الطريق الصعب من يلتسن إلى بوتين..

روسيا وأوكرانيا.. خريف الجغرافيا وربيع الفوضى

طارق عبيد
طارق عبيد

بقلم: طارق عبيد

في الحادي والثلاثون من ديسمبر عام 1999وبينما كان العالم يستعد لإستقبال الألفية الجديدة فاجأ الرئيس بوريس يلستن- اول رئيس لروسيا الاتحادية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي- الشعب الروسي بخطاب استقالته من منصبه، كان خطابا مريرا طلب فيه الصفح من شعبه " اعتذر لكم عن فشلي في تحقيق امالكم، لقد كنت واهما عندما اعتقدت انه بإمكاننا العبور من الماضي الشمولي إلى مستقبل مشرق بقفزة واحدة" ، اختلطت كلماته بدموع يبدو انها كانت دموع ندم على خيارات كانت معظمها خاطئة.

كان يلتسن يرى ضرورة تخلي روسيا عن افكار الاتحاد السوفيتي القديمة و التخلص من اثقال سنواته العجاف، في سبيله لتحقيق افكاره ارتمى في حضن الغرب معتقدا ان انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي اسباب كافيه لإنهاء الخصومة بين بلاده والغرب وفتح الطريق لاستيعاب روسيا الجديدة داخل منظومتهم الاقتصادية والأمنية. لكن في المقابل لم تتغير رؤية الولايات المتحدة لروسيا بل انها  وجدت في يلستن فرصة عظيمة للإجهاز على ما تبقى من الاتحاد السوفيتي، اتبعت معه سياسة عصا الضغط والحصار وجزرة الدعم الاقتصادي المحدود، كانت عينها على ترسانة روسيا النووية وتفكيك ما تبقى من قدراتها العسكرية، فهي لن تقبل بأقل من هزيمة روسية ساحقة تماثل هزيمة اليابان والمانيا في الحرب العالمية الثانية.

داخليا اصطدم يلتسن بالجميع ، اصدر تعديلات تطلق يده في الحكم و تقلص من صلاحيات مجلس السوفيت الأعلى ،ذلك الصدام الذي انتهى بحصار الدوما بالدبابات وانتهى بعشرات القتلى والجرحى، ضرب الفساد في مؤسسات الدولة وضعفت قبضته على مقاليد الحكم في ظل تنامي مراكز قوى اقتصادية وسياسية مدعومة من الغرب وحرب استنزاف في الشيشان انتهت بتوقيع اتفاق سلام مهين لروسيا . هذا الاضطراب دفع يلتسن لتقديم مزيد من التنازلات للغرب بلا اي مقابل يحقق تغيير في الواقع الروسي المزري.

لكن يبدو ان القدر كان رحيما بروسيا المنهكة، ظهر فلاديمير بوتين في المشهد الروسي المرتبك بعد ان رشحه " فالنتين يوماشيف " رجل ظل يلستن وصهره للعمل في مكتب الرئيس. اكتسب بوتين ثقة الجميع سريعا بقدراته المبهرة حتى ان يلتسن وجد فيه مستقبل روسيا الجديدة والاهم انه اعتبره طريقه للتكفير عن خطاياه في حق بلادة بعد ان وثق في الغرب ثقة لم تكن ابدا في محلها.

اصبح طريق بوتين نحو الكريملين ممهدا بعد ان اثبت جدارته كرئيس وزراء في فترة بالغة القسوة على موسكو، كانت مقولة بوتين "ان تفكيك الاتحاد السوفيتي يمثل اكبر خطيئة جيوسياسة في القرن العشرين " هي قلب رؤيته واستراتيجيته لروسيا و العالم، اصبحت معركته الرئيسية هي معركة الجغرافيا المضطربة بعد ان نصبت الولايات المتحدة الفخاخ حول روسيا من افغانستان لأرمينيا ومن اذربيجان لجورجيا و من الشيشان لبولندا وفي القلب كانت اوكرانيا. كانت البداية في جروزني عاصمة الشيشان، استطاع حسم الوضع العسكري وتعيين حكومة موالية لموسكو بعد سنوات من الاستنزاف، تدخل في جورجيا واوقف تمدد نظام ساكشفيلي الموالي للغرب في اقليم اوسيتيا، واستمر في الضغط على بولندا بدبلوماسة الحشود العسكرية التي طالما قضّت مضاجع "وارسو" عاصمة الناتو الجديدة ، أما اوكرانيا الرقم الصعب في معادلات الجغرافيا فلها ما تبقى من حكايتنا السياسية.

كانت سياسة روسيا في اعادة التموضع الجيوسياسي تعتمد على عدة محاور:

  • احياء ودعم الصناعات العسكرية الروسية وتوفير وسائل تحيٌد قدرة الناتو وتؤمن الحد الأدنى من الردع.
  • انشاء حلف استراتيجي مع الصين كعدو مشترك للناتو.
  • انشاء منظمة معاهدة الامن الجماعي، وهو تحالف يضم روسيا وارمنيا واوزبكستان وقيرقيزيا وطاجيكستان للتدخل السريع في النقاط الساخنة او اذا تعرض احد اعضاءها لتهديد مباشر.
  • تحييد بعض بلدان الناتو وعلى رأسها تركيا ولو بقدر ضئيل عن طريق اقناعها بنشر منظومة الدفاع الجوي S400 هناك وهو اختراق نوعي غير مسبوق لمنظومة الناتو الأمنية والعسكرية.
  • اعادة التموضع في سوريا بإنشاء قاعدة "حميميم" بالإضافة الى اعادة هيكلة قاعدة طرطوس كنقاط تمركز متقدمة في الشرق الاوسط والمتوسط حيث اهم مناطق انتاج الطاقة  وطرق امدادها في العالم.
  • تعظيم استخدام الغاز الروسي وتحويله لسلاح طاقة للضغط على اوروبا و حلحلة موقفها من روسيا.

