يوميات الأخبار

آه يا ليل.. يا «مواعين»!!

سمير الجمل
سمير الجمل

بقلم/ سمير الجمل

ضبطوا أحدهم ينتمى إلى نقابة الصحفيين وقد نقل مقاله من مولانا الإنترنت، ولما عاتبوه، قال كنت عيان ولازم أسلم المقال فى ميعاده!

عندما سألوا صاحبنا عن استراحة المحارب عندما تضيق عليه أرض الكتابة بما رحبت.. كان جوابه: اذهب فورا إلى حوض المطبخ.. وأنافس «المتنبى» فى شعره الشهير:
الليل والخيل والبيداء تعرفنى
والسيف والرمح والقرطاس والقلم.
لكن بعد تعديلات فرضتها الضرورة.. ولجأ إليها المزاج لكى يصبح هذا البيت.
الطاسة والسكاكين والإبريق تعرفنى.
والأطباق والفناجين والحلل.
ولأن الكتابة فيها مشقة عقلية. تصبح الاستراحة اليدوية من لوازم استعادة النشاط الذهنى - وكثيرا ما وجد.. صاحبنا جملة تائهة أو عنوانا مميزا وهو يشطف الحلة من بقايا البامية والفاصوليا والأرز.

والكتابة أمزجة وأساليب.. وشطحات وكان عمنا خيرى شلبى لا يأتيه الكيف الإبداعى إلا فى المقابر - وهناك من يكتب بالملابس الرسمية كأنها ليلة كتب كتابه.. ويوسف إدريس يفضلها بالبيجاما وقعدة بيتى مع القهوة والسجائر، ولأن صاحبنا هذا - لا يميل إلى جلسات المقاهى ومحروم من الشلة.. فلم يجد أُنسه المفقود إلا فى مباريات الكرة حتى أن الأحفاد عندما يدهشهم صراخ جدو مع شوطة أو هدف.. يدركون أن جدو رغم شعره الأبيض مايزال يحتفظ «بحتة معيلة» أو ركن طفولى.. ولهذا السبب انعقدت بينه وبين الحلل والصوانى والملاعق فى المطبخ صداقة غريبة وهو يقوم بالشاور اللازم.. مستخدما الليفة أو السلك المعدنى.. وعندما تصدمه الحلة بدهنها ولغوصتها.. ثم يتعامل معها حتى تسترد بريقها ولمعانها.. عندها يشعر أنه أحرز هدفا.. حتى إذا عاد إلى فعل الكتابة.. يبدو كأنه خرج - فوره من الجاكوزى فى عملية الاستشفاء التى يمارسها الكباتن بعد المباريات العصيبة. ولأن عملية «المواعين» تتم فى جنح الليل.. حيث الهدوء والدماغ يرمح هنا وهناك - تذكر كيف كان طائفة كبيرة من الأدباء يحاورون الأشياء من حولهم منهم من اعتبر الحمار صديقه وحاوره وناقشه وتبادل معه عملية الرفس الفكرى مثل الحكيم.. وقد كلم عصاه أيضا والبيريه الذى يتوج به رأسه. وهناك من كلم الكراسى وغرف البيت. وكان الشاعر عبد الحميد الديب أمير شعراء البؤس يكلم حذاءه المثقوب وآخر القروش فى جيبه.. ولله فى أدبائه شئون وغرائب يكلمون الطير والحجر.. كما يكلمون أنفسهم أغلب الوقت.. بذلك الذهن الشارد.

وفيلسوف الساخرين محمد عفيفى أصدر كتابا كاملا عن شجرة فى حديقة بيته أطلق عليها اسم تمارا. وهكذا استدرجتنا.. الحلل والصوانى إلى الكتابة حتى استقر بنا الأمر عند طبق الإبداعات الساخرة وآه منها فى بلد سلاحه الفتاك فى أحرج الظروف «نكتة» يقاوم بها الجبابرة الذين استعمروا بلاده.. ويقهر بها مصاعب دنياه ويستعين بها على همومه فيغلبها بلمس الأكتاف مهما كانت بعون الله.. لأن النكتة هنا «نعمة» نستعين بها على تجاوز المطبات والحفر.

الأكابر
أصغر مقال فى الجريدة هو أكبرها من حيث الإقبال والاهتمام والتداول ورحم الله أحمد رجب. الذى كان يطرز كلماته البسيطة بأصداف وجواهر ومتفجرات ومفاجآت. لأن الاختصار يحتاج إلى براعة خاصة.. بعيدا عن المطولات التى يستهلها الكاتب بمقدمة قد تكون أطول من برج القاهرة وقد تأخذ المقال كله.. قبل أن يقول للقارئ ماذا يريد.

