د. عبدالرزاق المصباحى يكتب : رقابة الفرد.. رقابة المؤسسة

د. عبدالرزاق المصباحى يكتب : رقابة الفرد.. رقابة المؤسسة
د. عبدالرزاق المصباحى يكتب : رقابة الفرد.. رقابة المؤسسة

• الرقابة المؤسسية والحرية
ومن ثمة، فإنه فى وسائط الثقافة لم تعد المسافة بين النخبوى والهامشى قائمة، بل إن الهامش اكتسح هذه الوسائط، بما أنها توفر مقابلاً مادياً، وصنع خطابا خاصا، له قوة تأثير تفوق النخبوى وتتجاوزه، ولنا أن نتأمل كيف أن شريطا مسجلا لامرأة «أمية» تنتمى إلى الهامش الثقافى تسمى نفسها « أمى نعيمة البدوية» حول عدم وجود «كورونا» قد حرك السلطة القضائية فى المغرب، لتحكم عليها بالسجن، فى مقابل أن سياسية محنكة ونخبوية مثل نبيلة منيب (الأمينة العامة للحزب الاشتراكى الموحد بالمغرب)، قد صدرت عن الرأى نفسه، ورفضت اللقاح، دون أن يكون رد الفعل نفسه. 


والأمر، لا يعزى، هنا، إلى تمييز بناء على الوضع الاجتماعى والسياسى، ولكن إلى درجة التأثير، الذى تمارسه امرأة من الهامش على جماهير واسعة فى وسائط الثقافة، بمن فيهم من لهم حظ من التعليم المتوسط، المقرون بضعف تأثير النخبة السياسية، وحتى جزء من النخبة الثقافية. فرأى «أمى نعيمة» وأشباهها مؤثر فى سلوك جمهورها، ويدفعهم إلى تبنى مواقف، قد تكون خطيرة على حياة كثيرين، ممن يثقون فيها. فهل الرقابة، هنا، حد من حرية التعبير أم وسيلة للحفاظ على حياة الناس؟ 
دعونا أولا ننوه إلى أن قوة خطاب الهامش فى وسائط التواصل الاجتماعى، نابع من ضعف حضور المثقف النخبوى، الذى لا يميل إلى وسائط الثقافة الجديدة، من جهة، وحتى إن كان حاضرا فيها، فإنه لم يستطع أن يصنع خطابا من مستويات تداولية مختلفة، قادرة على التأثير والتوجيه، بدل تنميط الذوق والفكر الذى يمكن أن يحوز درجات كبيرة من الخطورة على التماسك الاجتماعى، وعلى القيم الإنسانية المشتركة، أو على حيوات الناس.


 ولنتأمل كيف ينتشر خطاب الكراهية، والمس بأعراض الناس، والتنمر على لغاتهم ولهجاتهم، وألوانهم، من دون قدرة النخبة أو الأصوات الهامشية ذات النزعة الإنسانية والفكرية المتنورة من تصحيح الوضع.

وهنا تتدخل «الرقابة المؤسسية» لتحد من انتهاك حرية الآخر المختلف، أو رغبته فى التعبير عن فكره. ففكرة الرقابة، وإن كانت مرفوضة فى ظل الحق المقدس للمرء فى التعبير، فإنها ليست دائما منعا من الحرية، وتسونامى الكلام المصور أو المكتوب فى وسائط الثقافة لا يعبر دائما عن الحرية المنشودة حين يتصل بتهديد حيوات الناس أو بنشر خطاب الكراهية والعنصرية والتنمر.  


• حرية التعبير وقيد الرقابة 
هل بإمكان الأفراد التعبير بحرية فى وسائط الثقافة؟ 
يشتكى الناس فى الأغلب من الرقابة المؤسسية، ومن أنها لا تعطيهم حقهم فى التعبير، لكن هل يستطيع الأفراد، التعبير بحرية عن أفكارهم الخاصة فى وسائط التواصل الاجتماعى، ويختلفوا مع فكرة شائعة أو تمثل مشترك جمعى، دون أن يتعرضوا للهجوم، والتبليغ عن حساباتهم. 


إن أخطر أنواع الرقابة هى التى يمتلكها الأفراد الآن فى وسائط الثقافة، بحيث إن مجرد التعبير عن رأى مخالف، أو محاولة إظهار جوانب أخرى من فكرة شائعة، يعرض صاحبه للتهجم الكبير، والتنمر القاسى، ثم تنتظم جماهير هذه الوسائط، وتتفق على ضرورة إخراس الصوت المخالف، عبر التبليغ عن حسابه، إلى حين إقفاله. 


إن الرقابة الفردانية التى تتيحها وسائط الثقافة، لا تتحكم فيها معايير موضوعية، كأن يكون صاحب الرأى المخالف، قد مس بقيمة إنسانية كونية، أو سخر من دين معين، أو هدد حياة الناس؛ وإنما، كثيرا، لأنه سعى إلى وصل إنسانى، ولدعوة إلى حوار بين أفراد أو شعوب متخاصمة، أو إلى تحكيم العقل والإنصات إلى أهل الاختصاص.


