الأرشيف المفقود

إيهاب فتحى
إيهاب فتحى

  قبل‭ ‬ساعات‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬القوات‭ ‬الأمريكية‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬العراقية‭ ‬بغداد‭ ‬فى‭ ‬العام‭ ‬2003‭ ‬،‭ ‬تحركت‭ ‬قافلة‭ ‬من‭ ‬سيارات‭ ‬الدفع‭ ‬الرباعى‭ ‬من‭ ‬وسط‭ ‬العاصمة‭ ‬تحوطها‭ ‬آليات‭ ‬من‭ ‬الحرس‭ ‬الجمهورى‭ ‬العراقى‭ ‬لحمايتها،‭ ‬أسرعت‭ ‬القافلة‭ ‬بأقصى‭ ‬سرعة‭ ‬فى‭ ‬اتجاه‭ ‬الحدود‭ ‬العراقية‭ ‬السورية‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬العراق‭. ‬

تلقت‭ ‬عناصر‭ ‬متخفية‭ ‬من‭ ‬طلائع‭ ‬القوات‭ ‬الخاصة‭ ‬الأمريكية‭ ‬داخل‭ ‬العراق‭ ‬أوامر‭ ‬من‭ ‬المخابرات‭ ‬الأمريكية‭ ‬بمطاردة‭ ‬هذه‭ ‬القافلة‭ ‬والاستيلاء‭ ‬عليها‭ ‬بأى‭ ‬ثمن‭ ‬أو‭ ‬تدميرها‭ ‬مستعينة‭ ‬بالدرونز،‭ ‬بالفعل‭ ‬اشتبكت‭ ‬الدورنز‭ ‬مع‭ ‬الآليات‭ ‬العراقية‭ ‬ودمرتها‭ ‬وبدأت‭ ‬تطلق‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬سيارات‭ ‬القافلة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تتوقف‭ ‬وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬على‭ ‬مسافة‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬الحدود،‭ ‬لكن‭ ‬فجأة‭ ‬صدرت‭ ‬الأوامر‭ ‬من‭ ‬قيادة‭ ‬الجيش‭ ‬الأمريكى‭ ‬بالتوقف‭ ‬عن‭ ‬ملاحقة‭ ‬القافلة‭ ‬وتركها‭ ‬لتعبر‭ ‬فى‭ ‬سلام‭ ‬إلى‭ ‬سوريا‭ ‬وسط‭ ‬دهشة‭ ‬الضباط‭ ‬الأمريكان‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يطاردونها‭. ‬

فى‭ ‬اليوم‭ ‬التالى‭ ‬وسط‭ ‬آلاف‭ ‬الأخبار‭ ‬التى‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬قرب‭ ‬دخول‭ ‬القوات‭ ‬الأمريكية‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬عاصمة‭ ‬العراق‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬خبر‭ ‬صغير‭ ‬لم‭ ‬يلق‭ ‬الاهتمام‭ ‬الكافى‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬اتصالا‭ ‬تم‭ ‬بين‭ ‬الكرملين‭ ‬والبيت‭ ‬الأبيض‭ ‬يقول‭ ‬بإن‭ ‬الأمريكان‭ ‬قدموا‭ ‬اعتذارهم‭ ‬إلى‭ ‬موسكو‭ ‬لإطلاقهم‭ ‬النار‭ ‬بطريق‭ ‬الخطأ‭ ‬على‭ ‬قافلة‭ ‬تضم‭ ‬طاقم‭ ‬السفارة‭ ‬الروسية‭ ‬فى‭ ‬بغداد‭ ‬بقيادة‭ ‬السفير‭ ‬الروسى‭ ‬فى‭ ‬العراق‭ ‬فلاديمير‭ ‬تيتورينكو‭ ‬أثناء‭ ‬مغادرتهم‭ ‬الأراضى‭ ‬العراقية‭ ‬بسبب‭ ‬ظروف‭ ‬الحرب‭. ‬

