رياض حَمَّادى يكتب : تسريد التاريخ

رياض حَمَّادى يكتب : تسريد التاريخ!
رياض حَمَّادى يكتب : تسريد التاريخ!

لافتٌ أن يتحول اسم سوق تجاري، لبيع الخضار والفاكهة، إلى عنوان على غلاف رواية. أرى فى هذا التحويل النظرى فعل تغيير، أو هو بَسْط يوازى ما شاع عن المنسوب إليه السوق من بَسْطٍ على الأراضى بالقوة، لكنه فى حالته الأدبية بسطٌ إيجابي؛ فقبل صدور الرواية لم يكن هناك سوى نتيجة واحدة فى محرك البحث «جوجل»، تشير إلى السوق التجاري، أما اليوم فتظهر الرواية فى صدارة نتيجة البحث.

صدرت رواية سوق على محسن» للروائية نادية الكوكبانى فى طبعتها الأولى عن «روايات الهلال» فى نوفمبر 2016، وفى طبعتها الثانية عن دار الحوار فى 2020.

وهى منذ صدورها تثير الجدل، ومن أبرز ما يؤخذ عليها من ملاحظات أن لغتها «صحفية مباشرة لا تليق بالعمل الروائي.» وأنها «تتورط فى الأحداث السياسية إلى درجة الخروج عن الشروط الفنية للرواية.

وتصف الأحداث التاريخية بأمانة خالية من التدخل الفنى وفقا لما تقتضيه الرواية..» وأن السوق فى الرواية «ليس رمزا مكانيا، بل هو سوق فعلي، وعلى محسن ليس شخصية متخيلة..»

وأنها «تنحاز إلى الثورة الشبابية...» وتقدم أحكامًا سياسية لا علاقة لها بالأدب. 
هذه الملاحظة الأخيرة جاءت تعليقًا على هامش فى الرواية يفيد بأن: «تجنيد الأطفال أصبح ظاهرة انتشرت منذ بداية 2004 من قبل قائد «الفرقة الأولى مدرع»، اللواء على محسن الأحمر، والزج بهم فى مواجهات الحروب الداخلية...»


سرد الواقع والمتخيل
بداية، «تجنيد الأطفال» ليس حكمًا سياسيًا، بل هو حقيقة مثبتة فى العديد من تقارير المنظمات والصحافة، وهو فى مكانه هذا من الرواية لا يتعارض مع نوع «الرواية الوثائقية»، أما القول بأن الرواية تنقل الواقع «بأمانة» فهذا ضرورى فى سياق السرد الوثائقي.


تنطلق الملاحظات أعلاه من قراءة انتقائية للرواية، ومن محاولة لإثبات أن هناك شروطًا فنية نهائية للسرد الروائى وأى خروج عليها يعنى إخراج الرواية إلى جنس آخر غير أدبي! كما تنطلق من بسْطٍ على مفهوم عام للرواية تحوَّل إلى سيف مسلط وإلى مفهوم لا يأخذ فى الاعتبار «الرواية الوثائقية» و»الرواية التاريخية».


وبشكل عام لا خلاف على أن الرواية، أية رواية، هى عمل تخييلي.. قد تقدم «أحداثا وشخصيات وأماكن لا وجود لها إلا فى ذهن الكاتب....»، مثلما يمكنها أن تعتمد كليًا أو جزئيًا على شخصيات وأماكن واقعية، ورواية «سوق على محسن» لم تحلق بعيدًا عن إطار هذا المفهوم للرواية.


إن سوق «على محسن» و «مدينة الليل» و «ساحة» التغيير، وأسماء بعض الشوارع، هى أسماء حقيقية، لكن يونس الحوتى وأمه وأخته ومهدى الريمى وأخته وصبحية وكمال وعبده سعيد، وأروى وغمدان...، هى شخصيات متخيلة والأحداث التى شكلت حياتها هى كذلك أحداث متخيلة.


تقدم الرواية فى شقها الواقعى السياسى توثيقًا لأحداث ثورة فبراير 2011، وفى شقها الواقعى المتخيل تقدم قصصًا إنسانية لنساء ترملن بعد أن قُتل أزواجهن فى حرب صعدة، وقصصًا لأطفال تسربوا من المدارس «وأصبحوا رجالًا قبل الأوان ليعيلوا أسرهم، وقصصا لمدنيين وفنانين يزرعون الأمل» ويحلمون بغدٍ أجمل.