إن فكرة اتفقت عليها مجموعة معينة فى هذه الوسائط، تصبح متمتعة بقدر كبير من القداسة، لا يقبل أصحابها النقاش، ويشككون فى كل صاحب فكرة مخالفة، ويدعون إلى حظر حقه فى التعبير. والفكرة المخالفة نفسها، حين تصير موجة جماهيرية، فإنها تتمتع بالقدر نفسه من القداسة ومن التحصين ضد النقد. فيما يشبه دائرة مغلقة تصنع قداسة الفكرة، لمجرد أنها صارت جماهيرية، وليس لأنها تمثل الحق أو الخير أو القيم الإنسانية المشتركة. 


فالرقابة الفردانية، لا تغلب المصلحة الفضلى المشتركة فى كثير من الأحيان، وإنما تستجيب لنوازع الذات، وخاصة منها الرغبة فى السلطة، عبر التحكم فى الحيوات الافتراضية للناس فى وسائط الثقافة.

ومستوى ودرجة حضورهم، أو شهرتهم، أو تقديرهم عند جماهيرها. لذلك، فإن ما يخالف بعضا من هذه النوازع الذاتية الملحة، يتعرض صاحبهم للقتل الرمزى، بقدر ما يقاومها أو يعارضها، عبر الحظر أو التشويه، أو التحريض على العنف الرمزى وحتى المادى فى كثير من الحالات. 


وهنا، تحاكى الرقابة الفردانية الرقابة المؤسسية، بل تتفوق عليها، فى القدرة على المنع والقسر، فإذا كانت الرقابة المؤسسية، تخضع لمساطير وقوانين، ولو فى حدودها الدنيا، فإن الرقابة الفردانية تحركها نوازع الذات، أو مرجعيات أيديولوجية مستحكمة، بحيث لا ترى فى خصومها غير مخالفين مارقين، ينبغى تحييدهم. 


إن الرقابة الفردانية المنطلقة من نوازع ذاتية خالصة، أخطر من الرقابة المؤسسية، لأنها تجعل من فضاء افتراضى، يفترض فيه أن يكون فضاء ثقافيا حرا، تتداول فيه الأفكار والرؤى والمواقف، فى احترام لمبدأ الاختلاف، إلى فضاء رقابى يغرق مستعمليه فى خوارزمياته، وتفاصيله، دون قدرة على توظيف الفكر الناقد، ودون التمكن من معارضة فكرة جماهيرية.


إن الحرية فى وسائط الثقافة، محكومة الآن بالرقابة الفردانية، أكثر من الرقابة المؤسسية، التى لا تستطيع مهما بلغت إمكاناتها التكنولوجية من التحكم فيها، خاصة أنها كونية، ولا ترتبط بدولة معينة، يمكنها أن تطبق فيه قوانينها كلية، لكن الرقابة الفردانية توظف خوارزميات هذه الوسائط، للتبليغ عما لا ترضى عنه، أو يخالف هواها، أو تكرهه دون سبب موضوعى، أو لأنه، فقط، زعزع أقانيم مستحكمة هى فى حكم المقدس عندها. 


ولاشك أن دور النخب فى تعزيز هامش الحرية داخل هذه الأفضية الثقافية، عبر إنتاج خطاب عقلانى ويحظى بالتأثير، وجماهيرى فى الوقت نفسه، ضرورة قائمة، لموازنة الوضع الحالى، وجعل الفضاءات الافتراضية مساحة للتعبير الحر، ولإنتاج خطابات واعية، تدفع بالتغيير الفكرى والحضارى، عبر النقاش المنتج، والأفكار الخلاقة والواقعية، التى تشجع المبادرات المبدعة، وتدعم المواهب، وتفتح نقاشاً ثقافياً وسياسياً عقلانياً. 


إن الحرية حاجة نفسية فردية ضرورية، والرقابة نكوص عن هذه الحاجة، لكن الحرية مقرونة حتما بمنظومة قيمية، تعلى من الانتماء الإنسانى، وتخلق الفضاء الثقافى الذى يحفل بالاختلاف، ويدبره، ويطهر الذات من نوازعها المدمرة، وليس ثمة أرفع من أن ينتج جمهور وسائط الثقافة، بقيادة المتخصصين، خطابا ثقافيا يبنى جسورا منصرمة لحد الآن، إلا ما ندر.

اقرأ ايضا | من ثمة، فإنه فى وسائط الثقافة لم تعد المسافة بين النخبوى والهامشى قائمة، بل إن الهامش اكتسح هذه الوسائط، بما أنها توفر مقابلاً مادياً، وصنع خطابا خاصا.