عودة إلى ما قبل الجائحة

أسامة فاروق يكتب: موجز تاريخ الفن في الجمال المضاد

اسامة فاروق يكتب : موجز تاريخ الفن في  الجمال المضاد
اسامة فاروق يكتب : موجز تاريخ الفن في الجمال المضاد

ثلاث عتبات لا غنى عنها قبل قراءة كتاب الكاتب الصحفى والناقد سمير غريب «الجمال المضاد» الصادر مؤخرا عن هيئة الكتاب. الأولى بالطبع هى مقدمة الكتاب، والثانية الكلمة التى احتلت غلافة الأخير أو الظهر، والثالثة جاءت على صفحة المؤلف الخاصة على موقع فيس بوك! 


فى الأولى يقدم غريب تعريفات مختصرة للنقد والفن والعمارة،الموضوعات الثلاثة التى يرتكز عليها كتابه، وفى الثانية يؤكد على الروابط التى تجمعه بهذه الموضوعات والتى تجمعها ببعضها البعض، فتاريخ العمارة لا ينفصل بالنسبة له عن تاريخ الفن.

جمع غريب فى الكتاب ما بين التأصيل النظرى وبين الممارسة النقدية فى مجال أحبه منذ بدايات عمله فى الصحافة فى النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى وهو نقد الفن. تابع خلال أربعين عاما ونيف رحلة الفن منذ بداياته وحتى الآن.

وظل الفن فى نظره تعبيرا عن الجمال بأشكال متنوعة حتى منتصف القرن العشرين، بعده ظهر فى تاريخ الفن بعدا مختلفا تماما للجمال وهو ما أطلق عليه «الجمال المضاد».

 


وهنا يأتى دور المقدمة أو العتبة الثالثة التى يسأل فيها غريب: كيف يكون الجمال مضادا؟ ويجيب: ظن بعض الأصدقاء أن الجمال المضاد الذى أعنيه هو القبح.

على أساس أن مضاد جمال قبح. لكننى لم أقصد ذلك. فمادمت بدأت التعبير بالجمال فأنا أقصده. لكننى وصفته بالمضاد. إذن هناك جمال أولا ومضاد ثانيا. فما هو الجمال المضاد؟ يسأل مجددا، ليجيب: إنه تعبير ابتكرته، بعد تأملات فى نقد الفن والعمارة.

عبر قرون، من خلال نماذج مختلفة فى العالم. رأيت من الضرورى أن أمهد لها بتأملات نظرية فى جانبين: معرفة المعاني، وتاريخ نقد الفن. بدءا من معنى النقد فى ذاته، ونقد الإبداع وبخاصة فى الفن وفى العمارة، وتكوين الناقد، وتاريخ النقد وواقعه.


أما لماذا هو جمال مضاد؟ فهو السؤال الذى فضل عدم الإجابة عليه بشكل مباشر، للأسباب التى فصلها بعد ذلك: أولا للحفاظ على غواية التعبير، وثانيا لإتاحة الفرصة للوصول إلى الإجابة عبر قراءة التأملات العملية التى تناولتُ فيها نماذج مختارة لفنانين ومعماريين واتجاهات وتظاهرات فنية كبرى فى العالم.

 

ومنها مصر بالطبع، عبر قرون. مقدرا للمجهود الذى يبذله القارئ، شريك المؤلف. لكنه ترك للقارئ إشارة أخيرة قال فيها: «أصدقائى محبى الجمال، هذا الإحساس العصى على التعريف الواحد عبر كل تاريخ الفلسفة وعلم الجمال، ودون الدخول فى تفاصيل متخصصة، لاحظوا كيف كانت الأشكال الفنية المنتشرة منذ الفن اليونانى الرومانى وحتى الحرب العالمية الأولى، وكيف أصبحت هذه الأشكال بعد ذلك وحتى الآن، لتدركوا الجمال المضاد».


