فتنة شبكة قنوات «نتفيلكس NET FLIX»

NET FLIX
NET FLIX

ريزان العرباوى

تظل مسألة التقييم الأخلاقي للفن، من أكثر العقبات التي يصعب اختراقها خاصة في المجتمعات العربية، ودائما ما تشكل الأعمال التي بها رؤية تغيرية أو كشفا لقضايا شائكة، صدمة للجمهور، خاصة تلك التي بها محاولات لإثبات وجود قضايا مرفوضة عربيا، فتنتزع صور من الحياة لنماذج محددة بهدف معالجتها دراميا وإعادة طرحها بطريقة تتسم بالتكرار القادر على إبراز التناقض المجتمعي لإقناع الجمهور المستهدف بوجود خلل في منظومة القيم التي يعتنقها، ونالت شبكة «نتفلكيس» العالمية حظا وافرا من الهجوم والإنتقادات المستمرة لطبيعة المحتوى المقدم من خلالها، والذي يتسم بالجرأة لكسر ثوابت وتابوهات المجتمعات العربية، مما يثير تساؤلات حول الرسائل الضمنية والمقصودة من وراء تلك الأعمال الجدلية؟، وما تقييم نقاد الفن للمحتوى الذي تقدمه؟، وكان آخر الأعمال التى تعرضت لنقد شديد فيلم « أصحاب ولا أعز » الذي يعد النسخة العربية من الفيلم الإيطالى « perfect strangers » .

 

التعمد فى تسليط الضوء على بعض القضايا الشائكة مثل العلاقات الجنسية الجريئة، وتضمين مشاهد صريحة للمثلية الجنسية لكلا الجنسين في أغلب أعمالها، وأن لم يكن صريحا، فتلميحا، جعلها متهمة بالتطبيع مع المثلية الجنسية وترجمتها من خلال أعمال فنية درامية بوضعها تحت المجهر وعرضها على نطاق واسع يشمل كل المنطقة العربية، هذا النهج الذي تتبعه الشبكة العالمية دائما كان سببا في الهجوم ضدها وتعرضها للإنتقادات والمطالبة بالمقاطعة لمخالفتها للأعراف والقيم الإجتماعية العربية، بالإضافة إلى نقاط أخرى كانت ولا تزال محور إتهامات متكررة للمنصة، البعض إتهمها بإزدراء الأديان والآخر رأى فيما تقدمه تشجيعا واستغلالا للأطفال القصر في أعمال إباحية، أو تلميع شخصيات إجرامية واستباحة المحرمات وفرض أجندات خارجية.. لذلك كان لابد من التوجه لنقاد الفن لمعرفة رأيهم وتقييمهم الفني للمحتوى العربي الذي تقدمه «نتفلكيس»، وهل تلك الإتهامات باطلة أمام تقديم عمل فني مكتمل العناصر؟، أم أنها بالفعل مدانة بكسر العمود الفقري لقيم المجتمع واختراق ثقافته.

عوالم لا تشبهنا

تقول الناقدة خيرية البشلاوي: «لا يمكن إنكار مدى تميز المحتوى الفني الذي تقدمه (نتفلكيس)، فلها القدرة على اختيار موضوعات وقضايا متنوعة قد تضرب في الصميم، حيث تمتاز بتقديم محتوى جذاب مكتمل بعناصر الإبهار الفني والمحبك في بنيانه الدرامي، إلا أنها تحمل قيم وثقافات تنتمي إلى عوالم لا تشبهنا، وأرى أنها منصة لكل الأفلام التي ليست بالضرورة أن تصب في مصلحة المتلقي، والمصلحة هنا ليس مقصود منها إنارة الوعي، لأنها قد تقدم أعمال – خاصة تلك التي تعرف بالإنتاج المستقل وهي في الواقع ليست مستقلة - مدعومة بأفكار وأموال تستهدف غزو أدمغة الجمهور العربي، والمصري بشكل خاص، بأفكار قد تكون بعيدة عن كل ما يمثل قيم إيجابية في حياته».

