أصوات سكندرية فى شارع ليبسيوس

أصوات سكندرية فى شارع ليبسيوس
أصوات سكندرية فى شارع ليبسيوس

«عندما سأرتدى الملابس السوداء، وأسكن فى منزل أسود، فى غرفة مظلمة، سأفتح ذات مرة الخزانة بسعادة وشغف وشهوة. سأرى الملابس وأتذكر عيدًا كبيرًا حينها، كل شيء سيكون قد تبدد تمامًا».


لم يكشف وجه الطبيب خريستوفوروس باباستيفانوس عن قلقه بشكل واضح عن حالة المريض الذى يجلس أمامه الآن وينظر إليه بعينيه المستديرتين من خلف نظارته السميكة.

وبينما كان يصوب نحوه نظرة استفهامية، بدا قلقه كأنما يبلغ ذروته، وكذلك تردده، فى اختيار الكلمات التى كان يجب أن يعبر بها عن تشخيصه بعناية. 


عقد الآخر حاجبيه الرماديين وراح ينظر إلى وجه الرجل الغائم وكأنه يراقبه، أو كأنه يحاول أن يستقرئ أفكاره. كان يجلس فى سكون تام أقرب للتجمد فى انتظار قرار الطبيب، كمتهم ينتظر حكم قاضيه.


نظرته الحادة الثاقبة جعلت عدسات نظارته السميكة تبدو شاحبة، بينما كان ضوء المصباح الكهربائى منتصبًا بينهما على مكتب الطبيب. إلا أنه كان يرى بوضوح توتره وخوفه.


قرر قسطنطينوس أن يذهب إلى الطبيب باباستيفانوس قبل أيام قليلة بعد عودته من رحلته إلى القاهرة. كلمات صديقه نيكولاس فافياذيس أو بالأحرى تعبير القلق الذى ارتسم على وجهه فور أن رآه وسمع بحة غريبة فى صوته اقترح عليه أن يذهب فورًا للطبيب.

 

وبعد ذلك، عندما استيقظ فى الصباح بعد أن قضى ليلة كابوسية فى شلل تام بسبب الحمى، أدرك حلول لعنة غير مرئية.
 الإحساس بالاختناق الذى كان يراوده بين الحين والآخر فى الفترة الأخيرة صار يترك آثارًا ظاهرة عليه وبالأخص على عنقه وصوته. اشتدت حدة البحة وكان يجد صعوبة بالغة فى الإبتلاع، بينما الألم الكبير الذى كان يخرق أذنه منذ الصباح لم يبارحه أبدًا.


كل هذه العلامات الدامغة بالتأكيد دفعته نحو اتخاذ قرار زيارة الطبيب الماهر ذائع الصيتل.
«لا، لا، أنا متأكد تماما، لسنا بصدد نزلة برد، ولا الأمر يتعلق بفيروس ما أو مرض معد، ولا حتى بمرض تناسلى كما تخيلت» ثم تنحنح قليلًا مصدرًا صوتًا أشبه بسعال جاف واستطرد بنفس الحذر. 


«هذه الأعراض لا تبوح بشيء كهذا بالتأكيد. لكن...»
وجه الرجل المتجهم زاد من توتر قسطنطينوس وانزعاجه، بينما صبره كان قد نفد بالفعل. فقد كان صعبًا عليه أن يكون هنا، وبالأخص أمام هذا الرجل. كان يعرف قسوته وصلابته فيما يتعلق بأمور الانضباط الأخلاقى، حتى تعليقاته اللاذعة بين الحين والآخر لشخصه فى التجمعات والمناسبات الرسمية لمعارفهم المشتركين إذ كانت دعوته أمرًا نادرًا، بالرغم من أنه كان يسكن على مقربة من المنزل الذى التقيا فيه لأول مرة منذ سنوات طويلة.

وهو الأمر الذى جعله يفكر وهو فى طريقه إلى عيادته أن يذهب إلى طبيب آخر فى حى آخر حتى يتجنبه تمامًا هو ونظرته اللاذعة المحرجة. كان يبدو دائمًا وكأنه أسمى من أى ضعف إنسانى، نقى ومعصوم.