أحمد رجب. هو «ميسى» الكتابة عموما.. يستطيع أن يغازل ويرقّص فى ٢ سم.. ولا تعرف إن كان سيأخذك إلى اليمين أو اليسار أو من بين قدميك وعلى رمش عينك.. وبلغت به الحرفنة أنه أحيانا يكتب المقال عبارة عن كلمة أو اثنين مش أكثر.
وحاليا أصبحت المقالات فى أغلب الصحف على المشاع.. يكتبها الننّة الذى مايزال يرضع من أمه الجريدة ولم تفطمه بعد أو من يتعلم الشيء فى أروقة الصحيفة.. إلا إذا كان من أهل الحظوة ولدت معه عبقريته يوم كانت الست والدته تشرب المغات والحلبة فى يوم سبوعه بالحلقات والبرجلات.

بابا وماما
المقال الأب الذى هو فى أصله وفصله قطعة تتجمع فيها وجهة النظر والخبرة والرؤية الجديدة المبتكرة والأسلوب الخاص الذى هو بصمة لا تتكرر فى أصابع كافة خلق الله من أيام ماما حواء وبابا آدم.. حتى يرث الله الأرض ومن عليها لكن هذا الهتش والنتش مجرد ألعاب صحفية.. وفى ذلك قصة فقد ضبطوا أحدهم ينتمى إلى نقابة الصحفيين ويحمل بطاقتها ويحصل بها على تخفيض فى قطارات السكة الحديد ضبطوه وقد نقل مقاله.. نقلاً فوتوغرافياً بالكلمة والحرف والغلطة.. من مولانا الإنترنت.. ولما همس إليه زميله بذلك.. كان جوابه بكل بجاحة: كنت عيان ومش قادر أكتب.. ولازم اسلم مقالى فى ميعاده..!!

هذا الزبون وغيره.. انتهزوا فرصة الإنفلات الذى حدث بعد ٢٠١١.. فى صورة نقلت البلطجة من الشوارع والنواصى إلى الصحف وأجهزة الإعلام.. حتى أصبحت صفحات الرأى أشبه بمقابر.. كل مقال عليه شاهد يحمل اسم صاحبه.. والعمر الطويل لك.. ولصحافة العقاد وطه حسين.. وكامل الشناوى وموسى صبرى ومصطفى أمين وأنيس منصور وهيكل وإحسان والشرقاوى وغانم.. الخ الخ وسبحان من له الدوام.. وقد كانت الكتابة الساخرة على يد عبد الله النديم سلاحاً يحارب به المستعمر فى مجلة التنكيت والتبكيت.. وجاء فكرى أباظة باشا.. لكى يجعلها فعلاً شعبياً.. وأخذها المناضل العظيم محمود السعدنى ودفع ثمن سخريته نفياً وتشريداً وبهدلة فى بلاد الله ومع خلق الله وحبا فى بلد عشق كل ذرة فى ترابه، وقد لا يعلم الجديد من شباب الصحافة أنه اقتنص لهم أرض النادى فى البحر الأعظم وكانت قريبة من بيته وجعل منها فسحة وصالة يستقبل فيها أحبابه ومنهم الكبير اسماً وخلقاً إبراهيم حجازى - حتى أذعنت الحكومة وتنازلت عن الأرض.. وقد كتب لنا السعدنى تاريخ «الصياعة» بمعناها الأدبى والفلسفى والفكرى.. وطاف بنا برة وجوه على بساطه السحرى.. وكتابه عن أمريكا صغير الحجم موسوعة خفيفة الظل ثقيلة المعلومة.. لا يقدر عليها إلا السعدنى بثقافته من الكتب ومن التجارب ومن الأكابر الذين تعلم منهم وعلمنا وقد عانى صلاح السعدنى من قلم أخيه.. وظل منفياً فى بلده لا يعمل حتى مضى عصر السادات الذى وقف على الملأ يهدده علنا وعلى رءوس الملايين بعد كامب ديفيد الميمون.. وكم تناقشت مع الزميلين الكبيرين محمد درويش وسعيد الشحات ونحن نستعرض الإنتاج الساخر الذى تقدم به الزملاء إلى مسابقة أحمد رجب وقد تشرفنا بأن نكون لجنة تحكيمها فإن وجدت الصياغة الجيدة غابت السخرية.. وإن وجدت الاستظراف سوف تبحث عن الظرف نفسه بلا افتعال.. وقد سألتنى مذيعة حلوة وأنيقة لها رموش أطول من الطريق الدائرى، ازاى يبقى الكاتب دمه خفيف؟..
ولأن السؤال فيه الكثير من العبط رأيت أن تكون الإجابة بما هو أعبط فقلت لها.

