حديث الاسبوع

خطر الفناء الديموغرافى وعلاقته بالنفوذ العالمى

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

استفاقت دول القارة العجوز من الصدمة العنيفة التى تسببت فيها الأزمة الصحية العالمية الطارئة المتمثلة فى جائحة كورونا، على حقائق كثيرة مستخلصة من دروس السنتين العجاف اللتين عاشتهما الإنسانية، بسبب فيروس غير مرئى لا يزال جاثما على انشغالات المجتمع الدولى برمته، منبها إلى إمكانية عودته من جديد من خلال تواصل توالد سلالات كثيرة و متعددة عجز العقل البشرى عن فهم أسباب كل هذه القوة التى يتملكها الفيروس.


ومن المؤكد فإن الحقيقة الديموغرافية كانت من أهم الحقائق التى دفعت بها الأزمة الصحية العالمية إلى واجهة الاهتمام، حيث عجزت كبريات الدول التى تتغنى بقوة وصلابة بنيتها الصحية على الاستجابة إلى الحاجيات الملحة التى توقفت عليها حياة شريحة هامة من السكان، والمتمثلة فى المواطنين المسنين. إذ من المعلوم أن فيروس كورونا وجد تربته الصالحة فى الأشخاص الذين يعانون من هشاشة اجتماعية أو ضعف فى المناعة، أو هما معا، وهذه أهم العوامل التى مكنت الفيروس من الانتشار كالنار فى الهشيم، خصوصا فى أوساط كبار السن، مما فرض عناية خاصة واستثنائية بهذه الشريحة من المواطنين الذين توقفت حياتهم فى لحظة معينة على الخدمات العمومية التى يجب أن توفرها لهم حكومات دولهم. وهذا ما لم يتحقق بالكامل، وحيث ترك مئات الآلاف من هؤلاء يواجهون شراسة الفيروس القوية والفتاكة فرادى فى غياب أى سند أو دعم من السلطات الصحية العمومية المختصة. والإشكال أن ترك هؤلاء يلقون مصيرهم لوحدهم لم يكن قرارا اختياريا وإراديا للسلطات المسئولة، بقدر ما كان ظاهرة كارثية حتمية نتيجة عجز البنية الصحية عن استيعاب حاجيات طارئة بحجم لم تكن هذه السلطات تتوقعه. وبالتالى تجلت الحقيقة التى أعادت العديد من الإشكاليات المرتبطة بالمسألة الديموغرافية إلى واجهة الاهتمام.


فمن جهة، فقد تأكد أن الجهود الكبيرة والضخمة والمكلفة التى بذلتها حكومات العديد من الدول القوية والكبرى لتحقيق رعاية اجتماعية حقيقية للمواطنين المسنين لم تكن، لا نقول كافية لتحقيق تعميم الأمن الصحي، ولكن لم تندرج فى سياق بنية صحية قوية ومتينة قادرة على مواجهة الأزمات الحقيقية الكبرى التى يظل حدوثها واردا فى كل لحظة وحين.