لم يكن يتحمل كل هذا النفاق، ولا بالطبع كل ذلك الحب الذى كان يستقيه من كل أبناء الجالية تقريبا. كانوا يعشقونه لدرجة أنهم ارتقوا به إلى مرتبة قديس صانع معجزات يطبب كل شيء. إلا أنه قرر أن يأتى إليه لأنه على درجة كبيرة من العلم كما أكد له صديقه فافياذيس وأن كل الجالية تثق به وحده ولا أحد آخر، بينما شهرته ذاعت فى مدن كثيرة فى مصر.

كان الكثيرون من أبناء الجالية فى العاصمة يتكبدون عناء السفر إلى الإسكندرية حتى يفحصهم الطبيب صانع المعجزات». ثم أنه لو لم يكن يأمل فى أن هذا الرجل سيكذب كل مخاوفه وبكل بساطه سيرسله إلى منزله مرتاح البال صافى الوجدان من كل شك وقلق، ربما لم يكن ليشرع فى الوصول إلى عيادته. لكن الآن...

«لكن؟»
«لكن أعتقد أنه شيء آخر. شيء من المحتمل... سنحتاج بالتأكيد أن تقوم ببعض الفحوصات الإضافية كى نتأكد. ونتجنب أى تشخيص عشوائى، من الممكن أن..» تردد ثانيةً، لكن هذه المرة للحظة وجيزة، ثم أضاف بنبرة واضحة. «لكنى سأكون صريحًا تمامًا معك.

الحقيقة هى أن الفحوصات الأولية والعوارض تشى بأن هناك أمرا شديد الجدية» أوضح الطبيب أخيرًا بهمة متجددة وبأسلوبه الجاد المعتاد كرجل علم مسئول يعرف عمله جيدًا ويخلص لقَسم الطبيب.


على الرغم من أنه لم يحب قسطنطينوس ولا يكن له احترامًا لما يذاع عنه فى الإسكندرية وليس فقط من أجل الحياة المتمردة المستهترة غير المستقرة التى يعيشها، على الأقل إلى زمن ليس ببعيد، وخصوصيته وأيضاً شخصيته المستفزة، لكن لأنه فى أعماقه كان يغار منه.

كان يغار من موهبته وشغفه بالحياة وقوته وشجاعته الفريدة أن يواجه بمفرده مجمتع بأكمله يخبتئ خلف نفاقه وتحفظه دون أن يعطى أدنى اهتمام بما يقال عنه. 


أما هو فكان يجب عليه دائمًا أن يتوافق ويتكيف ويستجيب للصورة التى نسجها الآخرون عنه ويتنصل من أعمق احتياجاته ويغلق عينيه عمن من هو فى الحقيقة. ولو لم تكن مهنته التى هو شغوف بها أيما شغف والتى يصب فيها كل طاقاته وشغفه، لم يكن ليحتمل للحظة حياته الروتينية المملة. ولذلك، خرجت الكلمات من فمه بصعوبة إلا أنه أستطاع أن يتخلص من مشاعر الألفة والتعاطف التى ملأته أثناء نطقه للكلمات.


«ماذا تعنى، حدثنى بوضوح» استطاع أخيرًا قسطنطينوس أن يسأل مجتازًا دقات قلبه العالية كانت قوية جدًا لدرجة أنه ظن أن قلبه يصيح بخوفه الذى يتملكه الآن تمامًا.


«أخشى أنه من المحتمل أننا ربما نواجه ورمًا خبيثًا» أجاب الطبيب باقتضاب دون مراوغة كى يتجنب أى احتمال لسوء الفهم قد يحتاج فيما بعد إلى توضيحات مستفيضة ومجهدة.

توقف قليلًا حتى يستوعب المريض كلماته ثم راح بهوادة وبنبرة تكاد تكون ودودة فى صوته فاجأته هو نفسه، «لا يجب أن نيأس ولا أن نستسلم للخوف يا قسطنطينوس. يجب أن نقوم بفحوصات أخرى...»


لم يسمع قسطنطين باقى حديث الطبيب، ثمة طنين ملأ أذنيه وظلام تام غطى كل شيء حوله.
شرد ذهنه بعيدًا، راح يتجول فى دروب خوفه وقلقه، شعورُ لا يتذكر أنه عاشه من قريب أو بعيد فى حياته من قبل.

وبالرغم من أنه كان يعرف فى داخله، كان يتوقع شيء كهذا، فمنذ فترة وبدأ جسده ينصاع للمرض ببطء لكن بثبات بشكل خارج عن سيطرته، ومع ذلك لم يكن ينتظر أن يسمع تلك الكلمات مباشرة من فم طبيب.