ماوراء‭ ‬الخبر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الدرجة‭ ‬من‭ ‬بساطة‭ ‬الخطأ‭ ‬فعندما‭ ‬استشعر‭ ‬مسئولو‭ ‬السفارة‭ ‬الروسية‭ ‬بأن‭ ‬الأمريكان‭ ‬كشفوا‭ ‬خروجهم‭ ‬وبدأوا‭ ‬مطاردتهم،‭ ‬اتصلوا‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬بموسكو‭ ‬وتدخلت‭ ‬الرئاسة‭ ‬الروسية‭ ‬بأقصى‭ ‬سرعة‭ ‬متصلة‭ ‬بالبيت‭ ‬الأبيض‭ ‬وكانت‭ ‬الرسالة‭ ‬الروسية‭ ‬واضحة‭ ‬بشكل‭ ‬لايقبل‭ ‬التأويل،‭ ‬بأن‭ ‬عدم‭ ‬ترك‭ ‬القافلة‭ ‬تمر‭ ‬وتعريض‭ ‬حياة‭ ‬الدبلوماسيين‭ ‬الروس‭ ‬للخطر‭ ‬يعنى‭ ‬الدخول‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬حرب‭.‬

فى‭ ‬نفس‭ ‬هذه‭ ‬الساعات‭ ‬الحاسمة‭ ‬قبل‭ ‬دخول‭ ‬القوات‭ ‬الأمريكية‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬وبعد‭ ‬حادث‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬‮«‬بالخطأ‮»‬‭ ‬على‭ ‬الروس‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الساعات‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أركان‭ ‬الإدارة‭ ‬الأمريكية‭ ‬كلها‭ ‬مجتمعة‭ ‬فى‭ ‬غرفة‭ ‬العمليات‭ ‬لإدارة‭ ‬حرب‭ ‬قد‭ ‬تغير‭ ‬مجرى‭ ‬التاريخ،‭ ‬لكن‭ ‬الشخصية‭ ‬الأبرز‭ ‬وقتها‭ ‬مستشارة‭ ‬الأمن‭ ‬القومى‭ ‬الأمريكى‭ ‬كونداليزا‭ ‬رايس‭ ‬غادرت‭ ‬بأوامر‭ ‬من‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكى‭ ‬جورج‭ ‬بوش‭ ‬العاصمة‭ ‬واشنطن‭ ‬متوجهة‭ ‬إلى‭ ‬موسكو‭ ‬ليفاجأ‭ ‬الروس‭ ‬بوصول‭ ‬كونداليزا‭ ‬رايس‭ ‬إلى‭ ‬مطار‭ ‬عاصمتهم‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬إنذار‭ ‬وهى‭ ‬تحمل‭ ‬طلبا‭ ‬واحدا‭ ‬مقابلة‭ ‬الرئيس‭ ‬الروسى‭ ‬فلاديمير‭ ‬بوتين‭.‬

‭ ‬حاول‭ ‬المسئولون‭ ‬فى‭ ‬الكرملين‭ ‬إبداء‭ ‬غضبهم‭ ‬مما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬قافلة‭ ‬السفارة‭ ‬مع‭ ‬رفضهم‭ ‬أن‭ ‬تقابل‭ ‬الرئيس،‭ ‬لكن‭ ‬رايس‭ ‬أصرت‭ ‬فهم‭ ‬يعلمون‭ ‬لماذا‭ ‬جاءت‭ ‬بهذه‭ ‬السرعة‭ ‬وفى‭ ‬هذا‭ ‬التوقيت‭ ‬الحاسم‭ ‬ولاداعى‭ ‬للخداع‭ ‬فوافقوا‭ ‬على‭ ‬طلبها‭ ‬الوحيد‭. ‬

نقلت‭ ‬كونداليزا‭ ‬رايس‭ ‬للرئيس‭ ‬الروسى‭ ‬ماتريده‭ ‬واشنطن‭ ‬وهو‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تحمله‭ ‬القافلة‭ ‬الروسية،‭ ‬ولكن‭ ‬الرئيس‭ ‬الروسى‭ ‬نفى‭ ‬وجود‭ ‬أى‭ ‬شيء‭ ‬حملته‭ ‬القافلة‭ ‬سوى‭ ‬أعضاء‭ ‬السلك‭ ‬الدبلوماسى‭ ‬الروسى‭ ‬العاملين‭ ‬فى‭ ‬السفارة‭ ‬ببغداد،‭ ‬فهمت‭ ‬رايس‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النفى‭ ‬أن‭ ‬الكنز‭ ‬ضاع‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬يدى‭ ‬واشنطن‭ ‬وهو‭ ‬يستقر‭ ‬الآن‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬الأبنية‭ ‬المحصنة‭ ‬لجهاز‭ ‬المخابرات‭ ‬الروسى‭. ‬