استعمال أمكنة حقيقية، وحتى أسماء شخصيات تاريخية حقيقية، كأرضية للمتخيل أمر معروف فى السرد الروائى ولا يعيب النص الروائى فى شيء بل هو ضرورى فى رواية عمادها الواقع التاريخي. المكان فى «سوق على محسن» ليس ديكورًا يمكن استبداله بآخر دون أن يتهاوى عالم الرواية، أى هدفها.

والمكان هنا مرتبط بالموضوع، والموضوع ليس ثورة متخيلة، إنها ثورة فبراير 2011م التى يمكن أن تُتخذ منصةً لرواية سردية ذات بُعدين: وثائقى سياسى ومتخيل اجتماعي، كما فعلت نادية الكوكبانى فى روايتها محل الدراسة، أو أن تُتخذ الثورة خلفية لرواية اجتماعية واقعية، كما فعلت ندا شعلان فى روايتها «بئر زينب»، أو رواية واقعية اجتماعية ذات خلفية تاريخية سياسية، كما فعل عبدالله عباس الإريانى فى «جولة كنتاكي»، أو منصة لرواية فنتازية بحتة لعلها لم تُكتب بعد.


يتحرك أبطال العمل ضمن ثلاثة أماكن حقيقية رئيسية: سوق على محسن، وساحة التغيير ومدينة الليل، إضافة إلى أسماء الشوارع وأسماء المسيرات والخيم والتكتلات الشبابية الثورية التى نشأت مع اندلاع الثورة.


يمكن استبدال هذه الأسماء الحقيقية بأخرى متخيلة، لكن فعلًا كهذا سيُحول الثورة إلى متخيل فيما الهدف هو خلق شخصيات متخيلة انطلاقًا من وقائع حقيقية، ومن هذا المزيج الواقعى والمتخيل تَخلق الرواية عالمها وتذهب به إلى نهاية تطابق الواقع. ولنأخذ فى الاعتبار أن الرواية مرتبطة من حيث موضوع الثورة، وبعض الشخصيات، برواية «صنعائي» التى سبقتها فى النشر، وعلى ذلك فهى تستكمل قصة الثورة أو إخفاقها فى التجربتين: 1962 و 2011. 


طاقة التأويل
فى المجمل، لا تخلو رواية «سوق على محسن» من طاقة تأويلية تتمثل فى عنصرها الحكائي؛ وفى نوعها الأدبى «رواية»؛ بما لهذا المصطلح من محمول تخييلى حتى لو كانت كل أحداثها واقعية. إضافة إلى رمزية «السوق» الذى قد يشير إلى «اليمن» ككل بما هى سوق كبير تعيش فيه الطبقات الفقيرة والمتوسطة والثرية ويشيع فيه الظلم والصراعات وتتحكم فيه قوى الفساد. 


يمكن النظر إلى المكانين الآخرين: «مدينة الليل» بفقرائها وأحلامهم البسيطة، كإفراز طبيعى للظلم الواقع فى المكان الكبير- سوق على محسن. والنظر إلى «ساحة التغيير»، بثوارها الذين يحلمون بمستقبل أفضل، كمقابل موضوعى مناقض لسوق على محسن. فى الأخير تجهض الثورة وتهدر دماء وأحلام الشباب على ساحتها.

وينتصر السوق مسجلًا انتصاره ليس على أرض الواقع الذى بسط عليه سيطرته فحسب وإنما على العنوان فى غلاف الرواية وفى عالمها كذلك، وهنا إشارة إلى استمرار الوضع السابق الذى أفرز «مدينة الليل» بما يحمله «الليل» من ظلام، ويَعدُ بالتالى بخلق ساحات تغيير أخرى.


الشخصيتان الرئيسيتان فى الرواية هما يونس الحوتى ومهدى الريمى بأحلامهما البسيطة: يونس الحالم دومًا بفتح محل لبيع الدواجن فى سوق على محسن، ويقف خلف يونس أمه المغلوبة على أمرها وأخته المعاقة ووالده الذى راح ضحية حروب صعدة، والذى دفعه الفقر لبيع حياته مقابل عشرين ألف ريال، والشخصية الثانية هى مهدى الريمى الذى يبيع ليونس أكباد الدجاج وحواصلها ليبيعها فى «ساحة التغيير». 


