القلوب الإفتراضية في رسائل من الشاطئ الآخر

القلوب الافتراضيه في رسائل من الشاطئ الاخر
القلوب الافتراضيه في رسائل من الشاطئ الاخر

كتب : عاطف عبد المجيد

إن معانى الغربة ومشاعرها لا يمكن أبدًا أن يشعر بها أو يحكى عنها إلا من ذاقها وشعر بمرارتها، ورغم أنى كتبت من قبل عن الغربة إلا أننى لم أستوعب المعنى حقيقة إلا عندما خضت التجربة وابتعدت برغبتى مسافات عبر القارات والمحيطات، ولم يعد يربطنى بوطنى وأسرتى سوى هذا الهاتف الذكى. هذه السطور مقتطفة من إحدى رسائل حسام عبدالقادر إلى د. دلال مقارى باوش فى كتابهما الذى يحمل عددًا من رسائلهما المتبادلة «رسائل من الشاطىء الآخر» والصادر عن دار غراب للنشر والتوزيع.


هذه الرسائل التى تبادلاها ونُشرت فى جريدة الرأى الأردنية تقول عنها مقارى وهى تقطن ميونيخ ألمانيا: رسائل كتبها الحلم واليقظة، فى أجزاء متقطعة، وأحاديث بللها الشوق والحنين، فى شوارع الغربة الجافة لربما تتنفس فراشة الرسائل خارج النص، لربما يتحرك الهواء! لربما غيّر المساء اتجاهات المنام..أتمنى ألا نكون قد أضعنا الطريق إليكم فى رسائل من الشاطىء الآخر.


أما حسام عبدالقادر وهو يسكن فى مونتريال بكندا فيكتب عن هذه الرسائل قائلًا إنه على مدار ثلاثين أسبوعًا بين عامى 2020 و 2021 دارت ونشرت هذه الرسائل، وكانت تعليقات الأصدقاء، بعد نشرها، حافزًا أكبر للاستمرار وتوثيق التجربة فى كتاب.

عبدالقادر يصف رسائلهما بأنها قد تكون دليلًا تاريخيًّا على كثير من الأحداث التى دارت فى هذه الفترة الزمنية، كما يمكن أن تكون متنفسًا عن كثير مما نعانيه من مصاعب ومتاعب الحياة.

وأيضًا شاهد عيان على حياة عشناها جميعًا وعاصرناها، ويمكن أن تكون مجرد متعة للقارىء يعيش معها بعض المعانى الجميلة، أو مجرد دردشة بين صديقين أرادا أن يبوحا بما فى داخلهما.

أما حسين دعسة مدير تحرير الجريدة التى نشرت الرسائل فيكتب تحت عنوان رسائل غير تقليدية فيقول: ثلاثة عوالم تجمعها رسائل غير تقليدية، ذلك أنها أحدثت مكاشفة فكرية حضارية بما ميزها من اشتراك وتشابك جمالى إنسانى بين المرسل والمرسل إليه.

ونشدانهما التنوير الذاتى لإصلاح ما تركته صدمة الغربة على نفوس مرهفة شاعرية تتوق إلى النجاة فى العراء مع السفن الراسية على الشاطىء الآخر، من منظومة حياتنا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، عدا عن الأثر التربوى وصراع الحرية. 


دلالات حيوية
كذلك يقول إن رسائل حسام عبدالقادر إلى دلال مقارى باوش قد فاقت أى نموذج معروف أو موثق أو تاريخى، فلهذه الرسائل دلالات حيوية، تبادلها أعلام فى الخبرات الإعلامية والثقافية والفكرية، ما جعل حلم نشر هذه الرسائل مقدمة لإطلاق كل هذه الحمائم التى غيبتها الحضارة والتحولات الرقمية وعراكنا اليومى فى ظل حرية التشابك والتواصل المعلوماتى مع العالم.

ذاكرًا أن الرسالة عندهما عبارة عن حدوتة قلب ينبض بالتشاركية واستشراف المستقبل ويقاوم تداعيات فيروس كورونا بوعى معرفى مشهود.


لا يفوت دعسة هنا أن يقول إن رسائل حسام ودلال تذكرنا بجنس أدبى افتقدناه كثيرًا وهو أدب الرسائل أو فن الرسائل الذى يعد من الفنون الأدبية القديمة، وهو فن نثرى جميل يظهر مقدرة الكاتب وموهبته الكتابية وروعة أساليبه البيانية القوية. فى رسائله إلى مقارى يلعن عبدالقادر فيروس كورونا الذى غلق الأبواب وفرض عزلة إجبارية على الجميع ومنعهم من العبور من مكان إلى آخر، مخبرًا إياها أن هناك آمال وأحلام تنتظره على الشاطىء الآخر، وأنه سيحفر الصخر ويشق الطرق ويحمل الصعاب ويذهب إلى هناك، إذ يقولون إنها الجنة، ولا يوجد جحيم، وكل شىء معد مسبقًا لاستقبال المغامرين.


