قرأت كتابا يتناول حياة الشيخ الأكبر ابن عربي صدر حديثا عن الهيئة العامة للكتاب للدكتور نصر حامد أبوزيد تحت عنوان «هكذا تكلم ابن عربي». وواضح من عنوان الكتاب أنه يتناول حياة وفلسفة وتصوف «ابن عربي»... هذا الذي اتهمه البعض بالزندقة، ووصفه البعض الآخر بالشيخ الأكبر، بينما عكف علي دراسة تصوفه كبارالمستشرقين، وكتب عنه كبار المفكرين في الشرق والغرب علي السواء..

ومحيي الدين بن عربي هو صاحب هذه الأبيات المشهورة

لقد صار قلبي قابلا كل صورة

فمرعي لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أني توجهت

ركائبه فالحب ديني وايماني

ويقول الدكتور نصر حامد أبوزيد :

«وكم سعدت وأنا استمع لهذه الأبيات ملحنة مغناة علي شرائط كاسيت CDS وكم غمرني الفرح حين علمت بتأسيس جمعيات في بلدان غرببة باسم ابن عربي».

هذا المشروع الذي صاغه ابن عربي صياغة شعرية باسم «دين الحب» يجمع بين الدين والكعبة، وبيت الأوثان ومرعي الغزلان، فقلب العارف يتسع لكل هذه الصور من العبادات والشعائر، ويؤمن بكل هذه المعتقدات لأنه يعرف الأصل الوجودي الذي تستند إليه جميعها.

ويري المؤلف أن الأصل التي تستند اليه كل الأديان والمعتقدات هو أصل العلاقة بين «الحق» الخالق «والخلق» والمخلوق، وهي علاقة الحب.

في البدء كان الحب.. هكذا يتصور ابن عربي «الحقيقة» كان الله ولاشيء معه، كان كنزا مخفيا فأحب أن يعرف فخلق العالم ليعرفه، هكذا اتحدث الحقيقة استنادا إلي التراث الإسلامي مشروحا شرحا عرفانيا، يسمح لابن عربي أن يميز فلسفيا بين مفهوم «الدين الإلهي» الواحد، وبين أديان المعتقدات الكثيرة، وذلك في كتابه «فصوص الحكيم» حيث يخصصه كاملا للتوسع في عرض نظريته في «الكلمة».

وطبعا هناك من يختلف مع ابن عربي في هذه الرؤية علي أساس أن هناك من المعتقدات مايناقض مع العقيدة الإسلامية.

وأبوعبدالله محيي الدين، ولد في مدينة مرسية بالأندلس في ١٧ أو ٢٧ رمضان سنة ٥٦٠هـ ـ ٢٧ يوليو ١١٦٥، ورحل وتنقل بين المغرب والاندس، واستقر به المقام في دمشق.

وهنا يطرح سؤال ما أهمية الحديث عن ابن عربي في عصرالحداثة والعولمة؟

ويجيب الدكتور نصر أن الحديث عن «ابن عربي» في عصر الحداثة والعلومة وما نادي به «فوكوياما» التي تبدو نظريته علي السطح متفائلة إلي نبوءة سوداوية متشائمة عند «هانتجتون» في مفهوم صراع الحضارات. وهانتجتون هو الذي قال إن الاسلام هو العدو لحضارة الغرب!

وكان من الطبيعي وقد صارت «العولمة» دينا، أن يسعي البشر لمقاومة هذا الدين الجديد، والتصدي للاهوته المضمر باستدعاء الدين في كل الثقافات بلا استثناء، حتي داخل المجتمعات التي صنعت «الحداثة».. أليست الأديان التي جربتها البشرية خيرا ألف مرة من هذا الدين الجديد.. ومن العولمة.

ويتحدث المؤلف عن هذه العولمة وما فيها من فظاظة وتوحش، ويري أنها تجسيد سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي لأسطورة مصاص الدماء «دراكيولا».

ومن هنا فإن استدعاء ابن عربي مع غيره من أعلام الروحانية في كل الثقافات، يمثل مطلبا ملحا لعلنا نجد في تجربته، وفي تجاربهم ما يمكن أن يمثل مصدرا للإلهام في عالمنا.

ان التجربة الروحية هي مصدر التجربة الفنية:

الموسيقي والأدب وكل الفنون السمعية والبصرية والحركية فهو الإطارالجامع للدين والفن. هذه أهمية استحضار ابن عربي في السياق العام، ولكن استحضار ابن عربي في السياق الإسلامي، واستعادته من افق التهميش إلي فضاء المتحد مرة أخري، لايقل أهمية، وذلك بسبب سيطرة بعض الاتجاهات والأفكار والرؤي السلفية علي مجمل الخطاب الإسلامي في السنوات الثلاثين الأخيرة من القرن العشرين.

ويحدثنا عن الإعلام الغربي الذي شوه صورة الإسلام في الغرب بل في المجتمعات الإسلامية التي تعتمد قيم الاستهلاك فتبتلع الصورة التي انتجت في قنوات الإعلام دون أي فحص نقدي، حتي أن الصورة الباقية هي صورة الرجل الإرهابي حامل البندقية والسكين إلي جنب المرأة الملثمة التي لايظهر من ردائها إلا ثقبان لعينيها.

ويري المؤلف أنه قد بلغ من سطوة هذه الصورة الإعلامية القبيحة أن أثرت في الخطاب السياسي الغربي الذي تبني مفهوم الصراع بين الحضارات- باعتباره مصيراً  لافكاك منه.

ويتحدث عن العقلاء في عالم الغرب والعالم الإسلامي الذين تصدوا لهذه المحاولات بمحاولة ترسيخ قيمة «الحوار» و«التفاهم» والاحترام المتبادل محل الصراع والحروب ومن هنا يمثل فكر ابن عربي رصيدا ثريا يستأهل منا تأمله لتحرير العقل المسلم المعاصر من اثارالمشكلات السياسية والاجتماعية والثقافية التي سببت حالة التوتر والاحتقان في الفكر الإسلامي هذا من جهة، ومن جهة أخري يقدم فكر ابن عربي للقارئ غير المسلم صورة أخري لروحانية الإسلام ولمفهوم الجهاد الذي أصابه من التشوه كثير والكتاب متعة للقارئ الذي يجعله يلم بحياة وفكر علم كبير من اعلام التصوف الإسلامي، ومازال تأثيره قائما حتي اليوم.. كما أنك تشعر بعد قراءة هذا الكتاب الهام أن التصوف بحر عميق الأغوار، وأن ارتياد هذا العالم من الصعوبة بمكان، وأن التصوف رغم صعوبة السباحة في بحاره لنا فيه محاذير.

كلمات مضيئة

أصدقائي.. نحن قد نغفو قليلا

بينما الساعة في الميدان تمضي

ثم نصحو فإذا الركب يمر

وإذا نحن تغيرنا كثيرا

وتركنا عامنا السادس عشر

> أحمد عبدالمعطي حجازي