وتضيف خيرية: «لن نستطيع مقاومة تلك المنصات دون العمل على زيادة  وعي المتلقي، فالإعلام المحلي لابد وأن يلقي الضوء ويناقش قضايا وموضوعات تساهم في رفع وعي الجمهور لتشكيل متلقى نقدي، وليس مجرد مستقبل». 

وتتابع قائلة: «الهوجة التي أثارها فيلم (أصحاب ولا أعز) مؤخرا، بعضها نابع عن عقول نقدية، والبعض الآخر يسبح فيها مع التيار، وقبل محاكمة أو إصدار أحكام على أي عمل فني لابد من قرأته بشكل نقدي جيد، ولابد أن يكون هذا الرأي نابع من ناقد جيد لتحديد الإتجاهات أو الموقف بالقبول أو الرفض، وإذا تم الرفض لابد من ذكر الأسباب والمعطيات.. ومن المؤكد أن القوة الناعمة الآن أصبحت ميدان خصب جدا للإقتتال العقائدي والفكري والديني والأخلاقي والوطني، ويستغل أقصى استغلال من قبل رأس المال والصناديق الغربية التي تقدم دعم للسينما، وما يقابل السينما المستقلة، فهي لا تقدم الترفيه دون مقابل، لأن الهدف هو نشر قيم وسلوكيات تعمل على انشاء عقليات استعمارية، وتسعى لكسب منافع تجارية وتحقيق مخططات اقتصادية وسياسية، مما يثبت أن الدراما ليست عبثا وليست للترفيه فقط كما يعتقد البعض، بل عامل فعال ومؤثر في اتجاهات البعض، خاصة ذلك الجيل الذي مازال في مرحلة التشكيل، فتعطي شرعية لبعض الإنحرافات في العلاقات، ولن أقول بتجسيد الواقع بحذافيره، بل بتضخيم أجزاء فيه لصالح الفكرة التي تسعى لبثها، فهي تخاطب العقول وتنجح في تشكيل سلوكيات بجوانب جديدة، وعلى الإعلام المصري التيقظ والقيام بدوره الحقيقي في توعية وتحصين الجمهور من قوة الإعلام المضاد ومخاطر مخاطبة الحواس، بما يحقق أهداف الإعلام الموجه من الخارج والخوف من التجاوب السريع للجرعات الثقافية دون وجود رصيد قيمي وسلوكي يؤدي إلى تسلل النماذج السيئة التي لا تتفق مع قيمنا إلى معظم البيوت وتصبح شيئا مألوف، ولا وجود للصدفة فكل مايتم مخطط ومنظم من قبل الدول المانحة». 

وتضيف قائلة: «لست مع فكرة المقاطعة أو المنع، كما أنني أرفض تسليط الضوء ومناقشة تلك المسائل دراميا، وأمام تلك المعادلة الصعبة يأتي دور الاهتمام بالتعليم والإعلام خاصة في زمن أصبح فيه العالم قرية صغيرة.. أما فكرة محاكمة الفن بالقيم فأنا ضدها، لأن إلقاء الضوء على بعض القضايا الشائكة والمثيرة وتحليلها وقرأتها بشكل علمي، وعن فهم ووعي، وتقديمه للمتفرج بشكل يهدف إلى المعالجة، قد يأتي بثماره، ولكن دون تبرير القبح تحت شعار الحرية التي تجعلني تابع لحضارة لا أنتمي لها، فمن أسمى رسائل الفن هو تطهير النفس والسمو بها والسمو بالسلوكيات مع مراعة الفنان لمسئوليته في اختيار الطريقة الفنية المثالية لترجمته القضية فنيا والوصول إلى جوهر العمل والتأثير المطلوب، فلا خلاف على حقيقة رفض المجتمعات العربية لفكرة المثلية الجنسية وتحريمها من كافة الديانات السماوية، لذلك مع اختلاف الخلفيات الثقافية للمشاهدين يجب على (نتفلكيس) مراعاة ذلك خاصة فيما يتم إنتاجه عربيا، فمشاهد الوطن العربي ليس أوروبي يتعامل مع تلك المشاهد على أنها أمر مقبول».