كل هذا قد يبقى أقل أهمية من الإشكالية الأم التى زادت الجائحة من حجمها ومن خطورتها، ذلك أن هذه الفئة من المواطنين المسنين الذين تخلت الحكومات عن أعداد مهمة منهم فى زمن الأزمة، والذين يواصلون الزيادة فى قيمة التكلفة المالية لتمتعهم برعاية اجتماعية، و إن كانت نسبية، أعدادهم تتزايد و ترتفع بوتيرة سريعة، بما يعنى أن هاجس التكفل بهؤلاء فى الأزمنة العادية والطارئة سيزداد و يتنامى. فالإحصائيات المتاحة إلى حدود نهاية السنة الفارطة تكشف على أن نسبة مواطنى دول القارة الأوروبية الذين تتجاوز أعمارهم السبعين سنة سينتقل من 13٫4 بالمائة حاليا إلى حوالى 21 بالمائة فى أفق سنة 2045، وستصل فى حدود سنة 2050 إلى 36 بالمائة، و يذهب بعض المتخصصين بعيدا فى هذا الصدد بالقول إنه فى أفق سنة 2050 فإن أعداد المواطنين الذين ستزيد أعمارهم عن 60 سنة ستكون أعلى من أعداد الأطفال، و إنه إلى حدود سنة 1950 كان عدد المواطنين الذين تزيد أعمارهم عن 65 سنة فى دول القارة العجوز لا يتجاوز نسبة 12 بالمائة من مجموع السكان. ومرد ذلك إلى العديد من العوامل، أهمها ارتفاع معدلات الأمل فى العيش التى تجاوزت سقف 78 سنة فى بعض الدول الأوروبية، وانخفاض معدلات الولادات بمستويات قياسية. و إن بدت هذه الحقائق والمعطيات كعناوين بارزة لتطور العلوم الطبية وارتفاع مستويات العيش و الازدهار فى تلك الدول، فإن فى هذه النعمة، نقمة لا تقل وزنا و لا تأثيرا، لأن نعمة تحقيق الرفاهية للسكان تتحول فى نفس الوقت إلى نقمة إحداث اختلالات بنيوية عميقة فى الهرم الديموغرافى وفى التوازن الاجتماعي. لأن ارتفاع معدلات العيش و انخفاض نسب الولادات يعنى الافتقاد التدريجى إلى التوازن بين الفئات العمرية داخل كل مجتمع، مما يتسبب فى تقلص أعداد الفئات النشيطة فى العمر الإنتاجى التى تدر عائدات على الدولة تمكنها من تغطية تكاليف التغطية و الحماية الاجتماعية للفئات العمرية من كبار السن، و هذا يعنى عجزا متواصلا فى التجاوب مع الطلب المتنامى وخصاصا ماليا متزايدا لتلبية حاجيات المواطنين المسنين. إننا بصدد الحديث فى هذا السياق عما يمكن أن نسميه بـ (شيخوخة المجتمعات).
و بعيدا عن القضايا و الإشكاليات الكبرى والمستعصية التى تتسبب فيها هذه التحولات العميقة فى التركيبة البشرية وخطورة تأثيراتها العميقة فى دول كبرى تمثل القوى الاقتصادية العظمى والمهيمنة على الاقتصاد العالمي، مما يعطى الشرعية من اليوم للحديث عن خريطة النفوذ العالمى فى المستقبل ارتباطا بهذه المتغيرات الديموغرافية، وعما إذا كانت هذه الدول ستفقد قوتها الاقتصادية والنفوذ المترتب عن تلك القوة بسبب خطر الفناء الديموغرافى الذى يهددها.
دعنا من هذه الهواجس الكبرى التى لا أحد يملك حتى مجرد مشاريع أجوبة أولية عن الأسئلة الحارقة التى تطرحها، لنعود إلى ما ألقت به جائحة كورونا من انشغالات كبيرة و مقلقة تهم قدرة التطور العلمى و الصحى الذى حققته العديد من الدول الأوروبية و غيرها فى باقى مناطق المعمور، والذى تتغنى به شعوبها كعناوين بارزة لتحقيق أعلى معدلات الازدهار والرغد فى العيش، على مسايرة حاجيات شرائح عريضة من سكانها، خصوصا فى زمن الأزمات الطارئة؟ مع استحضار الحقيقة التى أضحت ثابتة مفادها أن الأزمات الكبرى المحدقة بالعالم صارت بطبيعتها أزمات طارئة مرتبطة بالحقول العلمية البيولوجية و الجرثومية و النووية وما شابهها، لأن لا أحد ، بمن فى ذلك العلماء والمتخصصون، بإمكانهم الجزم اليوم أو غدا، بأن الأبحاث والاشتغال فى كل هذه الحقول العلمية الدقيقة، خالية من المخاطر والأخطاء وحتى من النيات السيئة لتجنيب العالم مثل الكابوس الكارثى الذى عاشه طيلة سنتين كاملتين، و لا يزال يتخوف مما قد يترتب عنه.