يوميات الأخبار

أرض الأقواس والذهب

طاهر قابيل
طاهر قابيل

«منذ 7 سنوات بدأ الوجه القبلى عصراً جديداً من الازدهار بعد أن أصبح فى قلب التنمية خاصة فى مشروعات البنية التحتية مثل الطرق والكبارى والكهرباء والمياه والصرف الصحى والخدمات الصحية والتعليمية»

فى الصعيد علمونا أن الرجولة مش كلام وفهمونا معنى كلمة احترام وفسروا لنا يعنى إيه «راجل تمام» وقالوا لنا إن احنا ناس الشهامة عنوانها وأساسها وإننا أبناء أصول وكرم وجدعنة وفى بلدنا الكدب خيبة وعمرنا ما نبدأ بعيبة.. بنكبر الكبير وبنسند الضعيف وبنكرم الفقير.. دمنا حر وعرقنا حامى وعلى الحق  بندافع ونحامى.. لا أعلم لمن الأغنية أو ملحنها فلم أجد فى الأغانى القديمة عن الصعيد سوى «الفلكلور الشعبى» لفرقة رضا وأغنية «الأقصر بلدنا بلد سواح» وبعض الإبداع النوبى للفنان «محمد منير».

عندما كنت فى نهاية المرحلة الابتدائية سافر أخى الأكبر فى رحلة إلى الأقصر وأسوان وعاد محملا بخيرات الصعيد من البلح والعرقسوس والكركديه والفول السودانى مرتديا غطاء رأس من المصنوعات اليدوية.. ظللت أياما وأسابيع استمع إلى حكايته عن رحلة القطار التى استغرقت 16 ساعة من القاهرة.. وعن مشاهداته للآثار وزيارة معبد الأقصر والكرنك والبر الغربى وعرض لى لقطات وصورا لجولاته بالأسواق ولقاءاته مع أبناء الجنوب ومشاهدته السد العالى.. ظللت أياما أحلم بوصولى ولمسى لثلث آثار العالم والتنزه فى مركب بالنيل وزيارة أرض النوبة وجزيرة فيله.. والوقوف بجوار سدنا الغالى.

بقيت معى الأحلام وكل يوم تزداد رغباتى وشوقى لأن أرى الصعيد.. وحدث ذلك وأنا أخطو أولى خطواتى فى بلاط «صاحبة الجلالة» عندما كلفنى الكاتب الصحفى «مصطفى بيه أمين» رحمة الله عليه أول مهمة عمل لى بالسفر إلى «بنى سويف والإسكندرية».. فسألت زميلى وصديقى محمد صبحى ابن «ببا» بمحافظة بنى سويف كيف أصل لمدينة الفشن، فقال لى إنها المركز التالى له ولأننا كنا على وشك إجازة «نصف العام» من الجامعة دعانى وقرر أن يستضيفنى ويرشدنى ويرفقنى فى  مهمتى.. وقضيت يومين مع محمد وأسرته وتجولت فى شوارعها وحاراتها واقتربت جدا من «نهر النيل» الذى يتمتع بمنظر خلاب على أطراف المدينة وشاهدت قصر ببا عز الدين الذى سمى المكان باسمها.. ونفذت مهمتى بانتقالى من قرية العروس إلى بيت العريس واقترحت توفير متطلباتهما لإتمام الزواج.. ثم تحركت فى اليوم التالى إلى مدينة «الواسطى» أول مركز فى المحافظة وذهبت إلى إحدى القرى مستخدما عربة نصف نقل لا يفرق سائقها بين نقل البشر والحيونات وأنجزت مهمتى الثانية بعد أن سرت على قدمى حوالى 15 كيلومترا بين تراب الأرض المتطاير والذى يزكم الأنوف وتثيره عجلات السيارات والمتوسيكلات والمواشى وعدت للقاهرة بالقطار لأستكمل مهامى التى كلفت بها بالذهاب إلى عروس المتوسط والبحث عن صاحبة الخطاب وعثرت عليها فى منطقة «الرصافة» ولم تكن زيارتى الأولى للإسكندرية لأن عمتى وجزءا من عائلتى يعيشون بها وترددت عليها أكثر من مرة  منذ المرحلة الإعدادية ومع معسكرات الشباب بجامعة القاهرة.

