أحجية البئر ..

مغازي شوقي
مغازي شوقي

ريان .. ذلك الملاك الطائر ، في رحلة نحو عالم آخر حيث السكينة والراحة . هناك .. لن يكن  وحيداً عند شواطيء بحور العسل والمسك الأذمر . متعجلاً خطاه نحو سدرة المنتهى  ريثما يلقى قميص  بشراه  و موعده . تحفه غابات المرمر و السندس والإستبرق المتناثر في كل الأرجاء . إلى فسيح الأبواب الثمانية ليختار بينها . حيث لا مكان هناك لبغضاء ولا غلواء ولا حقد أو كراهية ، تحيطه أجنحة النور  حيث السلام السرمدى .. منتهى الراحة وغاية الإرتياح . 
ابن الخامسة الذي غادر هذا العالم سريعاً من ظلمات بئر إلى مصابيح التذكرة التي جائت على أثره ..  مخطيء جداً من ينظر  للقصة على أنها مجرد زلة رجل أحد الأطفال في بئر لعين، لكنها أكبر من ذلك في الدلالة لمن يعي .. في رسالة لم ينتويها ، لكنها لم تخطيء الطريق . فكم من ريان في هذا العالم المسعور ، وكم من بئر صنعه قاتني هذا الكوكب الموعود. 
قطرات المطر المتحولة إلى الأبيض الثلجي ، كانت هي الأخرى تغسل احباطات الإنتظار لأيام مرت كالدهر ، تلك المشاعر التي تدثرت بصمت القلوب ، أما العيون – كل العيون – كانت هناك ، وبلهفة مكثت تتابع  وتنتظر البشرى .. خروج ريان وكأنها عودة يوسف مرة أخرى من غيابات الجب . بات جلياً للحظات أن هذا الكوكب يسكنه الإنسان حقاً .. وكأن الملاك أراد أن يرسل لنا رسالة مفادها : كل البشر أخوة في المحبة والإنسانية .. كل كفوف الضراعة كانت ممدودة نحو السماء . كل الأفواه تلهج بدعاء واحد بمختلف اللغات .كل المآذن والقباب وشواهد الكنائس كانت حاضرة في مشهد اللحمة البشرية حول معنى الحب والإنسان .. الحلم الشريد يرقب فوهة بئر ظالم وكأنها فك حوت التقم  القدم البريء . 
أيها الناس .. إن كنتم تلعنون هذا البئر القاتل وحده فأنتم مخطئون .. فكم من بئر  حفرناه ، وكم من ريان نهمله  ونهمشه .. بئر الحرمان الذي يبتلع أطفال الشوارع كل يوم  حتى أنهم تعودوا ضيقه وظلماته وصاروا لا يرون الأشياء بحقيقتها . فكل الألوان لديهم داكنة . وطعم الخبز في بطونهم مائع والدفء بين ضلوعهم غائب .. حتى انهم صاروا لا يعتادوا السير إلا في الأنفاق. يرون برج القاهرة فقط حين تنعكس صورته مقلوبة في ماء النيل . تركناهم فريسة لبئر الجهل والمرض والخوف .. طردناهم منبوذين وحدهم في العراء ... 
وأما عن بئر الجوع لملايين من الأطفال المقبورين أحياءاً . لا تشعر بهم إلا حينما تسمع صوت قرقعة بطونهم. لا يعرفون  غير الماء الأسن شرابا . ولم تشتم أنوفهم رائحة طعام شهي . هياكل عظمية تأن في بئر الجوع والفقر . وما أكثرهم . وهناك بئر آخر أكثر ظلمة وهو بئر التيه والتشتت لملايين من الأبرياء لم يختاروا الحرب بأيديهم . فرضت عليهم من هذا الكوكب عنوة . يتسائلون بينهم بأي ذنب ماتت طفولتنا ؟ وبأي جريرة كان مصيرنا ؟ وإلى متى سنستمر في هذا البئر الموحش المفترس . هؤلاء ماتت لديهم معنى كلمة اللذة ونهبت من بين أناملهم الرقيقة لحظات الطفولة السعيدة كحق وواجب على الإنسانية . 
بين آبار النفط التي تتكالب عليها الأمم ، وتنشب من أجلها الحروب والنزاعات . وتقام من أجلها الهيئات الدولية والمؤتمرات ، يتناسى البشر -وبإهمال مقصود - آبار أكثر أهمية من هذا النفط اللعين ، بل يحفرونها بأيديهم ليلقوابأغلى ما نملك فيها .. فلذات الأكباد التي تنتزع منها الإنسانية والحياة . لتشعر بالموت قبل الموت . ليصيروا من بعد ذلك أرقام في سجلات الإحصائيات النكرة التي لا يطالعها  إلا نفر قليل  . 
فيا كل  العالم المبتورة يديه عن الحقيقة المؤلمة . يا كل الأمم  المخدرة في نزهة نحو المجهول . ريان وكل ريان في هذا الكون هم رسالتنا الحقيقية . وواجبنا أن نمهد لهم طريق الإنسانية فيأنسوا بطفولتهم ويتشبعوا بدفء العائلة ونور العلم والإيمان . علينا أن نسحق كل فوهات الآبار قبل أن تثور فتخرج منها حمم براكين تقتلع الأخضر واليابس من الجذور. واجبنا أن نروي النبتة حد الإشباع بالحب والخير والجمال . يا كل من يقرأ هذه السطور .. علينا جميعاً أن نتكاتف لنخلص العالم من كل هذه الآبار التي استوطنته كالخفافيش .. إن أردنا السلام .. والسلام