ربما كان المعنى الأقرب لإشارة غريب تلك هو حديثة التفصيلى عن الدادية مثلا، الثورة التى شهدها الربع الأول من القرن العشرين، والتى قامت على تحطيم تقاليد الفن القديم، عبر إنتاج فن مضاد، اندلعت فى الفن وعلى الفن أيضا فغيرت مجراه وأشكاله واستمر تأثيرها حتى اليوم. كانت كما يقول المؤلف عبثا فى مواجهة جنون العالم.

ورغم مضى أكثر من قرن فإنها مازالت معاصرة كما فى الماضي، لا تهرم، بل تجدد نفسها كأسطورة. أرادت الحركة كما يشرح فتح الطريق نحو نوع جديد من الفن، ومجتمع متجدد.

وتقويض الثقافة السائدة التافهة لحضارة أوروبية متهاوية قادت إلى حرب عالمية. كانوا يسعون إلى استفزاز الأشخاص ويصرخون فى وجوههم، واستمروا فى الاستفزاز عبر الفن التشكيلي، يؤكد غريب على أن الحركة لم تكن مجرد شعور بالعبثية والفوضى والرفض لكل ما يكبح جموح التلقائية فى الإبداع الفنى فحسب، لكنها كانت فى فن الملصقات وأسلوب الطباعة والعديد من المجالات الأخرى أيضا.

 

وقبل كل شيء كانت التعبير عن كل ما هو غير تقليدي، كانت حسب تعبيره أكبر من مجرد حركة فنية، وعانى فنانو الحركة من محاولاتهم خلق عالم أفضل من خلال كى جروح المجتمع الأخلاقية المتقيحة.


هل كانت محاولة للهروب من الواقع؟ يسأل ويجيب: كلا. لقد كانت تعبيرا مضادا، إذ لم يسبق أن اهتم الفنانون بمعارضة السياسة والنخبوية قبلها. أخيرا يقول إنها صرخة غضب، وسيلة تعبيرها الأهم كانت الكولاج، واختياره لم يكن عبثيا هذه المرة، فإمكانية الكولاج الأساسية هى تدمير أشياء موجودة أساسا لتشكيل أشياء جديدة منها.. التشكيل الجديد نتاج لتدمير أشياء أقدم. 


ربما تنطبق مقولة الجمال المضاد أيضا على الأعمال الإبداعية المتعلقة بالمقاومة أو بالحرب، يذكر المؤلف منها على سبيل المثال ما شاهده فى متحف بومبيدو فى باريس، حيث كان يعرض هناك مجسم لكرسى متسع مكونا من أسلحة مستعملة، للنحات الموزمبيقى جونزالو مابوندا، قال إنها من مخلفات الحرب الأهلية فى موزمبيق وسماه «عرش عالم بلا ثورة».. يبدع جمالا من أدوات الموت! يعلق المؤلف. فى المتحف نفسه أعمالا فنية تجسد مجموعة من مشاهد الحرب الأهلية اللبنانية.

التجربة تكررت فى مصر أيضا حيث يشير إلى معرض الفنان أحمد نوار الذى أعاد فيه صياغة مشاهد من الحرب والاستشهاد بأسلوبه الهندسي، وفى فلسطين حول فنانون جدار الفصل العنصرى الإسرائيلى إلى أكبر معرض فنى فى العالم.


كما أنها –الحرب- أحدثت الكثير من التحولات فى تاريخ الفن أيضا، فالحرب جزء من تاريخ الفن كما يقول المؤلف، فالحرب العالمية الأولى حركت التغيير فى كل المجالات بما فيها الفن التشكيلي، كما شهدت تجنيد عدد من الفنانين التشكيليين أيضا على جبهات القتال، وكان الخيال طريقهم لإنتاج فن يقودهم للهروب من واقعهم اليومي.

وفتح الحرب الطريق أمام عدة تيارات جديدة، وهو ما تكرر مع الحرب العالمية الثانية أيضا حيث نقلت مركز الفن التشكيلى من أوروبا إلى الولايات المتحدة وتسببت فى ازدهار الفن الأمريكى الذى لم يكن معروفا من قبل.