ماهو‭ ‬الكنز‭ ‬الذى‭ ‬كانت‭ ‬تحمله‭ ‬القافلة‭ ‬الروسية؟‭ ‬ولماذا‭ ‬كانت‭ ‬واشنطن‭ ‬تريده‭ ‬وغضبت‭ ‬بشدة‭ ‬لفشلها‭ ‬فى‭ ‬الحصول‭ ‬عليه؟‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬ظلت‭ ‬أجزاء‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬إجابتها‭ ‬معلقة،‭ ‬وظهرت‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬بعد‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكى‭ ‬للعراق‭ ‬بعض‭ ‬شذرات‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬حول‭ ‬كنز‭ ‬القافلة‭ ‬الروسية،‭ ‬فالقافلة‭ ‬أغلب‭ ‬مستقليها‭ ‬من‭ ‬ضباط‭ ‬المخابرات‭ ‬الروسية‭ ‬وليس‭ ‬دبلوماسيين‭ ‬فقط‭ ‬وكانت‭ ‬تحمل‭ ‬الأرشيف‭ ‬الكامل‭ ‬لجهاز‭ ‬المخابرات‭ ‬العراقية‭ ‬وأخرجته‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬موسكو‭. ‬

مرت‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬فى‭ ‬30‭ ‬ديسمبر‭ ‬الذكرى‭ ‬الخامسة‭ ‬عشر‭ ‬لإعدام‭ ‬الرئيس‭ ‬العراقى‭ ‬صدام‭ ‬حسين،‭ ‬ولكن‭ ‬مرور‭ ‬هذه‭ ‬الذكرى‭ ‬أعاد‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬فتح‭ ‬ملفات‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكى‭ ‬بأكمله‭ ‬بعد‭ ‬ثمانية‭ ‬عشر‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬وقوعه‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬هذه‭ ‬الملفات‭ ‬قصة‭ ‬هذا‭ ‬الأرشيف‭ ‬المفقود‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬الروس‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬أنهم‭ ‬حققوا‭ ‬انتصارا‭ ‬ضخما‭ ‬بالحصول‭ ‬عليه‭ ‬أو‭ ‬اعترف‭ ‬الأمريكان‭ ‬بالهزيمة‭ ‬لفشلهم‭ ‬الذريع‭ ‬فى‭ ‬الوصول‭ ‬إليه‭.‬

بعد‭ ‬مرور‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬الغزو‭ ‬أو‭ ‬إعدام‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬تحررت‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الإجابات‭ ‬من‭ ‬سجون‭ ‬السرية‭ ‬وبدأت‭ ‬تتكشف‭ ‬حقيقة‭ ‬ماحدث‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الساعات‭ ‬قبل‭ ‬الغزو،‭ ‬وأن‭ ‬تفاصيل‭ ‬مادار‭ ‬فيها‭ ‬وماسبقها‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬إثارة‭ ‬وشراسة‭ ‬من‭ ‬وقائع‭ ‬الحرب‭ ‬نفسها‭ ‬وسمحت‭ ‬معلومات‭ ‬هذا‭ ‬الأرشيف‭ ‬لمن‭ ‬حصل‭ ‬عليه‭ ‬لعب‭ ‬أدوارا‭ ‬مؤثرة‭ ‬فى‭ ‬سياسات‭ ‬المنطقة‭.‬

أول‭ ‬الإجابات‭ ‬حول‭ ‬قصة‭ ‬الأرشيف‭ ‬المفقود‭ ‬أن‭ ‬القافلة‭ ‬الهاربة‭ ‬فى‭ ‬سلام‭ ‬كانت‭ ‬هى‭ ‬كلمة‭ ‬النهاية‭ ‬فقبل‭ ‬أحداث‭ ‬الحرب‭ ‬بشهرين‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬فى‭ ‬زيارة‭ ‬شديدة‭ ‬السرية‭ ‬وبطرق‭ ‬دخول‭ ‬معقدة‭ ‬يفجينى‭ ‬بريماكوف‭ ‬المستشرق‭ ‬والصحفى‭ ‬ومدير‭ ‬الاستخبارات‭ ‬الروسية‭ ‬السابق‭.‬

‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بريماكوف‭ ‬شخصية‭ ‬عادية‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمنطقة‭ ‬العربية‭ ‬فهو‭ ‬يحفظ‭ ‬حارات‭ ‬وشوارع‭ ‬العواصم‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب‭ ‬وصديق‭ ‬لكافة‭ ‬السياسيين‭ ‬العرب‭ ‬بسبب‭ ‬عمله‭ ‬الصحفى‭ ‬كمراسل‭ ‬لصحفية‭ ‬البرافدا‭ ‬السوفيتية‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭ ‬فى‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬بالإضافة‭ ‬أنه‭ ‬يتكلم‭ ‬العربية‭ ‬بطلاقة‭ ‬وبعدد‭ ‬من‭ ‬اللهجات،‭ ‬التقى‭ ‬بريماكوف‭ ‬بصدام‭ ‬حسين‭ ‬وأخبره‭ ‬أن‭ ‬الأمريكان‭ ‬قادمين‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬وأن‭ ‬موسكو‭ ‬تعرض‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬تنتقل‭ ‬عائلته‭ ‬إلى‭ ‬روسيا‭ ‬لحمايتها‭ ‬وإذا‭ ‬أراد‭ ‬هو‭ ‬أيضا‭ ‬والأهم‭ ‬نقل‭ ‬ملفات‭ ‬العمليات‭ ‬والأرشيف‭ ‬الكامل‭ ‬للمخابرات‭ ‬العراقية‭ ‬حتى‭ ‬لايقع‭ ‬هذا‭ ‬الكنز‭ ‬المعلوماتى‭ ‬فى‭ ‬يد‭ ‬الأمريكان،‭ ‬بالتأكيد‭ ‬لم‭ ‬يعلم‭ ‬أحد‭ ‬طبيعة‭ ‬مادار‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬الذى‭ ‬جمع‭ ‬بريماكوف‭ ‬وصدام،‭ ‬لكن‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬تكلم‭ ‬حفيد‭ ‬بريماكوف‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬الذى‭ ‬نقله‭ ‬عن‭ ‬الجد‭ ‬بريماكوف‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حديث‭ ‬معه‭ ‬قبل‭ ‬وفاة‭ ‬الجد‭ ‬فى‭ ‬العام‭ ‬2015‭ ‬‮«‬أن‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬قبيل‭ ‬الحرب‭ ‬فقد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬الإحساس‭ ‬بالواقع‭ ‬وكان‭ ‬يثق‭ ‬بقوته‭ ‬وعظمته‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬طبيعى‭ ‬ومن‭ ‬الناحية‭ ‬الإنسانية‭ ‬والعاطفية‭ ‬يصعب‭ ‬تصور‭ ‬أبعاد‭ ‬الكارثة‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬صدام‭ ‬وعقله‭ ‬ونفسه‭ ‬عندما‭ ‬أدرك‭ ‬أنه‭ ‬خسر‭ ‬البلد‭ ‬وأن‭ ‬أقرب‭ ‬المقربين‭ ‬له‭ ‬والذين‭ ‬حلفوا‭ ‬له‭ ‬يمين‭ ‬الولاء‭ ‬خذلوه‭ ‬وهجروه‭ ‬‮»‬‭ ‬،‭ ‬لم‭ ‬يستجب‭ ‬صدام‭ ‬لكل‭ ‬طلبات‭ ‬رجل‭ ‬موسكو‭ ‬القوى‭ ‬بسبب‭ ‬جنون‭ ‬العظمة‭ ‬الذى‭ ‬سيطر‭ ‬عليه‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الأوقات‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تتولى‭ ‬موسكو‭ ‬نقل‭ ‬أرشيف‭ ‬المخابرات‭ ‬العراقية‭ ‬خارج‭ ‬العراق‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬تأكد‭ ‬حدوث‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكي‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الشواهد‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تحدث‭ ‬حول‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭ ‬بشهرين‭ ‬لم‭ ‬تقنعه‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬حرب‭ ‬قادمة‭.‬