المرة الأولى
 كانت هذه هى المرة الأولى التى ذهبت فيها إلى الصعيد وتكررت زياراتى ومهام عملى فى  الفيوم والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا والأقصر وأسوان وكان يجمع معظم مهامى الفقر الذى تلمسه فى أى مكان تزوره.. كما سافرت فى رحلات ترفيهية لمشاهدة آثار الأقصر وأسوان وزيارة البر الغربى ومعبد إدفو.. وكنت فى أسيوط بعدما أحرقت النيران بيوت ومواشى وسكان قرية «درنكة» وشاهدت المشروعات التنموية والخدمية بالمحافظة بعد الحريق البشع وركبت فى كل مهامى الصحفية جميع وسائل الانتقال المتاحة من الحيوانات والموتوسيكلات والسيارات القديمة التى أكل عليها الدهر وشرب ولا تصلح للبشر.. كما سافرت بالقطارات والأتوبيسات والطائرات وشاهدت الكثير والكثير وأحمل داخلى ذكريات عن قرى ونجوع وكفور الصعيد وزرت كنيسة «جبل الطير» ومسجد سيدى «إبراهيم القناوى» ومصانع الألومنيوم فى نجع حمادى ومزارع الاستفادة من الألبان والفاكهة والخضراوات ولمست تلك البقعة المنسية من أرض مصرعلى مدى عشرات السنين.     

ركبت قطارات الركاب والنوم والطائرات النفاثة والهليكوبتر. ومن أمتع اللحظات عندما عدت من سوهاج بالأتوبيس وحرصت على أن أسافر من نجع حمادى بالبيجو وذهبت به من  الأقصر إلى أسوان وشاهدت روعة النيل الملتصق بالطريق البرى ويحده فى اتجاه الشروق القطار كما سعدت باستخدامى المراكب الشراعية والقوارب فى نهر النيل.. إنها سنوات المتعة.. وأتذكر حرصى واستمتاعى وقد سافرت أكثر من مرة إلى الفيوم والمنيا وحرصت على مشاهدة المناطق الأثرية والتاريخية والتقيت مع بشر يملكون العزيمة والرغبة فى الحياة ولكن قيدتهم ظروف معيشتهم الصعبة ولكنهم فى النهاية انتصروا وحققوا المستحيل.

عندما زرت أسيوط شاهدت الأيدى العاملة تحول الرمال الصفراء إلى اللون الآخر وكيف يستغلون المساحات بين الأبنية المعتدية على الأرض الزراعية فى إعادة الحياة إليها.. ومررت بجوار مجمع إنتاج البترول فقد كان فى طريقنا للذهاب والعودة من المطار، لم أدخله ولكن كانت سعادتى كبيرة عندما تابعت أنه باكورة «أسبوع الصعيد» وعرفت أنه قد تم ضخ استثمارات بلغت 450 مليون دولار وأدت إلى إنتاج 800 ألف طن بنزين سنويا وهى تغطى احتياجات أخوتنا الصعايدة، القلب النابض بالخير والعطاء، فكان افتتاح سلسلة من المشروعات القومية الكبرى، بدأت بمجمع إنتاج البنزين بشركة أسيوط لتكرير البترول و11 محطة مياه منها لتنقيتها وأخرى للصرف الصحى و8 مستشفيات مجهزة بأحدث وسائل الرعاية الصحية المتكاملة و5 مجمعات صناعية مجهزة بجميع المرافق فى قنا لتحدث تكاملا صناعيا واقتصاديا وعددا من الطرق الرئيسية والمحاور النيلية لربط الطريق الصحراوى الشرقى بالزراعى.

وفى توشكى الخير حدثت ملحمة تشبه المعجزات فهناك أكبر مشروع استصلاح زراعى وأحدث المشروعات العملاقة، والتى تمت إعادة الحياة إليها وتستهدف زراعة 450 ألف فدان بمختلف المحاصيل الاستراتيجية.. وفى  أسوان «أرض الشمس» الساطعة والحضارة الخالدة أكبر مشروع لإنتاج الطاقة الكهربائية من الخلايا الشمسية على مستوى العالم، فى «بنبان»، لتزويد مصر بالطاقة النظيفة والمتجددة وافتتاح عدد من مشروعات الطاقة الكهربائية واختتم  «أسبوع الصعيد» بافتتاح مصنع اليوريا والنترات «كيما» وشاهدت التطوير ورفع الكفاءة لمحطة قطارات أسوان والتى تعتبر واجهة لمصر أمام السياح من مختلف دول العالم ورأينا جمال المدن السكنية الجديدة من بينها أول مدينة ذكية من مدن الجيل الرابع وتضم عددا من الوحدات السكنية الحديثة كاملة المرافق ومستلزمات الحياة العصرية المتقدمة.

