في الوقت الذي تتصاعد فيه أعدد أرباب الجلاليب في بلدنا تتراجع أعداد الفلاحين الذين يعملون بالزراعة



الثلاثاء:



فرنسا.. دولة أوروبية كبيرة.. خرج فيها الفلاحون إلي الشوارع الرئيسية للاحتجاج علي انخفاض أسعار المواد الغذائية.. وفي مقدمتها اللحوم والألبان!
واليونان دولة أوروبية أيضا.. خرج فيها الشعب إلي الشوارع في استفتاء عام رافضا الاجراءات التقشفية التي اقترحتها الحكومة لسداد الديون التي بلغت ٣٠٢٠ مليار يورو.. تراكمت عبر اكثر من ٥٠ سنة..
الفرق بين الحالتين ان السياسة في فرنسا تدار بثقافة الدولة.. التي لا تسمح للحكومة بتقديم الدعم.. للخدمات والمواد الغذائية.. أما السياسة في اليونان فتدار بثقافة الجمعية الخيرية!
والنتيجة أن فرنسا دولة دائنة.. واليونان دولة مدينة.. وانفاقها الحكومي.. يفوق دخلها بكثير جدا.. وكانت ولاتزال معرضة لاعلان افلاسها.. في أول فضيحة من نوعها في تاريخنا المعاصر!
ولم يختلف أحد اليوم في تشخيص الحالة اليونانية.
بأنها تعود لسبب واحد.. هو قيام الحكومات التي تولت السلطة منذ أيام رئيس الوزراء الأسبق كاراماناليس.. وحتي الآن بدور الجمعية الخيرية.. التي تضاعفت فيها ميزانيات دعم السلع والخدمات ومكافآت نهاية الخدمة والمعاشات والمرتبات بشكل يفوق الدخل القومي بأرقام فلكية.
المثير في الموضوع ان سياسة الطبطبة.. وتحول الدولة إلي جمعية خيرية.. لم تسفر فقط عن الخلل المهول بين ايرادات الدولة ونفقاتها.. وانما ادت لاهدار قيمة العمل والاجتهاد والاتقان.. والي نشر ثقافة الاعتماد علي الدولة في جميع المجالات التي تتطلب المشاركة المجتمعية.
وقبل ذلك كله نشر ثقافة عجيبة تري أن الحكومة هي المسئولة وحدها عن تقديم الخدمات لشعب لا يعمل ولا يجتهد.. ولا ينتج ولا يقدر حرمة المال العام.. لسبب بسيط هو ان احترام المال العام.. يبدأ من القدوة.. من فوق.. من الحكومة.
وتبدو المفارقة في المقال الذي نشره الزميل الدكتور محمود عمارة بصحيفة المصري اليوم يوم الاثنين الماضي تحت عنوان «ثورة الفلاحين في أوروبا» واشار فيه إلي أن انخفاض اسعار اللحوم والالبان ادي لانخفاض دخول الفلاحين المنتجين بنسبة ٣٠٪.. وان تكاليف الانتاج ارتفعت بنسبة ٢٢٪ عن العام الماضي بسبب الضرائب والتأمينات.
وقال المضربون إن طائفة الفلاحين.. هي الطائفة الوحيدة في المجتمع التي تعمل ١٢ ساعة يوميا.. حتي في عطلات نهاية الاسبوع.. وهي الطائفة التي لا تعرف الاجازات طوال العام.
وقدم المضربون حلولا لمشاكلهم وتتلخص في:
١- تقديم دعم اضافي لكل مزارع منتج للألبان أو اللحوم اسوة بدعم منتجي المحصولات الزراعية.
٢- وضع ضوابط علي منتجات اللحوم والالبان المستوردة من اسبانيا والمانيا.. والتي تقل اسعارها عن المنتجات الفرنسية بنسبة ١٠٪ بسبب انخفاض تكاليف الانتاج في الدولتين.
٣- التعاون مع سلاسل المحلات التجارية الكبري والتي تعرض المنتجات المستوردة لزيارة المعروض من المنتجات المحلية.. مع تخفيض هامش الربح عليها.
