رفعت الجلسة| ومن يعوض الفراق

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

عشت سنوات أكرهه، دون أن أراه أو حتى أتحدث معه، كانت معلوماتى عنه، أستخلصها من صرخات أمى كلما سألتها عن أبى، كثيرا ما كانت تدعو عليه ليلا نهارًا، تنقل عنه المساوئ فقط، وتخبرنى أنه لم يكن والدى، بل مصاص دماء، امتص شبابها ورماها فى جنح الليل ورفض الإنفاق عليها.

كبرت وأنا أخشى سؤال الناس عن والدى، فقد تركنا وعمرى لا يتجاوز الـ5 سنوات، لا أتذكر عنه شيئا، لكن صورته فى نظرى لم تتغير، مازال ذلك الأب السيئ الذى رمى أسرته وذهب لإشباع رغباته الحرام، هكذا قالت أمى.

كنت أحدث نفسى كثيرا كلما جلست بمفردى، وأتساءل أين ذلك الأب؟، ولماذا لم يسأل عنى رغم مرورالسنوات؟، ماذا يمنعه من الحضور لزيارتى إذا كان على قيد الحياة كما تخبرنى والدتى ؟، وما سبب كل هذه الكراهية التى تولدت فى عقل وقلب أمى تجاه ذلك الزوج؟، ماذا فعل لتهرب  بعيدا عنه، وتغلق كل الطرق أمامه ليرانى ويطمئن على؟.

سنوات وأنا فى حيرة من أمرى، وأمى تزيد من جرعة الكراهية فى نفسى اتجاه والدى، كانت تخشى اللحظة التى أبحث فيها عنه، دائما ما كانت تقطع أى خيط يقربنى إليه أو إلى أحد من أفراد أسرته، هربت بى بعيدا، وأغلقت صفحات كثيرة كانت كفيلة بكشف حقيقة اختفاء ذلك الأب.

لكننى بعد أن كبرت، لم يعد يتقبل عقلى مبررات الطفولة التى كانت تطلقها والدتى لتبرر اختفاء ذلك الزوج، قررت أن أبحث بنفسى عن ذلك الأب الغائب الذى لم أره منذ 12 عاما.

انتهزت فرصة تواجدى مع أصحابى فى القاهرة وذهبت الى أحد أحيائها حيث عنوان سكن والدى فى قسيمة الطلاق، دخلت الحى وبدأت أردد اسمه كثيرا بين الباعة وأصحاب المحلات، ليرشدنى أحدهم الى عمى ذلك البائع المتجول الذى بمجرد أن عرفته بنفسى احتضننى بقوة، ثم أذرف الدموع، وكأننى الغائب الذى كان يبحث عنه، لا الحاضر الذى يبحث عنهم.

لم يصدق ذلك البائع العجوز الذى ترتسم على وجهه علامات الحاجة وقلة الحيلة اننى ابن أخيه، الغائب منذ 12 عاما عنه، والمختفى هو ووالدته عن الحى دون أن يتركا عنوانا أو طريقا للوصول إليهما.

لم يكن يعنينى كل هذه اللهفة المرسومة على الوجوه، بل اختصرت نظرات العطف التى شاهدتها على سكان الحى عندما علموا بعودتى، لأبادر بسؤال ذلك العم عن مكان والدى؟، أخبرته اننى أريد ان أراه فلدى الكثير من الأسئلة التى تحتاج الإجابة عليها.

لكن فجأة تحول العطف واللهفة المرسومة على الوجوه لبكاء وحزن، أخبرنى عمى، أن والدى فارق الحياة منذ شهرين، غادرها وحيدا فى شقته بإحدى العمارات القريبة من هنا، وكانت أمنيته قبل أن يموت هو أن يرانى، أنا ابنه الوحيد حيث لم يتزوج بعد انفصاله عن والدتى طوال هذه السنوات.

كانت كلماته عن والدى كالصخر الذى سقط على رأسى فأسكتنى الحديث، أصابنى فجأة الذهول، وتساقطت دموعى، فلم أتماسك نفسى، وظللت أدعو له بالرحمة.

حقيقة لم أكن أعرف لماذا أبكى؟، فقد مات ذلك الأب فى نظرى منذ سنوات، لكن هناك أمر ما دفعنى إلى طلب زيارة شقته التى كان يقطنها.

أردت البحث عن أى شىء يربطنى بذلك الأب، دخلت الشقة، وجدتها لا تصلح للسكن الآدمى، تلمست بعينى وبيدى حجم المأساة التى كان يعيشها ذلك الرجل، وجدت صورة معلقة على الحائط تجمعنى به وعمرى كان وقتها أربعة أعوام.

تساءلت كيف كان يعيش هنا؟، ومن كان يقوم بخدمته؟، ولماذا لم يبحث عنى؟ لكننى وجدت إجابات كثيرة من عمى على كل هذه الأسئلة.

أخبرنى ذلك العجوز أن أبى كان مدرسًا، وكانت الخلافات مستمرة بينه وبين والدتى، فقد كانت تهينه لعدم قدرته على توفير احتياجاتها التى لاتنتهى، تحملها 3 سنوات بعد ولادتى، لكن إهانتها كانت تزيد، تسبه فى الشوارع وأمام الناس، لم يتحملها.. قرر الانفصال عنها، ومنحها حقوقها كاملة.