فكرة‭ ‬نقل‭ ‬الأرشيف‭ ‬الكامل‭ ‬للمخابرات‭ ‬العراقية‭ ‬واستخدام‭ ‬ضباطه‭ ‬لصالح‭ ‬موسكو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬وليدة‭ ‬الأحداث‭ ‬بل‭ ‬صاغها‭ ‬بريماكوف‭ ‬وقت‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬رئيسا‭ ‬للاستخبارات‭ ‬الروسية،‭ ‬فكان‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬الأمريكان‭ ‬لن‭ ‬يتركوا‭ ‬العراق‭ ‬بعد‭ ‬القرار‭ ‬الكارثى‭ ‬الذى‭ ‬اتخذه‭ ‬صدام‭ ‬بغزو‭ ‬الكويت‭ ‬وأنهم‭ ‬قادمون‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬وقد‭ ‬تحقق‭ ‬ما‭ ‬توقعه‭ ‬واقتنع‭ ‬به‭ ‬بوتين‭ ‬لأن‭ ‬بريماكوف‭ ‬كان‭ ‬أستاذه‭ ‬الأول‭ ‬وقت‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬للحكم‭ ‬فى‭ ‬العام‭ ‬2000‭.‬

رأى‭ ‬بريماكوف‭ ‬أن‭ ‬مشروع‭ ‬عودة‭ ‬روسيا‭ ‬القوية‭ ‬الذى‭ ‬يتبناه‭ ‬بوتين‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتى‭ ‬خطوته‭ ‬الأولى‭ ‬عودة‭ ‬روسيا‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬لتبدأ‭ ‬فى‭ ‬الصعود‭ ‬ومنافسة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وحتى‭ ‬تتحقق‭ ‬هذه‭ ‬الخطوة‭ ‬يلزم‭ ‬موسكو‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬عن‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬والرجال‭ ‬الذين‭ ‬يديرون‭ ‬هذه‭ ‬المعلومات،‭ ‬فهذا‭ ‬الشرق‭ ‬تغير‭ ‬كثيرا‭ ‬منذ‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتى،‭ ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬معلومات‭ ‬جهاز‭ ‬بحجم‭ ‬المخابرات‭ ‬العراقية‭ ‬أنفق‭ ‬عليه‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬مليارات‭ ‬الدولارات‭ ‬لتأسيسه،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬أيضا‭ ‬شبه‭ ‬توأمة‭ ‬بين‭ ‬الجهازين‭ ‬الروسى‭ ‬والعراقى‭.‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬غادر‭ ‬بريماكوف‭ ‬بغداد‭ ‬بأيام‭ ‬بدأت‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬العراق‭ ‬دفعات‭ ‬من‭ ‬أكفأ‭ ‬ضباط‭ ‬المخابرات‭ ‬الروسية‭ ‬لتنفيذ‭ ‬عملية‭ ‬النقل‭ ‬حيث‭ ‬دخلوا‭ ‬العراق‭ ‬بنفس‭ ‬السرية‭ ‬والطرق‭ ‬المعقدة‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬أستاذهم‭ ‬بريماكوف‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تشعر‭ ‬بهم‭ ‬المخابرات‭ ‬الأمريكية‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تراقب‭ ‬كل‭ ‬صغيرة‭ ‬وكبيرة‭ ‬داخل‭ ‬العراق‭. ‬

توقع‭ ‬الأمريكان‭ ‬أن‭ ‬الروس‭ ‬يحضرون‭ ‬لشيء‭ ‬ما،‭ ‬لكن‭ ‬تقديراتهم‭ ‬وبسبب‭ ‬غرور‭ ‬القوة‭ ‬أوصلتهم‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬أن‭ ‬الروس‭ ‬الضعفاء‭ ‬أكبر‭ ‬أحلامهم‭ ‬نقل‭ ‬صدام‭ ‬وأمواله‭ ‬إلى‭ ‬موسكو‭ ‬وأن‭ ‬بوتين‭ ‬الجديد‭ ‬فى‭ ‬الحكم‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬طموحات‭ ‬عودة‭ ‬روسيا‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬ولعب‭ ‬دور‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتى‭ ‬المنهار‭.‬