لكن هذا كله لا يقارب التغيير الحاصل حاليا والذى يهدد بغياب اللوحة من الأصل، ويضع فكرة المتحف نفسها فى المتحف كما يقول المؤلف الذى يؤكد أنه لمس ذلك التحول الكبير على أرض الواقع من خلال متابعته للمعارض والأسواق الدولية، فمنذ بضعة أعوام بدأ انتشار الواقع الافتراضى فى كثير من المعارض.

 واللوحة بشكلها التقليدى لم تعد جاذبة للكثير من الفنانين الشباب ولا ملبية لمتطلباتهم ولا متطلبات الجمهور نفسه، وكل المراحل التى مر بها فن الرسم من الكهوف وحتى الآن انتهت بلا رجعة، حيث يرى المؤلف أن العالم دخل فى عصر جديد مختلف جذريا، ربما يكون العصر الأخير! عصر الفنون الإليكترونية التى أسست فكرة جديدة تماما للفن وعلمه الجمالى ووضعه وانتشاره.


أراد المؤلف أن يبحث القارئ بنفسه داخل الكتاب عن إجابة لسؤال العنوان، أو لعله أراد اعتبار الكتاب فى مجمله إجابة على السؤال، على أى حال من خلال تأملات غريب التى قسمها إلى 8 فصول يمكن للقارئ البدء فى رحلة بحثه الخاصة عن الإجابة، الفصل الأول جاء بعنوان تأملات مصرية ويبحث فيه المؤلف فى حياة وأعمال مجموعة من أبرز الفنانين المصريين منهم: آمى نمر، وأحمد مرسى، ومحمود سعيد، صبحى جرجس، ومحمود بقشيش وآخرون.

وفى تأملاته العربية يتحدث عن ثورة المرأة العربية فى الفن التشكيلي، وأيضا عن المقتنيات العربية بمتحف الفن الحديث بباريس، وفى تأملاته الغربية يتحدث عن إعادة اكتشاف الرسام فرانتس كسافير.

وعن إدوارد مونك، ورحلة الفن مع الطفولة، والصراع مع الكاريكاتير، ويكشف كيف تصبح اللوحة أيقونة، فى الفصل الرابع يتأمل فى أعمال بول كيلي، وفى الخامس ينشر دراسة عن تاريخ التصوير المصرى، فتأملات فى ثلاث مئويات كبرى، ثم يقدم مجموعة من المقالات حول العمارة وأهم المعماريين.

وأخيرا يرصد الفن التشكيلى المعاصر منذ الثمانينيات وحديث تفصيلى عن السريالية وألف ليله وليلة. 
لكن قبل هذا كله يجب الانتباه للإشارة الأولى التى وضعها المؤلف، لواقع النقد الفنى فى العالم وفى عالمنا العربى بالتحديد، يقول غريب إن كان نقد الفن فى العالم العربى يعانى من قلة المتخصصين، فإن نقد العمارة يعانى أكثر، فليست هناك دراسات علمية منتشرة لنقد العمارة على الرغم من كثرة كليات ومعاهد دراسة العمارة.

وهو أمر لا يقتصر فقط على مصر والدول العربية بل يشمل العالم الثالث، وهو فى نظره ما يضعف الإبداع المعمارى ويعوق التنمية العمرانية، فالنقد المعمارى كما يرى غريب ليس ترفا بل ضرورة لتطوير لنظرية والممارسة.

وسواء فى الفن أو فى العمارة فالنقد فى نظره لمن يستحق النقد «فالنقد اعتبار لمن له الاعتبار. إذا قست من له الاعتبار بمن ليس له اعتبار فى العمران المصرى مثلا لوجدت الأغلبية لمن لا اعتبار لهم للأسف الشديد».


من هنا يشير غريب لأهمية دور النقاد الذين يحملون على عاتقهم مهمة التوضيح والشرح واستكشاف المناهج الجديدة والأهم «مكافحة انتشار القيم الثقافية الهابطة». 

اقرأ أيضا | ثلاث عتبات لا غنى عنها قبل قراءة كتاب الكاتب الصحفى والناقد سمير غريب «الجمال المضاد» الصادر مؤخرا عن هيئة الكتاب. الأولى بالطبع هى مقدمة الكتاب