ما يجمع بين يونس ومهدى هو فقرهما وبساطة أحلامهما وحرمانهما من التعليم، وبرغم فقر أسرة مهدى إلا أن أمه تحب نظام «صالح» وتكره «الثورة الشبابية» التى قامت ضده، ولذلك تصفع مهدى عندما تعلم أنه يبيع بضاعته فى «ساحة التغيير»، وهنا جانب موضوعى فى تناول الثورة فليس الجميع ضدها أو معها، وثمة صوت آخر ناقد للثورة يتولد من رحم التأويل: تأويل لرمزية «ساحة التغيير» التى تحولت إلى مكان للتجارة، وهى فى الحقيقة قراءة واقعية للساحة التى استفاد منها البعض وخسر بسببها آخرون. 


وهناك أخ مهدى الذى سيُقتل فى ساحة التغيير يوم «جمعة الكرامة»: وهو يجمع قوارير الماء البلاستيكية الفارغة ليبيعها، وسيلحق به يونس الذى سيقتل فى مسيرة 11 مايو التى قادتها توكل كرمان، وبمقتله تموت أحلام الشباب وتوأد ثورتهم ما يشير إلى إجهاض الثورة.


هناك أيضًا أروى بكاميرتها وصديقها غمدان، وصبحية القادمة من رواية «صنعائي»، الفنانة التى تشارك فى الثورة بفنها التشكيلى وحراكها المدني، وكذلك عبده سعيد، القادم من «صنعائي»، والذى يواصل فراره من صبحية حاملًا صور عبدالرقيب عبدالوهاب وإبراهيم الحمدى فى «ساحة التغيير». وجود صبحية وعبده سعيد فى رواية سوق على محسن هو عنصر ربط ثانٍ بعد الموضوع فى الروايتين، ولهذا الربط قيمة فنية، لكنه فى رأيى رابط  ضعيف؛ فبالإمكان استبدال اسم صبحية بآخر وكذلك اسم عبده سعيد دون أن تتأثر الرواية سلبًا.


اللغة ورمزية المكان
حرمان السوق من دلالته الرمزية؛ لكونه سوقًا حقيقيًا، هو قول يراد به أن المكان لا يكتسب دلالة رمزية إلا إذا كان متخيلًا، أما الأماكن الحقيقية فليست كذلك! المكان وإن كان حقيقيًا يكتسب رمزيته من الواقع الجديد الذى تبنيه الرواية/الحكاية لا من واقعه الفعلي/الحقيقي، الأمر نفسه ينطبق على الشخصيات الحقيقية التى يوظفها الروائى فى عالمه الحكائي.


لكن لنفترض أن المكان هنا يخلو من دلالة رمزية، وهذا يرجع إلى القارئ، فمن قال بأن هذا محرمٌ فى الرواية! أو أن استعمال الأمكنة والشخصيات الحقيقية فى الرواية يحرمها من جنسها كرواية! السوق فى الواقع مكان لبيع الخضراوات والفواكه وهو فى الرواية، إضافة إلى ما سبق، بلد مصغر ينتشر فيه الظلم والفساد والصراع بين شخصيات متخيلة لا نعرفها بالاسم فى الواقع.

أما اللغة الصحفية فلها استعمالاتها الأدبية فى الكثير من الروايات. ويمكن القول بأن اللغة الصحفية فى الرواية غير موظفة، لكن كيف تكون غير موظفة فى عمل يمزج بين التوثيق والمتخيل!


ما يمكن أن يؤخذ على الرواية ليس لغتها الصحفية/التقريرية فى شقها السردى الوثائقى ولكن فى لغة سردها للحكاية، كنتُ أفضل أن يُكتب هذا الجانب المتخيل بلغة شاعرية تلطف من جفاف الجانب الوثائقي، وأن يتصاعد التشويق فى الجزء المتخيل ليخفف من رتابة قصة الثورة، التى بتنا نعرف مسارها. لكن لنأخذ فى الاعتبار قارئًا آخر لا يعرف قصة الثورة، قد يخالفنى الرأي.

ويمكن أن أستمر فى التمنى لأطلب نهاية سعيدة للثورة تخالف الواقع، لكن أمنية كهذه من شأنها أن تهدم ليس هذه الرواية فحسب وإنما سابقتها «صنعائي»؛ فهما تسردان الواقع بلغة روائية.


