إحياء إمبراطوريات قديمة.. ونظام عالمي جديد

خاطر عبادة
خاطر عبادة

بقلم: خاطر عبادة

من رحم الأزمة الأوكرانية.. يولد نظام عالمى جديد يرفع رايته روسيا والصين فى مواجهة الزعامة الأمريكية، وربما أصبح أمرا واقعا بالفعل.

كما يثبت الصراع المتجدد بين تلك القوى أن طموحات روسيا وحليفها الصينى ستظل شوكة كبيرة فى ظهر الغرب وتهديدا لزعامته، بعد إعلانهما بكل ثقة وطموح غير مسبوق عن تشكيل توازن جديد للقوى، مما يجعل العالم اليوم أكثر عرضة للصراع بسبب الطموحات المتزايدة لإحياء الإمبراطوريات القديمة، التى تنامت قوتها على كافة الأصعدة أمام تراجع نفوذ الغرب.. نظراً لأن ذلك التكافؤ والتوازن فى القوة ليس مبنيا على التعاون والتكامل بل العدوانية.

التصعيد الحالى تزامن مع زيارة بوتين للصين فى 4 فبراير كمحاولة للاستقواء، ومن هناك تم إصدار بيان مشترك يعلن فيه عن ميلاد نظام عالمى جديد يقوم على التوزان، ودخول العلاقات الدولية عصرا جديدا، مؤكداً أن العالم يشهد حاليًا تغيرات هائلة تدخل فيه البشرية حقبة جديدة من التطور السريع والتحول العميق، وتعددية الأقطاب، والعولمة الاقتصادية والتنوع الثقافي، والتحول في نظام  الحكم العالمي وظهور اتجاه نحو إعادة توازن القوى في العالم؛ وان المجتمع الدولي أصبح بحاجة إلى قيادة تهدف إلى التنمية المستدامة وليس التغول بإسم الديموقراطية.

وفى سابقة شديدة الخطورة.. طالب حلفاء الناتو بمزيد من الوحدة أمام أكبر تهديد منذ الحرب العالمية.. بدأ الجميع فى الغرب يتحدث عن طموحات ومسيرة بوتين فى استعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي التى قد تورطه فى رهان أحمق لزعزعة استقرار العالم.. وتسميته بقيصر العصر، وأن روسيا لا تزال دولة كبرى لا تغرب عن حدودها الشمس، وقوية بما يكفى رغم انهيار الاتحاد السوفيتي الذى توسع من قبل على أنقاض الدولة العثمانية وحتى وصل لحدود القطب الشمالى.

هذه المرة اتخذ الصراع منحنى أكثر غموضا وتعقيدا لجأ فيه الطرفان إلى حيل أكثر خداعا فى لعبة ذكاء عالية المخاطر وسط عدم توقع تقديم تنازلات ياءسة، فيما لو كانت حرب أعصاب وليست حربا باردة.

إذا كان بوتين يرى أن الحرب مفيدة له فى كل الأحوال فإنه إذن يكون قد اتخذ قراره بالفعل، ولكن الأمر المؤكد أنه يضغط لتحقيق مطالب أخرى وهذا سبب من أسباب التعنت الغربى منذ البداية ورفض تقديم تنازلات بسهولة.

لكن فى ضوء تجارب الحروب غير الضرورية لأمريكا بالخارج، والتى قادها الطمع الأعمى وسرقة مقدرات الشعوب، فبالتأكيد  يفطن بوتين لعواقب المغامرات العسكرية الخارجية غير المحسوبة مما قد يعرض بلاده لمصير مشابه لبريطانيا العظمى حين فقدت عرشها على حساب مغامرتها فى شن العدوان الثلاثى على قناة السويس عام 1956.. كما يعرض العالم لخطر تصعيد مشابه لأزمة الصواريخ الكوبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي المتحالف مع كوبا في أكتوبر 1962 ضمن أحداث الحرب الباردة، وكانت أقرب أزمة كادت أن تؤدي لقيام الحرب النووية.

بدت التوترات عصيبة هذه المرة حول أوكرانيا مما يعنى زيادة مخالب روسيا واستخدامها لأول مرة سلاح الغاز كوسيلة للضغط.. واحتشاد القوات والآليات العسكرية الروسية قرب حدود أوكرانيا بشكل غبر مسبوق، والذى قد يكون خدعة لتحقيق أهداف عبر التهديد دون إطلاق رصاصة واحدة، لكن تكمن المخاطر فى احتمالية سو ء الفهم أو التعنت من قبل الخصم والتهديد برد اقتصادى انتقامى أو عقوبات من جانبه، وإغلاق السفارات يحمل فى طياته رسالة ضمنية مفادها (هيا اندفعوا للحرب ونحن سنزود أوكرانيا بالسلاح ولن نقدم تنازلات مخزية أو نصر مجانى لروسيا والصين على حساب زعامة الغرب؛ الأمر الذى يجعل من التصعيد الروسى دون جدوى) و أبدى كل جانب استعداده لتنفيذ تهديدات معينة أو قبول مخاطر معينة، وهو شكل من أشكال المفاوضات عالية المخاطر، التى تتم بالأفعال أكثر من الأقوال.

فكلما حاول الجانبان أن تكون لتهديداتهما مصداقية، من خلال إعادة تمركز القوات، كلما زاد خطر سوء التقدير، كما يغذى الغموض ودفع الخصم للاستعداد لجميع الاحتمالات.

تزامنا مع زيارة المستشار الألماني "شولتز" لموسكو لتهدئة الأجواء.. تحركت موسكو-أخيرا- لسحب جزء من القوات المحتشدة قرب حدود أوكرانيا، لكن شابها أيضا حالة من الغموض، حيث أبقت قوات كافية لشن غزو كبير، واتهم بوتين أوكرانيا بارتكاب إبادة جماعية ضد الأقلية الروسية فى إقليم دونباس، وفى الوقت الذى يطالب فيه البرلمان الروسى من بوتين بالاعتراف باستقلالية جمهورتى دونباس عن أوكرانيا.

طموحات روسيا الحالية إذن تتجه نحو تحقيق نصر فى الإقليم الانفصالى الموالى لروسيا.. وبالتالى لجأت لتهديد الغرب أو ربما تكون قد أثارت قضايا عالقة مثل عضوية أوكرانيا بالناتو وتمركز قواته بشرق أوروبا كمبرر التصعيد والدفع بقوات حرب ومناورات حاشدة على حدود أوكرانيا.. طيلة السنوات الماضية لم تتوقف الحرب الهجينة من قبل موسكو من خلال شن حرب إليكترونية أو معلوماتية أو ربما مضللة أو اقتصادية وحتى من خلال دعم الحملة العسكرية للانفصاليين فى إقليم  دونباس منذ عام 2014.

الحروب الحديثة لم تعد عسكرية إلا فى حالة الضرورة القصوى أو الفوز المضمون، فأغلب الحروب التى تورطت فيها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية -فيما عدا حرب فيتنام والخليج- كانت حربا بالوكالة أو اقتصادية أو تكنولوجية او معلوماتية مضللة مثل الثورات العرقية والملونة وغيرها.. فيما يسميه العالم بالحرب الهجينة التى لا تعتمد على الجيوش فقط.. فلم تعد الحروب تقليدية أو مباشرة بسبب تطور استخدام التكنولوجيا والآلات والقدرات التدميرية الهائلة التى قد تخلفها..

لذا قد نفهم أيضا أنه ربما كان من أسباب انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان فى أغسطس ٢٠٢١ هو أن دفة الصراع تحولت الآن وتدور بين القوى العالمية فى مناطق جديدة.