نوال مصطفى تكتب:«مى» التى أحببتها دون أن أراها

نوال مصطفى
نوال مصطفى

«أتمنى أن يأتي بعد موتى من ينصفني»..  لا أعرف إن كانت مى قد تركت لي-أنا تحديدًا- تلك الرسالة دون أن تدري؟ أم أننى ومنذ أن وقعت عيناى على تلك العبارة، وأنا مسكونة بقوة غامضة تدفعنى للنبش فى تاريخها، والإبحار فى أعماقها، هل أقول إنى توحدت معها إلى حد لم أعرفه من قبل؟ لقد رأيتها فعلًا.

ومددت يدى بمنديل لأمسح دموعها، عشت معها لحظات المجد، وسنوات الوجع. بهرتنى كامرأة استثنائية، تتربع بثقة وتمكن على عرش الأنوثة والثقافة، ومزقنى مشهد انكسارها.

وهى تعانى وحدها فى قمة بؤسها، صرخت معها فى وجه من نسج لها المؤامرة الحقيرة، وألقى بها وحيدة فى مستشفى «العصفورية» ببيروت «هى ليست مجنونة».. إنها مى زيادة درة زمانها، وأيقونة عصرها.وأستطيع أن أقول إن تجربتى فى كتابة تلك السيرة الروائية عن «مى زيادة» تركت فى قلبى ندبة غائرة، وألمًا مُقيمًا.

ربما لأن حياتها كانت أشبه بقصص «التراجيديا» الإغريقية، فصول حزينة تشكلها طفولة باردة، غربة فى مدرسة راهبات داخلية، لا ترى والديها إلا فى الإجازات، تربية صارمة وتعاليم أخلاقية ودينية متشددة، شيء واحد إيجابى ينتج عن تلك الفترة القاسية فى حياة «مي»، وهو عشقها للقراءة بالفرنسية، وانخراطها فى بحور الأدب والثقافة، وتعرفها على كبار المفكرين والأدباء فى العالم عبر سطور رواياتهم التى كانت الأنس الوحيد لها فى طفولتها المبكرة،ولدت مى زيادة فى مدينة الناصرة بفلسطين عام 1886 لأب لبنانى ماروني.

وأم فلسطينية أرثوذكسية، وقضت سنوات عمرها الأولى فى مدارس داخلية فى لبنان، ثم نزحت مع والدها ووالدتها إلى مصر عام 1908، كان عمرها اثنين وعشرين عامًا،فتاة شابة مختلفة فى كل شيء عن بنات عصرها، لديها ثقافة رفيعة، تجيد عدة لغات كتابة وقراءة، توهجت مواهب «مي» المتعددة فى مصر، سطع نجمها وتوجت على عرش الثقافة والأدب المصرى باعتبارها الأديبة البارعة، والمثقفة الاستثنائية التى تجيد ست لغات، لفتت «مي» الأنظار كظاهرة أدبية، وأنثوية فريدة فى عصرها، أطلق عليها كبار الأدباء أوصافًا عديدة، فقد كانت زهرة زمانها ودرته الفريدة.

والمرأة الوحيدة التى تألقت وتفردت بثقافتها وموهبتها وسط باقة من العمالقة الرجال فى عصر لم يكن مسموحًا للمرأة أن تخرج للحياة العامة، ولم يكن متاحًا لها أن تلتقى الرجال فى ندوات ثقافية أو ملتقيات أدبية، كانت «مي» ظاهرة أدبية.. ثقافية .. أنثوية .. إنسانية! هكذا أراها. وهكذا عاشت آلامها وأحلامها، أثناء استغراقى فى تفاصيل حياتها حد التوحد وأنا أكتب سيرة روائية عن حياتها، صدرت فى خمس طبعات حتى الآن تحت عنوان «مى زيادة أسطورة الحب والنبوغ»، ظاهرة أدبية لأنها كتبت بالفرنسية، وترجمت عن الألمانية.