وتبدر المفارقة هنا ان طائفة الفلاحين في فرنسا. شاركت في تقديم الحلول للمشاكل التي تواجهها.. ولم تقذف بالكرة في ملعب الحكومة.. علي النحو الذي رأيناه في الحالة اليونانية.. عندما رفض الشعب سياسة التقشف والقي بالكرة في ملعب الحكومة التي عليها الحل والربط وفق ثقافة الطبطبة.. والاستمرار في سياسة الطبطبة.. واهدار المال العام فيما يسمي «الدعم».
وقضية الفلاحين التي تواجه فرنسا الآن.. ليست جديدة علي الساحة الأوروبية.. وقد سبق أن تعرضت لها المانيا.. ولكنها قامت بحلها علي طريقتها علي الطريقة الألمانية.
بدأت المشكلة عندما لاحظت الحكومة الالمانية.. ان عدد الفلاحين يتناقص سنة بعد سنة.. وان اعدادا كبيرة من الشبان بدأت تهجر الزراعة التي لا تدر دخلا مناسبا.. وتتجه نحو المدن حيث الصناعات التي تدر الدخل الاعلي بالجهد الاقل.. وان طائفة الفلاحين سوف تتعرض لمخاطر الانقراض.. بكل ما تمثله من تراث ثقافي وعادات وتقاليد يتعين علي الحكومة المحافظة عليها. لاسباب تتعلق بالتركيبة الثقافية والتراث التاريخي لقطاع كبير من السكان يشكلون الجزء الكبير من التنوع الثقافي في البلاد.
كان ذلك في اوائل ثمانينيات القرن الماضي.. وقت انشطار المانيا بين شرق وغرب.. والتقيت أيامها بوزير الزراعة انذاك جوزيف ايرتل.. وكان يشغل في الوقت نفسه منصب الرئيس الشرفي للغرفة التجارية الألمانية العربية.. وسألته عن حكاية الدعم الذي تقدمه المانيا للمحاصيل الزراعية.. فأبدي انزعاجه الشديد.. وقال:
نحن لا نقدم دعما للمحاصيل الزراعية.. نحن نقدم الدعم للفلاحين الذين يعملون بالزراعة.. ويقل عددهم كل سنة.. وبانتقال شباب الفلاحين إلي المدن.. وترك قراهم.. للعمل في قطاعات الصناعة المختلفة.. واذا ظل الحال علي ما هو عليه الان. سيأتي اليوم الذي تختفي فيه الفلاحة.. ويختفي فيه الفلاح الألماني.. بكل التراث الذي انتقل إلينا عبر آلاف السنين.
وقال لي جوزيف ايرتل.. وعلي وجهه كل علامات الانزعاج.. ان كل طفل يولد في احدي القري الالمانية.. يجب ان يظل فلاحا.. ليس من اجل الانتاج الزراعي فحسب.. وانما من اجل المحافظة علي ثقافة الفلاحة.. وعلي عادات وتقاليد وأسلوب الحياة في القرية!
وعندما نتأمل كل كلمة نطق بها الوزير الالماني نجد انها تعبر عن اهمية التنوع الثقافي والاجتماعي. في دولة نجحت في الابقاء علي وحدتها الوطنية.. رغم سلسلة الحروب التي خاضتها بكل قسوة وكل شراسة.
وتبقي بعد ذلك كلمة وهي ان الزميل محمود عمارة كان علي حق عندما اشار إلي أن عدد ارباب الجلابيب في بلدنا يتزايد.. كل يوم.. وكل ساعة.. في الوقت الذي تتراجع فيه اعداد الفلاحين الذين يعملون بالزراعة، واصبح الجلباب منذ ٦٠ سنة شرطا للحصول علي عضوية البرلمان.. من باب الديكور السياسي.
حقا.. ان الفلاحين.. أشكال والوان!