حياة كريمة
 منذ 7 سنوات بدأ الوجه القبلى عصرا جديدا من الازدهار بعد أن أصبح فى قلب التنمية خاصة فى مشروعات البنية التحتية مثل الطرق والكبارى والكهرباء والمياه والصرف الصحى والخدمات الصحية والتعليمية وتزايد الاستثمارات لتبنى استراتيجية لتنمية المناطق المتأخرة خاصة فى الريف والقرى الأكثر احتياجاً ثم برنامج عمل الحكومة التنموى ورؤية مصر 2030 والتى تركز على تحسين مستوى معيشة المواطن..

بعد ذلك بخمس سنوات تم اطلاق المرحلة التمهيدية من «حياة كريمة» والتى تستهدف حوالى 375 قرية الأشد فقراً وبعد عام وصلنا لبرنامج تطوير الريف وتحويل مبادرة حياة كريمة إلى برنامج شامل لتحقيق التنمية المستدامة وتوفير فرص عمل مستقرة ومشروعات اقتصادية متكاملة.. وتم ضخ المليارات لتنفيذ عدد كبير من المشروعات عمل بها الآلاف من الشباب والمقاولين والشركات، بالإضافة إلى دعم قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة عبر مبادرة «مشروعك».. وتعد مبادرة «حياة كريمة» هى مشروع القرن لأنها تخدم 58 مليون مواطن وتنفذ على أكبر نطاق جغرافى يشمل 4584 قرية وأكثر من 30 ألف عزبة وكفر باستثمارات غير مسبوقة تبلغ حوالى 700 مليار جنيه.

لا أعلم ما حدث فى الصعيد ولكن ما شاهدته من افتتاحات وافتراش اللون الأخضر أرض توشكى والشرايين الممتدة فوق النيل لربط الشرق بالغرب ومشاهدة والاستماع لأهالى النوبة ورؤية صناعتهم اليدوية الرائعة التى لا مثيل لها جعلنى أقول هى ده أرض النوبة وناسها.. فالنوبيون يحتفلون فى 7 يوليو من كل عام بيومهم العالمى فرقم 7 له دلالة مهمة فى تاريخهم وأيامهم وطقوسهم المختلفة فحضارتنا المصرية القديمة بدأت بالجنوب من بلاد النوبة وهذا ما يؤكده أهلها دائما بأنهم أصل الحضارة فى العالم القديم ومنطقة النوبة كبيرة جدا تبدأ من جنوب أسوان حتى السودان وحياتها عبر الزمن مرتبطة بنهر النيل الخالد فمعناها «أرض الذهب» وهى كلمة مصرية قديمة وكانت المنطقة مشهورة بمناجمها وأجدادنا كانوا يسمونها بلاد «كوش» فحضارتها تعود للعصر الحجرى وقد وجد العلماء آثارا ترجع لهذه الحقبة من الزمن والذى يمتد من 9 آلاف وحتى 4 آلاف و500 عام قبل الميلاد ومن بينها قطع من «الفخار والخزف».. وكان النوبيون الأوائل يستأنسون الحيوانات ويستفيدون منها وبها وسجل ذلك كتب عن الماضى النوبى.. وفى  شمال وادى حلفا منطقة  تسمى «خور موسى» كانت بها  حضارة ويؤكد ذلك الآثار التى عثر عليها  فى «خور بهان» شرق مدينة أسوان وكانت أنواعا من الفخار المميز بألوانه الوردية والأوانى المزركشة بالنقوش وقد شاهدتها فى متحف النوبة بأسوان  .. وعرف عن أهلها أنهم محاربون أقوياء وكان المصريون القدماء يسمونها «تا سيتى» وهى مملكة انتهت منذ حوالى 3 آلاف سنة قبل الميلاد وكان معناها «أرض الأقواس» نسبة لمهارتهم فى الرماية.

أتذكر ابن النوبة المرحوم الصول «أحمد إدريس» صاحب الشفرة النوبية فى أكتوبر 73 المولود بقرية «توماس وعافية» بأسوان.. وهو صاحب فكرة استخدام لغته لإرسال الإشارات الداخلية ليصعب فك شفرتها من العدو.. وظلت سرا دفينا لا يعلم أحد عنه شيئا حتى تم تكريمه من الرئيس السيسى منذ 5 سنوات ومنحه وسام «النجمة العسكرية» ليعرف المصريون دوره فى تحقيق النصر.. وقد انضم «إدريس» لصفوف جيشنا فى خمسينيات القرن الماضى متطوعا وواجه العدوان الثلاثى وظل فى صحراء سيناء وقدم فكرة استخدام اللغة النوبية وهى لهجة لا تكتب ولا يفهمها غير النوبيين.. رحمة الله على الحاج «أحمد إدريس» وتعظيم سلام لأشقائنا فى النوبة وصعيد مصر الباسم.. اللهم كتر افراحنا واحتفالاتنا بافتتاحات جديدة.