وعلمت نفسها اللغة العربية فقرأت القرآن والشريعة  - رغم أنها مسيحية - وكتبت العربية بلغة تأثرت بمزيج فريد من كل الثقافات التى قرأت بلغاتها، أتقنتها وكتبت بها، كما كانت ظاهرة أنثوية لأنها صنعت من نفسها نموذجًا غير مسبوق بين نساء عصرها، وحتى فى الأجيال التى تلت جيلها عندما كسرت حاجز التمييز بين الرجل والمرأة كمبدعة، فكانت تلتقى بمفكرى عصرها ورواده من الرجال وتحاورهم وتدير بمقدرة عالية المناقشات فى مختلف القضايا الأدبية والفكرية بندية وثقة.

وذلك فى صالونها الشهير الذى كان منارة إشعاع وثقافة فى المجتمع المصرى فى ذلك الوقت. بدأ صالون مى فى مايو 1913 كأشهر صالون أدبى شهده القرن العشرون.

وكان ملتقى كبار مفكرى وأدباء وفنانى مصر وسوريا وكبار الأدباء الأوروبيين الزائرين لمصر،ورغم كل هذا التوهج والنجومية ظل شعور «اللا منتمية» يلاحق «ميًا»، فالأقطار الثلاثة التى تنتمى إليها : لبنان، فلسطين.

و مصر، كل منها يفتخر بأنها ابنته، لكن أحدًا من تلك الأوطان لم يُعطها ما تستحق من تكريم حتى الآن،وكثيرًا ما عبرت «مي» بقلمها عن هذه الغصة وتلك المرارة التى تشعر بها نتيجة الغربة الدائمة وعدم الانتماء، فكتبت فى أحد مقالاتها ذات مرة تقول: «أين وطني»؟! ولدت فى بلد، وأبى من بلد، وأمى من بلد، وسكنى فى بلد، وأشباح نفسى تنتقل من بلد إلى بلد.

فلأى هذه البلدان أنتمى، وعن أى هذه البلدان أدافع؟!،كثيرون أحبوا «ميًا»، العقاد، جبران خليل جبران، مصطفى عبد الرازق، وآخرون من نجوم الأدب والثقافة، لكنها كانت رغم كل ذلك وحيدة، كالشمس التى تشع على الآخرين بنورها، ووهجها ولا تتلقى شيئًا ! الوحيد الذى أحبته واستمرت قصة حبها له تسعة عشر عامًا كان «جبران خليل جبران»، الذى لم تره قط فى حياتها، فقد كان يعيش فى الولايات المتحدة الأمريكية، وتعيش هى فى مصر.

وكانت الخطابات المتبادلة هى جسرهما الوحيد للتعبيرعن مشاعرهما المعذبة بنار البعد والشوق، ثم تأتى مرحلة الانطفاء التام فى ظلام المؤامرة الدنيئة التى دبرت لها من أقرب الناس إليها واتهامها زُورًا وبُهتانًا بالجنون، والزج بها فى دهاليز مستشفى «العصفورية» ببيروت، وكل ما تلى ذلك الفصل المأساوى فى حياة مى لم يكن إلا هوامش باهتة، بائسة على صفحة حياتها الحافلة بالمجد، الإعجاب، الحب، الوله، الانبهار، الألم، الصدمة، العذاب الأسطورى الذى عاشته فى أخريات أيامها.

إذن «مى» لاتزال باهرة الحضور رغم رحيلها عن دنيانا منذ أكثر من ثمانين عامًا، وهذا شأن الشخصيات المُلهمة، الفريدة فى تاريخ الإنسانية، ليس هذا فحسب ولكن ربما لأن «مى» وقصة حياتها تجسد «تراجيديا» إغريقية من طراز رفيع. طفولة مُوحشة باردة، لكنها غنية بالثقافة والانفتاح على الآداب العالمية بلغاتها الأصلية، شباب يشهد انطلاق شهب النجم الساطع، وتربع «مى» على عرش المثقفة العصرية السابقة لزمانها ومكانها.ولا تزال مى تعيش معى و ستظل!

اقرأ ايضا | «أتمنى أن يأتي بعد موتى من ينصفني»..  لا أعرف إن كانت مى قد تركت لي-أنا تحديدًا- تلك الرسالة دون أن تدري