لم تتقبل والدتى الوضع، قررت الانتقام من والدى لتركه لها، فقد كانت ترى نفسها المسيطرة والآمر والناهى فى البيت، ولم تتخيل أن يتركها والدى بسهولة هكذا.

تولدت نغمة الانتقام لديها، رفضت كل مغريات والدى فى أن تكون بجواره، رغم أنه منحها شقته للعيش فيها، حتى يستطيع الإنفاق عليها وعلى ابنه الصغير، إلا أنها قررت الهروب، وقطع كل مايربطها به، انتقاما منه.

هربت والدتى إلى بيت أبيها فى محافظة الإسكندرية، أشعلت نار العداوة بين أسرتها وأبى، هددوه بالقتل إذا اقترب منها، فاختار أن يبتعد قليلا حتى تهدأ الأمور.

لكنه عندما أراد العودة والبحث عني، كانت قد اختفت والدتى، اشترى لها أبوها بيتًا واستقرت فيه ولم يعد هناك رابط بينها وبين والدى.

رغم كل ذلك يقول عمي، لم يتخل والدى عنها حول راتبه للبنك، واستقطع جزءًا كبيرًا منه نفقة لتعليمى وتربيتى، وكان يحوله مباشرة لحساب بنكى كان قد خصصه باسمك فى أحد البنوك، وكانت والدتك على علم بذلك وتذهب شهريا لصرفه والإنفاق به عليك ، حيث اكتفت بهذا المبلغ الكبير الذى تجاوز الـ70% من راتب والدك ورفضت إقامة دعاوى نفقة، حتى لايجمعها بوالدك أى لقاء .. ويضيف «بعد أن فقد والدك الأمل فى العثور عليك ارتأى العزلة فى هذه الشقة القديمة، واختار أن يعيش كل هذه السنوات وحيدا دون أن يسبب لك مشاكل.

بعد سنوات أصاب والدك مرض السرطان فى الرئة، فقد كان شره التدخين، لم يتحمل المرض كثيرا، أشهر وغادر الحياة، وتم دفنه فى مقابر العائلة بمحافظة البحيرة.

ويقول عمي أوصانى والدك باستمرار إرسال النفقة بعد وفاته، فقد انهيت كل حقوقه المالية فى العمل، واحتفظت بها معي، وأقوم كل شهر بإرسال نفس المبلغ الذى خصصه والدك نفقة لك على نفس الحساب والباقى إدخرته لك على أمل عودتك وتسليم الامانة لك.

حقيقة لم أستطع الانتظار كثيرا، سافرت الى الإسكندرية، واجهت أمى بما علمته عن والدى، أخبرتها بوفاته، فلم تحرك ساكنا بل تمادت فى الدعوة عليه بالهلاك، طلبت منها إجابات عن كل الأسئلة المتعلقة بحقيقة والدى، لكنها ظلت صامتة .،بل نهرتنى وغضبت منى لأننى بحثت عنه، رغم كل تحذيراتها السابقة لى .

إقرأ أيضاً | «ماعت» تحذر من خطابات كراهية عبر الإنترنت تستهدف الشباب

أنا أعلم والدتى جيدا، تملك صوتًا مرتفعًا، تطلق السباب دون حساب، وتثير المشاكل دائما مع الجيران، تسب أقاربى ليلًا نهارًا، وتكذب فى كل شىء من أجل أن تظهر الأم المضحية.

لم أفقد الأمل فى البحث عن الحقيقة.. توجهت الى خالى سألته عن معاش جدى الذى تصرفه والدتى شهريا لتنفق به علينا، أخبرنى أن هذه كذبة، وجدى ليس له معاش، وما تنفقه والدتك هى نفقة خصصها لك والدك قبل أن تتركه والدتك وتهرب بك الى هنا، وأن ماذكره لك عمك هو الحقيقة الكاملة التى حاولت والدتك إخفاءها عنك انتقاما من والدك بسبب تركه لها، فقد كانت تشعر أنها زوجة لا تترك.

أنا الآن أحاول رد الجميل لوالدي، أزور قبره يوميا، وأود عمي، لكن لا أعرف ماذا أقول له؟، كلمات كثيرة تزاحم لساني، كثيرا ما أبدأ بالبكاء، ثم الاعتذار له.

أما والدتى فلم أعد أشعر بالمودة تجاهها، تحملت معها الكثير، لكنها تدفعنى الآن الى العزلة بعيدا عنها، فكلما جلست بجوارها تذكرت معاناة ذلك الأب وأنها السبب فى حرمانى منه على مدار ١٢ عاما.

القانون الحل

طالبنا كثيرا.. ومازلنا نطالب.. أوجدوا مواد فى قانون الأحوال الشخصية تعاقب من يزرع الكراهية فى نفوس الأبناء تجاه أبائهم، سواء كان ذلك من الأب أو الأم.. لاتكتفوا بعقوبة التعويض، فالمال من السهل إيجاده، أما الكره فيقود للانتقام.

نهاية.. يجب أن تكون هناك عقوبة سالبة للحرية لكل أب أو أم تسبب فى حرمان الآخر من ابنائه لسنوات أو حتى أيام .