 

 

ربيع أوديسا الدامي :

قبل ثلاثة عقود وفي احد منتجعات بيلاروسيا كتب الرئيس الاوكراني "كرافيتشوك" شهادة وفاة الاتحاد السوفيتي في اجتماع ثلاثي بينه وبين "بوريس يلستن" والرئيس البيلاروسي "شوشكيفتش" في خطوة وصفتها دوائر صنع القرار في روسيا وقتها باتفاقية العار. لم تكن  تدرك اوكرانيا انها ستصاب بلعنة الجغرافيا و ان الخريف الروسي ستطال تقلباته "كييف" بعد ان وجدت نفسها لاحقا في طريق الحرب الضروس بين روسيا والغرب.

هبت رياح الفوضى على اوكرانيا في عام 2004، اندلعت مظاهرات عارمة في العاصمة "كييف" بعد ان تواترت الاخبار عن تزوير الانتخابات بين الرئيس الروسي "فيكتور يانكوفيتش" والمعارض الموالي للغرب "فيكتور يوشينكو"، عاصفة من الاحتجاجات و الإضرابات تطالب بانتخابات نزيهة واشراف دولي على الانتخابات. جرت الانتخابات في اجواء مسمومة وتدخل وضغط دوليين وانتهت بفوز زعيم المعارضة و احد نخبة الثورات الملونة "يوشينكو". ظن الجميع ان اوكرانيا على موعد مع ربيع الديمقراطية والازدهار لكن الحقيقة انها سقطت في شرك الثورات المهندسة مخابراتيا فتحول ربيع ديمقراطيتها المنتظرة الى ربيع مخضب بالدم  ولفوضى.

دبلوماسية عض الأصابع:

ادركت الولايات المتحدة جيدا ان بوتين خصم عنيد لكنها لم تكن على استعداد للتخلي عن مكاسبها الجيوسياسة من الحرب الباردة والتي أمنت لها احادية السيطرة على العالم، كانت  اوكرانيا في  قلب استراتيجيتها القديمة/الجديدة للضغط الجيوسياسي على الروس.. اوكرانيا صاحبة الموقع الجغرافي  المهم والمطل على البحر الاسود بمينائي "اوديسا و إيلشوفيسك" واهم طرق الغاز الروسي نحو اوروبا  ورأس مثلث الجغرافيا بولندا- اوكرانيا –جورجيا.

ارادت استخدام اوكرانيا  استخدام مزدوج ، ان تكون نقطة رخوة في خاصرة الامن القومي الروسي  ثم  ورقة ضغط على اوروبا حتى لاتخرج من عباءتها الأمنية،  فلا غاز روسي عبر اوكرانيا و لا خط "نوردستريم" مع المانيا ولا سماح باستقلالها في ملفات الامن والطاقة. ظلت اوكرانيا تثير شهيتها  فقررت الذهاب بعيدا بعد سقوط "يوشينكو" وعودة "يانكوفيتش" الموالي لروسيا للحكم، دعمت  جماعة "القطاع الايمن "اليمينية المتطرفة واشعلت الفوضى في البلاد حتى هرب الرئيس الى روسيا ،بينما ظلت هي قابعة بين الخرائط المتداعية تمارس لعبتها التي تجيدها ، تضغط على خصومها الى الحد الاقصى و تنتظر هادئة  لحظة سقوط محتوم إما بموت بطيء او بتهور يدفع خصومها الى الانتحار.

ارتبكت الخرائط واختلطت المواقف مجددا ، أوربا الحائرة بين استراتيجية الامريكان في حصار روسيا  وبين خوفها من جنون روسي قد تدفع هي وحدها ثمنه الباهظ بوصفها مسرح عمليات اي تصعيد عسكري محتمل.

 

اما روسيا فاستنفرت كل مالديها من قدرات وجمعت كل ما ادخرته من اوراق لمواجهة تبدو وشيكة، لم يكن تحركها مجرد قفزة في الفراغ لكنها  قررت اتباع استراتيجية حافة الهاوية ، شاطرت الغرب فوضى بفوضى  وساومت اوروبا على امنها وارسلت إليها رسائل حاسمة ..روسيا لن تسقط وحيدة! ، استعادت شبة جزيرة القرم من اوكرانيا في حركة خاطفة و دعمت الانفصاليين في دونباس ودونتيسك وضمنت لنفسها نقطة تمركز في  مسرح عمليات معركة عض الاصابع.

 

روسيا التي باتت متيقنة ان اوكرانيا هي معركتها الاخيرة في ظل خيارات محدودة وهامش مناورة شديد الضيق، فإما اتفاق مع الغرب يحترم المجال الحيوي الروسي ويوقف تمدد الناتو شرقا فيما سمي "بالضمانات الأمنية" او سقوطها في اختبار الجغرافيا .. وحتى تتغير معادلات القوة مرة اخرى او ينتقل صدع الجغرافيا إلى اقصى الشرق ستظل دبلوماسية عض الاصابع هي الخيار المأمون للجميع فلن يتحمل أحد حرب كبرى جديدة لا يملك اي من اطرافها دفع فاتورتها الباهظة، فضلا ان الجائزة الكبرى حاليا في بكين وليست في موسكو!