كان يأمل طبعًا أن يُكَذب الطبيب مخاوفه وأن يحيل الأعراض إلى إرهاق نفسى على سبيل المثال أو إلى نزلة برد أو شيء برئ تمامًا وبسيط. لكنه لم يترك له أى هامش للشك أو الجدال.


«وماذا يجب أن أفعل؟» سأل قسطنطينوس وكأنه فى حالة خدر تام كما لو كان يخرج من رمال هواجسه المتحركة.
لم يجب الطبيب باباستيفانوس مباشرة. عندما أدرك تضخم قلق الآخر، أخذ نفسًا عميقًا وقال «فى البداية، يتوجب الهدوء. سنقوم بفحوصات أخرى ولو صدقت شكوكى وأتمنى ألاّ تصدق، يجب أن تعرف أن العلاج المناسب سيستغرق وقتًا طويلاً...»


«فى الحالة التى...، أعنى، إذا ما تحققت مخاوفك، هناك علاج؟ سأل قسطنطينوس بعدما إستجمع قواه مقاومًا شعورًا مؤلمًا سيطر عليه، وألماً شديداً شعر به فجأة يضرب أذنيه حتى عنقه. 


خفض خريستوفوروس جفنيه نحو مكتبه. أمسك بريشته كما لو أراد أن يتمسك بشيء وراح يكتب ارشاداته ووصفة علاج الورم والألم. ثم رفع عينيه مجددًا وقال «مع الأسف، العلم، برغم القفزات الهامة التى قام بها إلا أنه فيما يخص بعض الأمراض لايزال أمامه طريق طويل..» لم يرد الرجل فأكمل الطبيب، «لكن وكما قلت، علينا أن نتحلى بشيء من الهدوء والإيمان بالحياة. الحياة التى تفاجئنا دائماً يا عزيزى قسطنطين».


سكت الرجل، لكن قسطنطينوس لم يكن متأكدًا إذا كان الطبيب قد انتهى من حديثه. بعد لحظات، عندما رآه يتحرك بعصبية على مقعده، أدرك أن الجلسة قد أوشكت على الإنتهاء وأن الطبيب لم يعد لديه ما يضيفه.


بالرغم من اللهفة لبصيص من الأمل محض بريق فى هذه الظلمة التى تمددت بداخله فجأة نهض من على مقعده كى يغادر. لكنه قبل أن يمد يده ليصافح الطبيب، سأله مرة أخرى بشكل مباشر فاجأ به الرجل، هذه المرة دون أى لمحة تردد، «فى حالة تأكد التشخيص، كم تبقى لى من الزمن؟ «
****
[...] خرج من مدخل البناية الفخمة ذات الطراز الإيطالى حيث توجد العيادة الفخمة أيضًا للطبيب باباستيفانو مع عيادتين أخريين شهيرتين فى المنطقة، فى شارع فؤاد الأرستقراطى المزدحم بفيلاته الأنيقة ومحلات الأنتيكة الشهيرة. تنهد قسطنطينوس بعمق كما لو أراد أن يُخرج من صدره ثقلا كبيرا.

لكى يتفادى فضول بعض المعارف فى الطريق كانوا على الجانب المقابل من الشارع، ألقى عيناه على رصيف الطريق الذى ظل ساخناً بالرغم من نسمات الربيع التى تداعبه فى الظهيرة فقد كانت الشمس ساطعة فشعر قسطنطينوس بحرارتها تنعكس على وجهه.


 أجراس بعض الكنائس كانت تصدح من بعيد معلنة بإيقاعها الحزين بدء أسبوع الآلام، وحزنه. صدى كلمات الطبيب لايزال يطن فى أذنيه كالنحل، لكن لا يجب أن ييأس، راح يفكر. لم يتحدد شيء بعد. ربما، لو ذهب إلى أثينا من أجل تشخيص جديد، ربما يجب أن يخضع إلى اختبارات أخرى. نعم، لن يستسلم بسهولة أبدًا. لا بد أن يقاوم.


لكن ماذا لو لم يستطع؟ ماذا لو أن حالته ستجبره أن يظل هناك؟ هل سيستطيع، ربما يحتاج الأمر أن يترك الإسكندرية للأبد. الفكرة وحدها أربكت كيانه.