رغم‭ ‬كل‭ ‬العيون‭ ‬الأمريكية‭ ‬والبريطانية‭ ‬أيضا‭ ‬التى‭ ‬تتابع‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬داخل‭ ‬العراق‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬الغزو‭ ‬ظل‭ ‬الروس‭ ‬يجهزون‭ ‬لعمليتهم‭ ‬الكبرى‭ ‬انتظارا‭ ‬للحظة‭ ‬التى‭ ‬يهربون‭ ‬فيها‭ ‬كنزهم‭ ‬الثمين‭ ‬من‭ ‬بغداد،‭ ‬وعندما‭ ‬أدرك‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬أنها‭ ‬ساعات‭ ‬ويدخل‭ ‬الجنود‭ ‬الأمريكيون‭ ‬إلى‭ ‬عاصمة‭ ‬العراق‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬النقل‭ ‬لتحمله‭ ‬القافلة‭ ‬الروسية‭ ‬وسط‭ ‬ارتباك‭ ‬وذهول‭ ‬الأمريكان‭ ‬عندما‭ ‬أدركوا‭ ‬متأخرين‭ ‬حقيقة‭ ‬ماحدث‭. ‬

رغم‭ ‬أن‭ ‬الروس‭ ‬لم‭ ‬يقولوا‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬بصراحة‭ ‬أنهم‭ ‬انتصروا‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المعركة‭ ‬على‭ ‬خصومهم‭ ‬الأمريكان،‭ ‬ولم‭ ‬يعترف‭ ‬الأمريكان‭ ‬بخيبتهم‭ ‬وفشلهم‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الدلائل‭ ‬تشير‭ ‬أن‭ ‬حركة‭ ‬روسيا‭ ‬تغيرت‭ ‬وبدأت‭ ‬رحلة‭ ‬صعودها‭ ‬فى‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬هذا‭ ‬الكنز‭ ‬المعلوماتى‭ ‬إلى‭ ‬خزائن‭ ‬موسكو‭ ‬وأن‭ ‬حلم‭ ‬بيجينى‭ ‬بريماكوف‭ ‬تحقق‭ ‬ويبدو‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬مصادفة،‭ ‬ففى‭ ‬عام‭ ‬وفاة‭ ‬بريماكوف‭ ‬وصلت‭ ‬أولى‭ ‬طلائع‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬إلى‭ ‬دمشق‭. ‬

عندما‭ ‬نتابع‭ ‬حجم‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث‭ ‬التى‭ ‬استدعتها‭ ‬ذكرى‭ ‬إعدام‭ ‬صدام‭ ‬ولا‭ ‬تنفصل‭ ‬عنها‭ ‬وقائع‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكى‭ ‬سنجد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ماتعرض‭ ‬له‭ ‬العراق‭ ‬العظيم‭ ‬كان‭ ‬وراءه‭ ‬حماقة‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬الذى‭ ‬وضع‭ ‬أوهام‭ ‬الشعبية‭ ‬قبل‭ ‬مصلحة‭ ‬شعبه‭ ‬وتصور‭ ‬أنه‭ ‬يمتلك‭ ‬مفاتيح‭ ‬القوة‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬اللعبة‭ ‬الدولية‭ ‬الخطرة‭.‬

المضحك‭ ‬أن‭ ‬فى‭ ‬ذكرى‭ ‬الإعدام‭ ‬وبعد‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكى‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬مر‭ ‬بالعراق‭ ‬الجميل‭ ‬يخرج‭ ‬دراويش‭ ‬صدام‭ ‬ويحاولون‭ ‬تبرير‭ ‬قرارته‭ ‬الكارثية‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬غزو‭ ‬الكويت،‭ ‬وكان‭ ‬تبريرهم‭ ‬الساذج‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬ورط‭ ‬صدام‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬العراق‭ ‬وخارجها‭ ‬فى‭ ‬قرار‭ ‬غزو‭ ‬الكويت‭ ‬وكأن‭ ‬صدامهم‭ ‬بلا‭ ‬عقل‭ .. ‬بالفعل‭ ‬هؤلاء‭ ‬لاينطبق‭ ‬عليهم‭ ‬سوى‭ ‬مقولة‭ ‬شاعر‭ ‬العراق‭ ‬أبو‭ ‬الطيب‭ ‬المتنبى‭ ‬‮«‬لكل‭ ‬داء‭ ‬دواء‭ ‬يستطب‭ ‬به،‭ ‬إلا‭ ‬الحماقة‭ ‬أعيت‭ ‬من‭ ‬يداويها‮»‬‭ ‬