الأقنعة 

مغازي شوقي
مغازي شوقي


فيِ هَذه الرحلة الطَويلة مِن الحَياة، سَوف تُواجه الكَثير مِن الأقنعة والقليل مِن الوجوه. - لويجي بيرانديلو
مقولة دعتني للتفكير كثيراً في فحواها .. في رحلتي واجهت حقاً سيلاً من الأقنعة بعضها عبرني والبعض الآخر تجاوزته .. كان هناك أيضاً ثلة من الوجوه الحقيقية ارتوت بها روحي وتمدد مفعولها متسرباً لوجداني .. لكنني خلصت بعدها إلى حقيقة أن لا أقنعة تدوم وأن زمن عرض فقرة البلياتشو قصير جداً وإن طال .  
وبضاعة الأقنعة بخيسة الثمن ، متعددة الأشكال و الأنواع ، هي أسهل ما يمكن شراؤه ، وأصعب ما يدوم  بيعه .. لأنها بضاعة يتلفها الزمن سريعاً .. ولا أدري جازماً لماذا يذهب البعض ليتستر خلف قناع يتلبسه  . ربما كان خجل هؤلاء من كشف حقيقتهم هو ما يدفعهم من داخلهم   نحو الأقنعة. أو  أن بعضهم لم يكن مقتنعاَ بحقيقته ودروب شخصيته وحال قلبه . فحاول أن يظهر للناس بشكل يجذبهم كالفراش الناعم مزركش الألوان. وهم بذلك  يختبئون داخل أنفسهم كالعلب الصينية .. تجدها  علبة داخل علبة وما تلبث أن تتضائل أحجام العلب شيئاً فشيئاً إلى أن تصل لأصغرها، لتتفاجىء حين تفتحها بأنها خاوية .  لاشيء يسكنها  سوى الفراغ والفراغ فقط  ، حينها تدرك أنك قد ابتعت الوهم في سوق الدلالة .  . وفي ظني أن هذا هو السبب المعلوم  المشترك بين كل أنواع الأقنعة على اختلاف تفاصيلها . ، يسعى كل منهم أن يظهر نفسه في حلة باهية وعلى غير حقيقته ، غاضًّا طرفه عن قبح ما داخله ربما أو نقيصة في شخصيته ؛ الأمر الهام عنده آنذاك هو كيف يبدو بعيون الآخرين  ؟  كيف له ان ينال إعجابهم ورضاهم  . في سبيل ذلك ، يفعل الكثير من أجل غايته المنشوده في التخفي وصولاً لمراده  ، غير آبه بذاته وإصلاح نفسه وحاله ..
فها نحن قد خبرنا نفراً غير قليل كانوا قد زرعوا أنفسهم في دوائر علاقاتنا بقناع الود المصطنع . الذي ما يلبث أن يذوب سريعاً تاركاً خلفه بذور شقاق وجفاء ما كانت لتنبت في الأساس . هل يعقل أن يغير أحدهم جلده كلياً ليصير ناعماً طرياً  وربما مع فصول السنة كالثعابين . يكمن خلف جلدها البراق سم قاتل ! مثل هذا الشخص يكون قد اختار بنفسه وبمحض إرادته أن يحفر اسمه في دفتر العلاقات السامة المهلكة .. 
وأما قناع الحب والعشق والوله ، فحدث ولا حرج . هو الأكثر  طلباً ومبيعاً بالأسواق  .. يسارع إليه البعض فينتقي أجمله ليسكن فيه . ويطليه بغشاء من معسول الكلام ، ثم أن ينتقي الضحية بعناية فائقة واقتدار . فيحبك تمثيل المشهد ، والبعض منهم ربما يذوب داخل الشخصية  المرهفة المصطنعة، منكراً حقيقة أن لا خداع يدوم . وان هذا الفراش الوثير من المشاعر التي مدها ما تلبث أن تتحول إلى تابوت بل قبر مظلم اختار  هو بقناعته أن يدفن فيه للأبد  وبكامل هيئته . في ذلك يقول   جون بالدوين : الحب ينزع الأقنعة التي نخاف ألا نحيا بدونها ونعلم أننا لا نستطيع أن نحيا بداخلها. 
وأكثر ما يحزنني فيمن عرفت ذلك الذي يرتدي قناع الطبقة الإجتماعية الزائف ، فتراه متنكراً لأصله وأهله ، ويظل يدعي غير ذلك حتى يصدق نفسه . ربما لا يدري أن أحبال الصدق متينه وشباك الكذب وهنة كبيت العنكبوت .. فالكذب يا هذا لا يؤدى لأي شيء غير الهزيمة .. وشر البلية رجل هزيم .. يا سيدى  كن أنت . فذو الوجهين ، شخص مطلي بالكذب .. سرعان ما تنجلي حقيقته حين تذوب قشرة الطلاء . أيها السادة : اخلعوا الأقنعة كما قال رحمه الله د. مصطفى محمود
وليس عيباً أبداً أن يتفاوت البعض في درجات مقدرتهم على كشف زيف الوجوه المحيطة بهم . فالناس أنواع وطبائع وقلوب  وأحوال مختلفة . ما ينطلي عليك ليس بالضرورة أن يتلبسني . وهذا أمر ليس له علاقة بذكاء الشخص أو مهارته . بل هو اختلاف وتفاوت  في درجات الطيبة وسكينة القلوب وتسليم الضمير . ولربما ألصقت لفظة الطيبة عند البعض رديفة للسذاجة بل إن مفهومها قد صار توأمها  – وهذا ليس بصحيح – لأن الله خلقنا كلنا على الفطرة والطيبة وحب الخير .. وأكاد أجزم أن الكثير  منا لن يستطيع وإن تقدم في العمر وخبر من الحياة ما خبر .  وتلقى نصيبه الكافي من الصدمات  أن يميز بين القناع والجوهر ، بين المظهر والمخبر.. فلا ننسى أن هناك من يحبك دوره جيداً فيطول قناعه وبقائه على خشبة المسرح ، وهناك من يسقط زيفه سريعاً حتى قبل أن يزاح ستار العرض . 
وختاماً دعونا نتشارك هذه المقولة لدكتور سلمان العودة : لو انكشفت الأقنعة لصدمتنا الحقيقة، سنرى المهرج المكتئب، والمفكر الضائع، والعالم الفاقد للحب، والداعية التواق للشهرة، والغني المحتاج, والفقير المستغني، سنرى أقوى الناس وهو بأمس الحاجة إلى من يحبه ويحتضنه ويفهمه. –