كذلك يطلب منها ألا تحزن لأن البحر الذى لا تحبه يحمل جثثًا لم تقترف ذنبًا أو جريمة، إذ لا تزال هناك جثث تسير بيننا تدب فيها الحياة ولكنها لا تشعر ولا تحس. أيضًا يكتب إليها قائلًا إن مصائرنا لن يحدها بحر أو يابس، فنحن نسير لنلقى مصائرنا بدون أى مشاعر ولا حواجز، وإن الغربة تنهشنا والحنين شعور لن يعالجه إلا الواقع، والأحضان الإلكترونية لن تكون أبدًا بديلًا لدفء المشاعر الحقيقية، والقلوب الجميلة التى نلصقها على حوائط الدردشة لن تغنى أبدًا عن العناق.


فى إحدى رسائله إلى مقارى يتعجب عبدالقادر كيف استطاع الإنسان أن يتأقلم مع الثلوج والبرد القارس، ذاكرًا أن رحلة الإنسان تستمر بين البحث عن وطن والبحث عن تحقيق الذات، متأملًا دورة حياة الإنسان بداية من الطفولة وحتى استعداده لمغادرة الحياة. ميزة هذه الرسائل، يقول عبدالقادر، أنها فتحت بابًا من الأسئلة لا ينتهى ونبهته إلى أشياء كثيرة لم يكن واعيٍا ومدركًا لها.

وها هو يكتشف مع مقارى الحياة وسط الغربة أو الغربة وسط الحياة. كما يقول إنه اكتشف مزايا عديدة للعيش وسط مجتمع متنع الجنسيات، فكم المعرفة والمعلومات التى تنتقل إليه مباشرة أكثر بكثير من قراءة كتاب.


علاقة معطوبة
أما دلال مقارى فتكتب إلى عبدالقادر فتقول إن علاقتها بالبحر صارت معطوبة ومشوشة، لأنه تحول فى وجدانها إلى قبر من الخزف الأزرق ابتلع مراكب الأمل، وإنها متورطة بأسئلة الغربة، الهجرة والاغتراب، متورطة بتوثيق ذاكرة المهاجرين، كأنها ورطة عاشق تعمد الحب، وإنها تبحث فى قاموس لغتها الألمانية عن معنى الهيام، الحنين والغربة.

 

وتمسك كل الخيوط التى تقودها إلى معنى كلمة حب، وتسقط تفاحة المعانى على باب شوقها، متعجبة من أن اللغة الألمانية تفتقر إلى تعابير الحب، مقنعة نفسها بأن للمحبة هناك صوتًا مختلفًا وتعابير معصورة كعناقيد العنب الجاف.


كذلك تكتب إليه قائلة إنها تدهشها الأسرار التى يحملها ساعى بريد الحياة، يخبئها تحت ريشته لرسم خارطة الطريق الجديدة، هى رسائل الغيب، تمتد أناملها إلى أغصان روحها، تهزها، فيساقط وجعها وتخضر أرضها.


مقارى التى تقودها أسئلة عبدالقادر فى رسائله إليها إلى تجوال وإبحار جديدين، تكتب إليه قائلة: لعبة حرة هو الإبداع فى البحث عن المعرفة، البحث عن النور الذى يسكننا، فكلما ازدادت هذه اللعبة اقترابًا من الجوهر، ارتعشت الكثافة المتوقدة للمصالحة بين الأنا والعالم.


فى رسائل حسام ودلال التى يمكن اعتبار كل رسالة منها قطعة فنية أدبية بأسلوبها الراقى ولغتها الشاعرية، تقترب فى مناطق كثيرة منها إلى الشعر ونكتشف عوالم كثيرة وتفاصيل حيوات متعددة، قارئين فيها ما يحدث للإنسان وقت الأزمات والأمراض التى تجتاح العالم فى فترات مختلفة، وعما تفعله الغربة بصاحبها خاصة حينما يكون مجبرًا عليها، وعن تفاصيل حياة نادرًا ما يتم الكشف عنها بسهولة ويسر هكذا. 

اقرا ايضا | إن معانى الغربة ومشاعرها لا يمكن أبدًا أن يشعر بها أو يحكى عنها إلا من ذاقها وشعر بمرارتها.