليضاعف من توهج عينى الرجل العجوز، الذى أقسم من داخله ليشترى هذا الـ«موبايل»، ولو جاع بقية عمره.
وعاد إلى بيته يسأل أولاده وأحفاده عن الموبايل، وأخذ يسمع منهم كل ما يرضيه، ويزيد من رغبته فى الحصول على واحد مثلهم.


ولما كان عم مجدى على بوابة المعاش، كانت زوجته تنظر لما يجرى بعين غاضبة حزينة، كأنما تقول لأبنائها وأحفادها:
ـ منكم لله، هتضيعوا مكافأة الشغل على حاجة ملهاش لزوم!


وقام عم مجدى ليتجه إلى غرفته، بعدما حدد مع الأبناء «موبايل» معيناً حديثاً لكى يشتريه أواخر الشهر القادم، بعدما يستلم مكافأة نهاية الخدمة من الوزارة التى خدم بها موظفا جل عمره.
وتم ذلك بالفعل، وكان يوما مشهوداً..


فوجئ صاحب محل للموبايلات بقبيلة كاملة قادمة يملأها الفرح لكى تحتل محله، وعدهم فوجدهم فوق العشرين شخصاً!
للوهلة الأولى ظن أنه أمام معركة غير متكافئة، ولكن ما أن تقدم زوج الابنة، وهو يمسك بيدى حماه، لكى يقول له إنهم يريدون شراء موبايل لعم مجدى، حتى تبدلت أساريره إلى الفرح، والدهشة.
واختار عم مجدى لنفسه موبايل حديثاً للغاية، ما أن أمسك به حتى شعر بفرحة لم يحسها منذ إمساكه بأول مولود له منذ حوالى أربعين سنة!
أمسك بالموبايل فى حرص وحب ودهشة ولهفة.


ولم يبد عليه أى تأثر حتى، وهو يخرج من صدر جلبابه محفظته الجلدية الممتلئة، وينقد البائع الفلوس بكل بساطة!
ولحسن الحظ لم تحضر الزوجة المكلومة هذه اللحظة، وإلا لكانت صرخت بملو صوتها لتمنع هذه المهزلة!
وفى الطريق تكفل زوج الابنة بتشغيل الموبايل لعم محمد، وتدريبه على استخدامه. وقام أحد الأحفاد الشطار بتسجيل أرقام العائلة كاملة على الموبايل، ليتيسر لعم مجدى أن يتصل بهم فى الوقت الذى يريد.


وعادوا إلى البيت فرحين بفرحة الرجل العجوز، التى لا تستطيع كلمات أى شخص أن تصفها.
ومرت أيام كثيرة على عم مجدى، لم يفقد فيها شغفه مطلقاً بموبايله الجديد.


تعلم كل فنونه، تعلم كيف يدخل على الأخبار ليعرف حال الدنيا والناس، تعلم كيف يستخدم الإنترنت. تعلم كيف يستخدم الكاميرا، والتقط مع كل فرد فى العائلة أكثر من خمسين صورة!
ونزل ذات مساء إلى المقهى، ليجلس مبتعداً عن أعين زوجته التى لم تكف لحظة عن اتهامه بالتصابى، والعمل زى العيال!
وجلس فى الهواء يتشمم النسيم، ويداعب شاشة موبايله الحديث.


بينما وضع القهوجى أمامه كوب الشاى وتلقيمة السكر.
وسمع صوت يقول له:
ـ الساعة كام يا حاج؟
قديماً كانت يزعجه هذا السؤال، كان ذلك يستدعى أن يمد يده إلى جيب جلبابه ليخرج الساعة، وينظر فيها ببصره الشحيح لكى يستطيع الرد على السائل. أو ربما كان يقول ببساطة:
ـ مش معايا ساعة!
لكن هذه الأيام كان يسعده جداً هذا السؤال، فهذا لن يتطلب منه سوى أن يرفع شاشة التليفون إلى عينيه، ويرد ببساطة:
ـ الساعة تسعة ونص دلوقتى.
ما أسعدها هذه الأيام!
وجاء أحد الأحفاد ليجلس إلى جواره، وما أن جلس حتى أمسك بالموبايل بسرعة، كأنما يخطفه من يده، فانخلع قلب عم مجدى، ولكن الصبى كان مبتسماً بشوشاً فلم يشأ أن يعكنن عليه فرحته.
وأبعد الصبى الهاتف قليلاً، لكى يلتقط صورة سيلفى مع جده ذى الشعر الأبيض.
وكان العم مجدى قد تعود على السيلفى منذ أسبوع.
وامتلأ معرض صوره على الموبايل بعشرات الصور الطريفة مع الأبناء والأحفاد.
و...
وفجأة!
وما أبشع هذه الكلمة، خصوصا فى هذه القصة..
سمع عم مجدى دوياً صاعقاً، ولمح «موتوسيكل» بسرعة البرق يمر من أمامه وأمام حفيده..
تملكه الخوف على حفيده، فأحاطه بيديه..
و..
ولكن الموتوسيكل لم يصب الحفيد بأى شر، بل.. 
بل كان فى الموتوسيكل شابان أحدهما يقود، والآخر خلفه يجلس.. هذا الآخر قد خطف موبايل عم مجدى من يد حفيده فى خفة!
وانطلق الموتوسيكل بهما بعيداً عن المكان فى سرعة غريبة..
قام عم مجدى فى دهشة بالغة، وظل ينظر حوله فى حزن.. أراد أن ينادى على الناس ليلحقوا بالحرامية، ولكنه لم يستطع..
أراد أن يجلس من جديد ليبكى على موبايله المسروق، لكنه لم يفعل..
كان يريد ألف شىء وشىء، ولكنه لم يفعل أى شىء..
فقط كانت التعاسة تسرى فى صدره بسرعة، ويشعر باختناق شديد وكتمة نفس كريهة..
وظل مدة طويلة لا يتكلم، بينما أيدى الناس تربت على كتفه فى مواساة، بينما يقول أحدهم إنه سيبلغ البوليس، ويقول آخرون إنه عليه العوض.. 
لكن عم مجدى بدا فى هذه اللحظة كأنه لا صلة له بهذا المكان كله، ولا بهذا العالم كله..
بدا أنه طفلاً سرقوا منه لعبته، ويريد أن يبكى..
فاصطحب يد حفيده، ليعود إلى منزله..
ليبكى...

اقرأ ايضا | منذ ستين سنة وأكثر كان عم مجدى كهل اليوم طفلاً، صغيراً، له أب وأم. وألعاب يلعب بها. ألعاب تناسب ذلك الزمن البعيد