أم البطـل
الأربعاء:



جلست أمام الشاشة.. اتابع الاحتفال بتخريج دفعة جديدة من طلبة كلية الشرطة لعام ٢٠١٥ وتوقفت طويلا ناظرا بإمعان امام الكلمة التي ارتجلتها السيدة الرائعة عايدة مصطفي أحمد عبدالحميد.. والدة الشهيد المقدم محمد جمال الدين من قوة الادارة العامة لمرور الجيزة. وهو احد الشهداء الذين قدموا أرواحهم قربانا لأمن واستقرار الوطن.. واستشهد اثر انفجار قنبلة بدائية بنقطة مرور ميدان لبنان بشارع السودان بمنطقة المهندسين بالجيزة مساء يوم الجمعة ١٨ ابريل ٢٠١٥ فجرتها عصابة الارهاب التي تسعي للقضاء علي الوطن.. وعرقلة المسيرة نحو البناء والمستقبل.
رأيتها تصعد نحو المنصة وتتصدر المكان في ثبات وثقة وتقف امام طائفة الكبراء لتخاطب الامة بأسرها.. وتوجه رسالة الي العالم.. وقد بدت متماسكة وقد امدها الله سبحانه وتعالي بصبر المؤمنين.. وهي تتحدث بثقة وكأنها قد خرجت لتوها من كتب التاريخ التي نقلت الينا شجاعة وثبات وإيمان المرأة العربية في تاريخنا القديم.
قالت بنبرات الصدق انها طلبت من ابنها الشهيد ان يحصل علي اجازة بسبب اللي بيحصل في البلد.. فأجابها البطل الشهيد بجملة خالدة.. ستظل محفورة في وجدان وذاكرة الامة أوعي تقولي كده يا ماما.. امال مين هيدافع عن مصر.. لما ناخذ اجازة.
وعندما انتهت ام البطل من القاء كلمتها التي دمعت لها العيون مع التصفيق المدوي والعواطف الجياشة توجه اليها الرئيس عبدالفتاح السيسي لمصافحتها وتحيتها.. وقالت له.. ابني الوحيد ومعنديش غيره وكان سندي في الدنيا.. وكل حاجة في حياتي.. وكان يتمني الشهادة.. وكان ملتزما.. ويحب مصر.. ويتمني ان كل الشباب يقفون بجانب مصر والرئيس السيسي.
هكذا كانت رسالة أم البطل.. الي كل شاب في بلدنا.
أم البطل الشهيد محمد جمال الدين كان لها اكثر من فضل.
فضل تربيته.. التربية الوطنية السليمة.. وفضل ان تذاع بين العالمين وأثره.. باستشهاده في معركة الدفاع عن العزة والكرامة وعن الوطن العظيم الذي ننتمي اليه.
أم الشهيد كانت صاحبة أكثر من فضل في تقديم نموذج للقدوة الصالحة.. والتربية السليمة.. والشجاعة بلا حدود.
تذكرني السيدة الفاضلة عايدة مصطفي احمد عبدالحميد في شجاعتها بالسيدة نائلة بنت الفرافصة.. زوجة سيدنا عثمان بن عفان.. وكانت من اعذب النساء قولا.. وأذكاهن قلبا. واكملهن خلقا.. وعندما حاصر خصوم سيدنا عثمان مجلسه وتبادروه بالسيوف القت بنفسها عليه حتي تكون له وقاء من الموت.. فلم يرع القتلة الامة حرمتها.. وضربوه بالسيف انتظمت اصابعها.. ففصلن عن يدها.. ونفذت اليه السيوف فاصابته.. ثم ذبحوه كما يذبح الحمل الذلول. عليه رحمة الله.
وكانت للسيدة نائلة بنت الفرافصة.. قصة طويلة في النضال ضد معاوية.. تكشف عن شجاعتها وصلابة عقيدتها وايمانها بالله سبحانه وتعالي.
رحم الله الشهيد المقدم محمد جمال الدين.. وألهم ام البطل وأم كل شهيد.. الصبر الجميل.



عمر الشريف
الخميس:



لا تقاس قيمة الدول ومكانتها.. بما لديها من ثروات طبيعية.. وانما تقاس بما لديها من ثروات بشرية.. من الساسة والمفكرين والمبدعين.. وارباب الكفاءات النادرة ممن ضربت شهرتهم الافاق وصعدت بهم لسماء الشهرة التي لم يسبقهم اليها احد في مجالاتهم وتتباهي بهم الامم وتضعهم موضع الاوسمة التي تزين صدرها.
