د.عماد أبو غازي يكتب : قرأءة في السياسة الثقافية د. جابر عصفور

د.عماد أبو غازي يكتب : قرأءة في السياسة الثقافية د/جابر عصفور
د.عماد أبو غازي يكتب : قرأءة في السياسة الثقافية د/جابر عصفور

اخترت للمشاركة في وداع جابر عصفور أن أقدم قراءة أولية في مشروعه لصياغة إستراتيجية للمنظومة الثقافية للدولة، والتي لم تحظ بقدر مناسب من الاشتباك معها ومناقشتها؛ ربما لأن الرجل ترك منصبه الوزاري بعد شهور قليلة، أو لنقل أسابيع قليلة من تقديم مشروعه للنقاش، وربما لأن ورقة أخرى معاصرة لها كتبها الأستاذ السيد يسين تلقاها المجتمع الثقافي بالنقد باعتبارها سياسة وزارة الثقافة، رغم أنها مجرد رؤية لصاحبها ومساهمة منه في وضع تصور للسياسة الثقافية للدولة، لذلك قد يكون من المناسب في لحظة غياب جابر عصفور عنا أن نفتح الباب لمناقشة رؤيته للسياسة الثقافية، التي تحتاج بلا شك لمناقشة أكثر عمقًا مما تسمح به اللحظة والمساحة.
 عرفت مصر إستراتيجيات العمل الثقافي والسياسات الثقافية الرسمية عقب إنشاء وزارة الثقافة في عام 1958؛ وقدم عدداً من الوزراء الذين تولوا حقيبة الثقافة سياسات تحمل اسمهم أو تنسب إليهم؛ وكان آخر هؤلاء الدكتور جابر عصفور في عام 2014، قبل أن يصبح محور الثقافة في استراتيجية التنمية المستدامة مصر 2030 السياسة الثقافية الرسمية للدولة.

 لقد تولى جابر عصفور منصب وزير الثقافة مرتين، في 2011 و2014؛ كانت المرة الأولى التي تولى فيها وزارة الثقافة في أثناء ثورة 25 يناير 2011، في حكومة الدكتور أحمد شفيق الأولى، آخر حكومة شكلها الرئيس حسني مبارك، كان يتصور يومها أن النظام استوعب الدرس، وإنه يسعى لتحقيق تآلف وطني، ولكنه لم يستمر في منصبه إلا تسعة أيام عندما أدرك أنه لا توجد نية حقيقية للتغيير، وفي هذه الأيام القليلة كان حريصًا على أن يناقش مع زملائه في وزارة الثقافة خططًا طموحة للعمل تنطلق مما هو قائم وتبني عليه.


 وفي المرة الثانية عندما تولى وزارة الثقافة في عام 2014 واستمر في منصبه قرابة ثمانية أشهر، قدم في ديسمبر 2014، بعد قرابة ستة أشهر في منصبه، مشروعا لاستراتيجية لمنظومة الثقافة في مصر، حمل عنوان: «إستراتيجية المنظومة الثقافية للدولة 2014-2030».

وقد بدأ في الإعداد لهذه الإستراتيجية أو السياسة الثقافية عقب توليه منصبه مباشرة، واعتبرها خطوة أولى في هيكلة المنظومة الثقافية في مصر.
 ولا شك في أن خبرات الدكتور جابر عصفور بالعمل الثقافي وبالإدارة الثقافية التي اكتسبها خلال سنوات عمله الرسمي في وزارة الثقافة كانت دافعًا له ومعينًا في الوقت نفسه في صياغة مشروعه، فقد شغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة لمدة خمسة عشر عامًا، وتولى إدارة المركز القومي للترجمة لثلاث سنوات، كما أشرف على دار الكتب والوثائق القومية لعدة أشهر.

وقبلها وخلالها شارك في أنشطة مختلف هيئات وزارة الثقافة لسنوات، ومن هنا كانت معرفته بهيئات وزارة الثقافة وقطاعاتها المتعددة عميقة قبل توليه الوزارة.


 فعندما شرع الدكتور جابر عصفور في وضع إستراتيجية للمنظومة الثقافية للدولة كانت معرفته بوزارة الثقافة وأجهزتها وخبراته بالعمل فيها حاضرة، لكنه لم ير ذلك كافيًا، بل اتجه إلى الاستعانة برؤى متعددة ومتنوعة، كما أوكل عملية تحليل الرؤى والصياغة الأولية لمن رأى فيه القدرة على ذلك، ومن هنا فقد لعب دورًا أساسيًا في صياغة الاستراتيجية الدكتور سعيد المصري، الذي شغل في هذه المرحلة منصب مساعد وزير الثقافة لتطوير المنظومة الثقافية، ورغم ما يمتلكه الدكتور جابر عصفور من لغة أدبية راقية، فقد أسند كتابة مقدمتها للشاعر سيد حجاب، الذي كان قد انتهى قبلها بشهور من صياغة مقدمة دستور مصر الذي صدر في يناير 2014؛ لقد كان جابر عصفور يؤمن دائمًا بالعمل الجماعي ويحرص في كل موقع تولاه على تشكيل الفريق الذي يعاونه ويساند مشروعه.