لا، لم يستطع أبدًا أن يتخيل حياته بعيدًا عن هذه المدينة، هذه المدينة التى أثرت فيه وشكلت وجدانه أكثر من أى مكان آخر. التفكير فى المدينة اجتاحه كفيضان، بينما الأفكارالسلبية عن مرضه، اللعنة التى حلت عليه فجأة، أثقلت خطواته أكثر فأكثر، كان من بعيد يبدو وكأنه رجل يحمل على كتفيه ما يفوق قواه. 


كان واثقًا من أمر واحد، وهو أنه لو رحل عن هنا، عن هذه المدينة، حتى وإن لم يرها مرة أخرى أبدًا، ستستمر الحياة فى مسيرتها بالمدينة بقصصها الصغيرة والكبيرة لأهلها الذين شكلوا بالنسبة له طاقة إلهام إلهية، مثل إلهية مدينته التى يعشقها والتى كانت تتبعه فى كل مكان أينما ذهب، بالرغم من أنها لم تشبع أبدًا من وضعه فى تجارب قاسية وغيرها ساحرة، كان يقول قسطنطينوس، لكنه كان يكتب أكثر.


فى أحيان كثيرة كانت تطارده بإلحاح فكرة غريبة وهى أن هذه المدينة تؤول له. هو وحده يجب أن يعشقها، يتغنى بها، يُخَلّدُها وفى نفس الوقت يلومها، يوبخها وينتقدها ويلعنها. أن يناجيها ويمجدها أيضًا، أن يطلق عليها سهام غضبه وفى نفس الوقت أن يكن لها حبًا جمًا غير مشروط بلاحدود.


الإسكندرية!
تأمله العميق عاد به إلى ذكرى قديمة، حادثة ما قبل بضع سنوات تقارب العشر سنوات أو أكثر، عندما كانت الحياة تجرى فى مياه نشواها المألوفة حوار مع ذلك الصديق.

حديث عابر بسيط لكنه منذ تلك اللحظة ستتغير تمامًا طاقة العلاقة بينهما وليس فقط، بل علاقته هو نفسه بالمدينة.
كان قسطنطينوس يجلس فى البلكونة الصغيرة التى تطل على الجانب الخلفى للشارع ويشرب قهوته عندما وصل الآخر فى هدوء وصمت ودون أن ينطق بكلمة، وضع على ركبتيه ذلك المخطوط الضخم الذى كان بيديه بورع شديد.

وضعه بحرص شديد كما لو كان يضع طفلًا لقيطًا أمام والديه بالتبنى وينتظر بلهفة لحظة التجاوب والقبول.
بعد لحظاتٍ عندما لم يتلق أى رد فعل من جانبه، على الرغم من من نظرة تساؤل عابرة، شرح له صديقه بينما غطت وجهه ابتسامة عريضة متفاخرة ابتسامة كان يعانى من ترويضها وإخفائها منذ أن دخل الحجرة اقتحم عزلة وهدوء الآخر.

«الإسكندرية، يا قسطنطين!» قالها صائحًا، تقريبًا.. لفظ اسم المدينة ضايقته آنذاك. كما كان يضايقه يقين وحماس صديقه، لكن أكثر ما ضايقه هو تعبير النصر لدى الرجل..


«الإسكندرية! أخيرًا انتهى الكتاب»
رفع عينيه وراقبه بحرص، دون أن ينطق بكلمة.راح يتفحص وجهه كأنما أراد أن يقرأ أكثر مما نطقت به الابتسامة المنفرة والعينان الزرقاوان للبريطانى البارد. 


وضع جسده وتعبيره كانوا يذكرانه بطفل صغير يستعرض أمام صديقه شيئًا جديدًا لامعًا اقتناه لتوه بشيء من الخجل وامتنان صامت يلمس حدود الانتصار.


عندما عَبَّرأخيرًا قسطنطينوس بإيماءة باهتة عن تساؤله بلامبالاة، استمر الآخر بنفس روح الانتصار ممزوجة بحيوية غريبة بالنسبة لعمره، «حتى الآن لا أستطيع أن أصدق أننى نجحت بالفعل فى أن أكمله».


لم يتكلم قسطنطينوس فاستمر الآخر، «سأود أن تلقى عليه نظرة يا قسطنطينوس، فكما تعلم، رأيك هام جدًا بالنسبة لي»
لم يجب مباشرة. ترك بضع لحظات تمر وهو يراقب نفاد صبر الآخر أمامه ثم نطق أخيرًا، قال له بنبرة محايدة، «سألقى عليه نظرة بهدوء. عندما تسنح لى فرصة».