نماذج للرواية الوثائقية
تنتمى رواية «سوق على محسن» إلى «الواقعية التسجيلية» أو «الواقعية الوثائقية»، وهذا النوع من الروايات انتشر بشكل أبرز بعد ثورات «الربيع العربي»، بخاصة فى سوريا، ويمكن الرجوع إلى مقال «أسئلة التوثيق وأشكاله فى الرواية السوريّة المعاصرة» لعلاء رشيدي، وفيه يعرض مجموعة من الروايات الوثائقية السورية ويصنفها إلى ثلاثة أنواع:
1- روايات توثيقيّة بالكامل.
2- روايات التوثيق الحكائي، وهى تنقسم إلى:
أ- حكايات الموثّقين أنفسهم.
ب: التوثيق لموضوعات سياسيّة واجتماعيّة عبر سرد الحكاية الأصليّة للرواية.  
3- أدب الشهادات.
للروائى أن يوظف الحقائق التاريخية والوثائق وفقا للهدف من روايته, مثل استعمال أمبرتو إيكو فى روايته «مقبرة براغ» لوقائع تاريخية محددة هى نشأة البروتوكولات وقضية درايفوس ووقائع أخرى يلعب فيها سيمونينى والقس دلا بيكولا حلقة الوصل.

 

يقول إيكو إن سيمونيني، هو الشخصية الوحيدة المختلقة فى الرواية. مع ذلك فمقبرة براغ رواية تاريخية تخييلية؛ تاريخية من حيث موضوعها ووقائعها وشخصياتها، وتخييلية من حيث حبكتها وتقنيات سردها وشخصيتها الرئيسية (سيمونيني) التى تحيل إلى شخصيات تاريخية.


وفى رواية «قُبلة يهوذا»، للفرنسى أوبير برولونجو، يُنوه الناشر إلى أن الرواية بناها كاتبها على «أحدث الدراسات التى تناولت هذا الموضوع. وبعد أن استعرض حياة يهوذا بكاملها, وبعد أن بث حياة قصصية حقيقية فى صور جامدة غالباً, فإنه قد توصل إلى تكوين رأى هو أقرب ما يكون إلى الحقيقة». والرواية هى سيرة يهوذا فى المقام الأول بعد أن أزالت ما علق به من وصمة الخيانة.

والخطوط العامة للرواية مثبتة فى أدبيات الميثولوجيا المسيحية, مع تغييرات أحدثتها الرواية حول نهاية المسيح ودوافع يهوذا من وراء تسليمه للرومان. وفيما يتعلق بسيرة المسيح فإن الرواية لم تقدم الكثير, وفيما عدا تأويلها للمعجزات على أنها حوادث عادية تم تضخيمها من قبل الأتباع, فإن الرواية قدمت المسيح كما فعلت الأناجيل.


يجوز فى الفن الروائى تسريد الماضي، كما فعل إبراهيم عيسى فى رواياته: «رحلة الدم» و «حروب الرحماء» و «كل الشهور يوليو». وعيسى فى هذه الروايات لا يقدم جديدًا على مستوى الأحداث، الجديد هو بعثه للشخصيات التاريخية وتحليله لنفسياتها وغوصه فى دواخلها وكشف ما يعتمل فى صدورها وعقولها. الرواية فى «كل الشهور يوليو» لا تنهض على الوثائق التاريخية فحسب وإنما هى «حقيقة», كما ورد فى عتبة الرواية: «إلى الذين يبحثون عن الحقيقة: إنها تبحث عنكم.» وينوه عيسى فى عتبة تالية إلى أن «كل شخصيات هذه الرواية حقيقية، وجميع أحداثها تستند إلى عشرات المراجع والمصادر، من مذكرات، ويوميات، ووثائق، ودراسات، وشهادات مسجلة، وسجلات رسمية.

وكتب، ودوريات.» وتوصف رواية «بيروت بيروت» لصنع الله إبراهيم بأنها: «وثيقة مهمة ومرجع غنى بالحقائق.»


الهدف من الإحالة إلى هذه الروايات ليس للمقارنة أو للمفاضلة وإنما للقول بأن هناك نماذج روائية توظف المادة التاريخية لأهداف مختلفة وبدرجات ونسب متفاوتة.