 لقد صدر مشروع «إستراتيجية المنظومة الثقافية للدولة 2014-2030» نتاجًا لسلسلة من جلسات الحوارات وورش العمل، شارك فيها بالرأي والتعليق أكثر من خمسين فاعلًا وفاعلة في المجال الثقافي، كذلك اعتمد المشروع على قراءة في رؤى متنوعة حول السياسة الثقافية تعامل معها باعتبارها أوراقا خلفية، بعضها سياسات ثقافية سابقة.

والبعض الآخر رؤى لخبراء، كذلك رجع إلى المشروع الذي قدمته لمجلس الشعب في 2012 المجموعة الوطنية للسياسات الثقافية، وهي مجموعة مستقلة تضم خبراء وممثلين للمجتمع المدني في مجال الثقافة بدأت عملها في خريف 2010، لقد كان هناك حرص واضح على الاستماع لأصوات متنوعة ومختلفة.


 وتنقسم الاستراتيجية إلى سبعة أقسام أساسية وملحق بعد التمهيد والمقدمة؛ ويؤكد التمهيد على أمرين: الأول أن الإستراتيجية تأتي في إطار ما تبذله الحكومة من جهد في طرح رؤية استراتيجية للتنمية المستدامة، في إشارة إلى العمل القائم وقتها في إعداد إستراتيجية التنمية المستدامة – مصر 2030 التي أعلنها رئيس الجمهورية في مطلع عام 2016، والأمر الثاني أن المنظومة الثقافية قائمة على الشراكة المجتمعية في الشأن الثقافي، على التعاون بين وزارة الثقافة وأطراف أخرى حكومية وغير الحكومية.


 تبدأ الإستراتيجية بتحليل للوضع الراهن، باستخدام أداة التحليل الرباعي، ثم تنتقل إلى تحديد للرؤية والرسالة والقيم والأهداف، وفي القسم الثالث من الإستراتيجية تنطلق لتحديد أسس تطوير منظومة العمل بوزارة الثقافة، ويتضمن الملحق التصور المقترح لهيكل جديد لوزارة الثقافة، فقد كان حريصًا خلال تلك الأشهر القليلة علي  أن يضع تصورًا متكاملًا لبناء جديد لمؤسسات العمل الثقافي في مصر.


وتنتقل الاستراتيجية بعد ذلك إلى مجالات التعاون بين وزارة الثقافة وغيرها من الهيئات والوزارات؛ فقد حرص جابر عصفور في مشروع الإستراتيجية  على أن يؤكد أهمية التعاون بين وزارة الثقافة وغيرها من الوزارات والهيئات ومؤسسات المجتمع المدني، لقد كانت قناعته دائمًا أن الثقافة ليست مسئولية وزارة الثقافة وحدها.

ولم تقتصر الاستراتيجية على تأكيد هذه الفكرة، بل سعت لترسيخها من خلال تقديم مشروعات محددة للتعاون مع 21 وزارة وهيئة ومجلسا ومؤسسات مجتمع مدني، وقد قام بالفعل بتوقيع بروتوكولات للتعاون مع عدد من هذه الوزارات والهيئات والمؤسسات.


 وتُختتم الإستراتيجية بتصور للأهداف التفصيلية ومؤشرات القياس.
 ومن الجدير بالذكر أن الإستراتيجية رغم ما بذل فيها من جهد كبير كانت مجرد مشروع مطروح لنقاش لم يكتمل، الأمر الذي ورد واضحًا في التمهيد للإستراتيجية، عندما أشار إلى أن الحوار المجتمعي حول المنظومة الثقافية المقترحة ما زال قائمًا مع الشركاء من الحكومة والمجتمع المدني، وأنه لم يتسن بعد الانتهاء من صياغة الوثيقة كاملة. 


 ولا شك أن التزامن بين صياغة الاستراتيجية ومراحل الإعداد لإصدار استراتيجية التنمية المستدامة – مصر 2030 قد انعكس في تداخل إيجابي بين الاستراتيجيتين، خاصة وأن فريق العمل في محور الثقافة في استراتيجية مصر 2030 كان من بين المجموعات التي قدمت تصوراتها في استراتيجية المنظومة الثقافية، كما أن الفاعل الأساسي في صياغة الاستراتيجية إلى جانب الدكتور جابر عصفور كان هو نفسه مقرر محور الثقافة في استراتيجية مصر 2030.


 لقد ركزت هنا على ما رأيته من جوانب إيجابية في استراتيجية المنظومة الثقافية، التي يمكن أن نعتبرها بمثابة مشروع السياسة الثقافية للدكتور جابر عصفور كوزير للثقافة؛ لكن المشروع يحتاج لمزيد من النقاش حوله والاشتباك معه، للاستفادة منه والبناء عليه من ناحية، وللتأريخ للسياسات الثقافية في مصر من ناحية أخرى.

اقرأ ايضا | شهادة للراحل د. جابر عصفور