مازال يتذكر مفاجأة الآخر كما لو كانت بالأمس. حتى أنه لا يزال يتذكر ما الذى أراد أن يقوله حقًا، والآن أخرج من هنا حتى أشرب قهوتى فى هدوء، او إذا لم يشأ، لم يستطع أن يراه يقف هناك بهذا التعبير الذى يعبر عن مفاجأة وإحباط صريحين، وعندما نفد صبره تمامًا، ترك الرجل المخطوط على الطاولة بينما استمر الآخر فى شرب فنجان قهوته بهدوء معذب.


غياب الحماس الواضح من جانب صديقه سبب له اضطرابًا واضحًا. بدا وكأن مجيئه لم يحدث، ولم يره يقف أمامه بقلق ولهفة كالمسكين لمجرد كلمة مشجعة. شعر قسطنطينوس بشيء من الرضا مدركًا تضايقه، بالرغم من أنه نجح فى ترويض الفضول المفاجئ الموجز الذى اكتنفه للحظات. فى واقع الأمر فعل كل ما فى وسعه محاولاً ألاَّ يظهر أى شعور على الإطلاق حتى شعر الإنجليزى بالضجر من صمته وغادر بيته ملقيًا ناحيته إيماءة سريعة وباردة نوعًا.


حينها استطاع قسطنطينوس أن يتصفح المخطوط بأيادٍ مرتعشة بالفعل.
الكتاب، وإن كان يتقرب من النصوص التاريخية وكتابات السفر، إلا أنه لم يترك لدى قسطنطينوس أى شك أنه كان كتابًا رائعاً.

فلم يترك أى ناحية تاريخية تخص الإسكندرية بلا بحث وتحقيق.

فتطرق الرجل إلى كل مراحل الإسكندرية التاريخية خلال الثلاثة آلاف سنة منذ تأسيسها. خلدها كما لم يفعل أى كاتب آخر حتى الآن. كل عصر، كل العصور، لكنه ركز بشكل رئيسى على سلالات البطالمة وعلاقة الملكة كليوباترا بأنطونيو!
ماهذه الوقاحة! تمتم قائلًا ثم ندم على ما قاله، وكأن ذلك العصر يؤول إليه وحده.
شعر بالغيرة تنمو بداخله عندما وصل إلى مشهد دخول الإسكندر الأكبر إلى المدينة. حينها القبضة التى شعر بها فى صدرة باتت واضحة. لم يكن الكتاب فقط رائعًا، بل كان الإنجليزى فريدًا، إلا فيما يخص سعيه وراء الخلود بإيماءة ماكرة، فاسمه سيظل مرتبطًا بهذه المدينة للأبد!
لم يعر الفصل الذى يشير إليه أى انتباه. فى واقع الأمر، تجاوزه دون قراءة، دون أن يلقى نظرة وحيدة. ماذا يريد الراجل بزج اسمى فى كتاب كهذا. لا. لم يهتم بهذا الشيء على الإطلاق.


إشاراته إلى الآثار التاريخية للإسكندرية لم تكن فقط مكتوبة بروعة، لكنها كانت مرتبطة بتاريخ المدينة بشكل كبير، بنواتها، بماضيها وحاضرها، بتفصيل ملحمى بديع!


انبهر قسطنطينوس. الرحلة التى يقدمها الرجل للمتلقى كانت رائعة وفريدة، كانت رحلة تبدأ من المركز من ميدان القناصل وتمثال محمد على، حيث حوله صديقه إلى نقطه إنطلاق وإشارة لتاريخه، بينما وصف الشوارع يالها من مراوغة ماهرة كل منها مرتبط بفرع جديد للجغرافيا البشرية وتاريخها. وكانت هناك خرائط ورسومات وصور وتعليقات لا تحصى. الإنجليزى الملعون نجح فى المستحيل وفى وقت قياسى.


منذ تلك اللحظة، اهتزت صداقتهما وتزعزعت عن مكانتها وحلت محلها الغيرة والتنافسية. التفكير فى هذا الكتاب كان يعذبه. عشر سنوات يتعذب، كما كان يعذبه منظر الرجل وتعبير وجهه آنذاك، كما لو كان ينظر إليه من مكان عالٍ ويضع انتصاره عليه بين يديه.

اقرأ ايضا | رحلة صعود الجالية اليونانية في مصر