وعند دراسة هذه الأنواع من التسريد للمتلقى أن يسأل: ما هى الأسباب التى تحمل الروائى على تسريد الماضي، أى تحويله إلى نص سردي؟ وما هى آفاق التخييل التى تنهض على الحاصل والمنجز لا على المحتمل والممكن؟ وأن يسأل، كما يوصى يوسا فى كتابه «رسائل إلى روائى شاب»: «علامَ تعتمد فعالية الكتابة الروائية؟»


يجيب يوسا: «تعتمد على خصيصتين اثنتين: تماسكها الداخلي, وطابعها كضرورة لازمة». ويقصد بالتماسك الداخلي, تماسك اللغة, أما القصة فبإمكانها أن تكون غير متماسكة. والضرورة اللازمة تعنى عدم ترك ثغرة فى القصة تتسرب منها الكذبة فتفشل فى الإقناع, وتحدث هذه الثغرة عند وجود ازدواجية بين القصة واللغة التى ترويها, مما يجعل القارئ يشعر أن هناك طريقة أخرى أو أسلوبًا آخر لسرد تلك القصة.


سرد المنجَز والممكن
يبحث الروائى عن مادة يُشكل منها أو بها عالمه السردي، وتختلف النصوص المنجزة فى نسبة استعمالها لهذه المادة وفقًا للهدف الذى يرومه صاحبها منها، فمنهم من يشده هَمُ الواقع فيتحرى الحقيقة من أجل صنع التغيير بالتذكير بالمأساة لا بخلق واقع وردى ونهاية سعيدة، ومنهم من يأخذ من مادة الماضى والحاضر عجينة يصنع بها عالمًا فنتازيًا متخيلًا متخليًا عن أى رغبة فى الارتباط بالواقع.


تسريد التاريخ فى «سوق على محسن» لا ينهض برمته على الخيال المحض، لأسباب مذكورة فى هذه المقالة. والتزام الروائية بالحقيقة شدها إلى عدم مخالفة مجريات الواقع وهذا مبرر ومفهوم فى الجزء المتعلق بالتوثيق، لكن هذا الالتزام قيدها فى الجزء المتخيل وقد كان بإمكانها اللعب فى هذا الفضاء بابتكار حبكة أكثر تشويقًا تخالف الواقع الاجتماعى وتطابق الواقع التاريخي. 


اعتمد السرد على تقنية خطية وهذا مبرر فى الجزء الوثائقي، لكن هذا الجزء هو المحرك لأحداث الجزء المتخيل، ما عدا مشهد الافتتاحية الذى يحلم فيه يونس بطيور ملونة. الثورة هى من يقود الثوار، هى من ينظم إيقاع حياتهم، تحولت من بوصلة إلى ربان، وهذا ما يمكن أن يؤخذ عليها.
لكن ماذا لو استبعدنا الجانب التوثيقى من رواية «سوق على محسن» واكتفت الروائية بالإشارة إلى الثورة- بصفتها ثورة متخيلة- وأثرها على شخصيات روايتها، فهل ستتفكك الرواية وتنتهى بما يعنى أنها تعتمد اعتمادًا كليًا على التوثيق؟ 


الإجابة على هذا السؤال تكشف أى نوع من الروايات الوثائقية هى رواية «سوق على محسن». فى حال حُذف الجانب الوثائقى من الرواية أو تُلوعب به فنيًا سيتبقى منها الجانب التخييلي، ما يعنى أن الرواية لا تُحلق بجناح واحد وإنما بجناحين، وفيهما يكمن الهدف من الطيران.


قد لا يميل البعض إلى الروايات التى تستعمل التاريخ دون تفسير أو تأويل، لكن هذه الذائقة لا تعطى الحق فى الحكم بأن هذا غير جائز سرديًا أو غير معمول به فى الأدب الروائي.

ويمكن للمتلقى أن يأخذ على الرواية أن الجزء السياسى فيها اكتفى بسرد ما هو معروف للعامة وكان بإمكان هذا الجزء أن يذهب بدور الروائى المؤرخ أبعد من التوثيق إلى دور الروائي/الصحافى الاستقصائى فيكشف ما دار فى الكواليس والغرف المغلقة من أسرار، لكن أمنية كهذه لا تُعدُّ مأخذًا على الرواية وتندرج ضمن توقعات المتلقى المكسورة.

اقرأ ايضا | لافتٌ أن يتحول اسم سوق تجاري، لبيع الخضار والفاكهة، إلى عنوان على غلاف رواية. أرى فى هذا التحويل النظرى فعل تغيير، أو هو بَسْط يوازى ما شاع عن المنسوب إليه السوق من بَسْطٍ على الأراضى بالقوة