بترون للفن

أوصى الناقد عصام زكريا الغاضبون من محتوى «نتفليكس» بعدم المشاهدة بدلا من الهجوم على الشبكة، ويقول: «من حق أي صانع للمحتوى تقديم ما تمليه عليه سياسته الخاصة سواء الفنية أو الترويجية، ومن حق المتلقي اختيار ما يتفق مع مبادئه وقيمه دون دون إصدار أحكام أو إتهامات أو فرض أهواء شخصية على الآخرين، فليس من مهامنا محاسبة الآخرون وفقا لما تحدده الآداب العامة والقيم، وإنما محاسبة العمل الفني والمحتوى من حيث التقنيات الفنية، وتطبيق مبدأ الحرية المطلقة في التعبير دون أي حدود أو شروط لتناول الفنون المختلفة لأي موضوع، مهما كان مقدسا أو غير ذلك، فمحاكمة الدراما تعتبر قمعا للحريات مع تكرار الإدعاءات البائسة للقيم والأعراف ووجود أهواء وأجندات لرموز التزييف والخداع، فلا يوجد (بترون) معين للفن وقواعد لصنع عمل فني سوى العناصر الفنية التي يجب الإلتزام بها».

ويضيف زكريا: «المحتوى الذي تقدمه المنصة متنوع بين قضايا العنف الأسري والعنف ضد المرأة واستغلال الأطفال ومناقشة العنصرية والتعصب، وكل عمل يقدم يتم إدراجه تحت تصنيف عمري معين وفقا لمحتواه، مع ملخص للقصة، فالمحتوى لا يبتعد كثيرا عن الواقع العربي، بل هناك قضايا تكشف الغطاء عن واقع معاش، لكنه عادة ما يكون بعيدا عن الأضواء ومخفيا، لمخالفته لمجموعة القيم المتعارف عليها، والتي باتت بحكم العادة والعرف تعمم على كل أفراد المجتمع وتجعل المنصة محور اتهامات متكررة، فالمحتوى المتنوع يرضي كافة الأذواق، بل وتقدم أعمالا تعتبر بمثابة رسائل توعية إجتماعية ضرورية».

ويؤكد زكريا رفضه التدخل في صناعة المحتوى الفني قائلا: «لا ينبغي محاكمة الفن بالأخلاق، لأنه يسلط الضوء على ظواهر معينة بهدف إثارة نقاش مجتمعي، كما أنه لا يوجد فن نظيف وآخر غير ذلك، بل هناك فن راق وفن رديء، وإذا كان من الممكن للجميع أن يقدم إنطباعاته، فمناقشة الفن تعطي لأناس يضبطون قواعده، ومن لديه أي تحفظات إخلاقية فليس مجبرا على الإشتراك، والخيارات أمامه متنوعة، فهي منصة تعتمد على الإنتشار والجماهيري والنزعة الشعبية، دون أن تضع في إعتبارها إعداد محتوى خصيصا لمجتمع بعينه، لكن تقدم خدمة ترفيهية للمشتركين في المنصة، ولا يوجد عندها ما يسمى بالقيم العربية، لكن لديها بند يسمى بمطالب المشتركين».

ويختتم زكريا حديثه بالقول: «إذا نظرنا إلى دور السينما والدراما منذ إن خلقت، فهي لمناقشة مشاكل الناس، لكن مع الآسف (إحنا دافنين راسنا في الرمال)، وهو أمر خاص بنا، لذلك قد ننصدم من جرأة الطرح وإزاحة الستار عن المسائل الأكثر حساسية».