ده أنا شخصياً كنت أتصف بالرخامة وثقل الدم حتى أكلت ذات عشاء وجبة مفتخرة من الأسماك وباقى العائلة الفسفورية وأردت النوم بعدها.. فلم أستطع إلا بعد أن شربت ما يعادل ما يحتجزه سد النهضة من مياه.. وفى اليوم التالى بينما على «الحوض» أغسل وجهى.. اكتشفت خفة دمى.. عندما ضحكت حتى الكركرة وأنا اتطلع إلى مناخيرى وأذنى وشفاتيرى.. وهكذا حصلت على درجة الظرافة واللطافة وأحياناً الهيافة.

ولأن الكتابة الساخرة لا تعنى استخدام العامية عمالها على بطالها.. فهى جادة إلا أن تأتى الكلمة التى هى أشبه بالمطب الصناعى الذى يستوقفك رغم أنفك.
وعندما صعدت إلى المنصة فى نقابة الصحفيين لكى أتسلم الدرع كواحد من أعضاء لجان التحكيم رأيته فى ثوب جديد.. فقد كان فى السنوات السابقة على شكل صينية وقد داعبت الزملاء محمد شبانة وأيمن عبد المجيد ودعاء النجار.. وقلت لهم.. فى كل مرة أتسلم هذا الدرع تسألنى الحكومة المنزلية: فيها إيه لو قدموا لكل واحد فى هذه الصينية، كيلو برتقال.. وهى غالبا ما تنصحنى عندما أشتريه أن اختار البرتقالة الناعمة حتى لفت نظرى فكهانى صديق وقال إن الخشنة أفضل ومن حيرتى بين هذه وتلك بدأت البحث عن برتقال «ملط» بدون قشرة وقال لى صديق ابن حلال إن هذا النوع لا تتم زراعته إلا فى «الجونة»!!
وقد لخص فيلسوف الجلباب وأحد أبرز الساخرين محمد مستجاب.. أزمة هذا النوع من الكتابة إلى غياب التجربة وهى حصيلة الغوص فى الحياة بثقافة الشوف والسمع والاطلاع.. ومع ذلك فإن مستجاب الكبير لم يصنف من الساخرين تماما مثل صلاح عيسى.. المؤرخ البارع والقلم اللاذع الجامع المانع..

واحد سوشيال وصلحه
وفى تفسيرى أن غياب الكتابة الساخرة سببه أن الملايين تحولت من خانة القراءة إلى الكتابة عبر وسائل التواصل وأنا أرى فيها ما لا أجده فى الصحف بمحترفيها وأصبح على الكاتب الذى يريد أن يمضى فى هذا الطريق.. أن يتجاوز الموجود ويسبقه.. ولن تفلح معه أسماك البحار الأبيض والمتوسط والأحمر.. والفوشيا.. لأن البذرة «ربانى» ثم تنمو بالرعى والرعاية والعين البصاصة الحساسة التى تجيد إعادة ما ترى وتسمع فهى تطحنه وتعجنه وتخبزه فى صورة أخرى مثل العيش الصابح الساخن مع طبق فول بالزيت الحار على عربة تقف على الناصية مع فحل بصل.. وقرن فلفل.. ثم تحبس بواحد شاى معتبر.. وتبوس اليد على الوجهين ثم تسأل الله فى الدعاء أن يجعل يومك قبل يوم الفول أدامه المولى علينا بالصلصة أو البيض أو الجبنة.. وحتى تكمل الحكومة جميلها وكما أوصلت الغاز والمياه والكهرباء إلى منازلنا تمدنا بماسورة فول نفتح الحنفية ينزل لنا بسلامته جاهزا من مجاميعه..

وبعد الأكل والشرب اتركوا مسألة المواعين لصاحبنا فهى أشبه بمواعيد غرام.. وجلسات علاج مضمونة إلا إذا دبت الغيرة بين الحلل وبعضها البعض.. لأنه يفضل واحدة على أخرى.
وقانا الله وإياكم شر الغيرة والنفسنة ما ظهر منها وما بطن!