وفي كل هذه الحالات تسبق جنسية النجم وموطنه الاصلي اسمه ولقبه.. كأن يقال الاديب البولندي، او العالم السوفيتي او الممثل المصري او المخرج الامريكي.. بسبب بسيط هو ان النجم الساطع هو نتاج شعب.. وتربة اجتماعية وثقافة بيئية استطاعت ان تقدم نجما.. يجري اسمه علي كل لسان.. وبكل اللغات واللهجات وبالتالي يسبق الاسم في كل هذه الاحوال موطنه الاصلي وجنسيته.
ولذلك نلاحظ ان من أهم اهداف حروب الجيل الرابع التي نشهدها هذه الايام.. هي القضاء علي ثروة الدول المستهدفة من رموزها ومن نجومها الساطعة في مجالات العلوم والفنون.. وممن تخطت شهرتهم الافاق المحلية.. وانتقلت الي آفاق الشهرة العالمية.. من أجل تفريغ الامة من ثرواتها البشرية النادرة.. ومن تاريخها.. ومن البيئة الانسانية الحاضنة للمواهب.. وتحويلها الي بيئة تتسم بالعدوانية.. لا تنتج اي فرص مستقبلية لتكرار التجربة.. وظهور شخصيات جديدة.. تحتل مواقع الشهرة العالمية.
واذا كانت حروب الجيل الرابع تستهدف المتاحف.. وتطيح بالتماثيل والتحف الاثرية.. من أجل القضاء علي تاريخ الامم. ومن اثارها القديمة التي تنعش ذاكرة الشعوب.. وتدفعها لمزيد من الثقة بالنفس.. فان حروب الجيل الرابع تستهدف ايضا.. الانسان.. والثروات البشرية النادرة.. والتجارب الناجحة كي تكتمل خطوات المؤامرة.. وتصاب الامة بالتصحر الانساني الذي يقضي علي اي امل في اعادة البناء والتعمير.. أو العودة بنجوم جدد لساحة المكانة الدولية.
والتجربة ليست جديدة.. وحدثت في المانيا.. بعد انتهاء الحرب العالمية.. واتفاق الدول المنتصرة في الحرب علي تحويل المانيا الي دولة زراعية.. وبدأت عمليات تجريف هائلة للكفاءات النادرة التي يمكن ان تعيد البناء.. وازالة اثار الدمار الذي الحقته الحرب بالبلاد.
والمثير في الموضوع ان الحلفاء الذين انتصروا في الحرب العالمية.. لم ينهبوا ارصدة الذهب في البنوك.. ولا الاعمال الفنية النادرة ولكنهم نهبوا ما هو اخطر من ذلك.. وهو ثروة الامة الالمانية من الكفاءات النادرة من اطباء وعلماء وفنانين وممثلين.. صدرت تفاصيلها في كتاب شهير لصحفي ارجنتيني اسمه «اوكي جوني» بعنوان «اوديسا الحقيقية»
وصدرت ايضا في كتاب موسوعي بعنوان «الدورادو» ELDORAGO للكاتب الالماني جوزيف توماس.. وكانت ثروة الالمان في الكفاءات النادرة.. ونجوم الفن والفكر والابداع هي الهدف في كل الاحوال.
نعود لحروب الجيل الرابع التي تشهدها هذه الايام سواء بالقتال المباشر او بالارهاب بين ابناء الشعب الواحد للقضاء علي الدول المستهدفة بايدي ابناء الوطن الواحد.. وعلي رأي المثل «منه فيه» ومن «ذقنه اغزل له»
الحرب التي اندلعت فجأة ضد الممثل العالمي عمر الشريف واستهدفت جنسيته ووطنيته.. وحبه لبلده.. لا تتعلق من قريب أو بعيد بفنان رحل عن عالمنا.. وانما هي في حقيقتها معركة في الحرب ضد مصر.. في اطار ما يعرف عالميا بحروب الجيل الرابع.