«أكل عيش» تحول لسجن نفسي.. قصص واقعية لموظفين أنهكهم «الاحتراق الوظيفي»

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

◄ فرويز: اجتماع المدير السادي مع الموظف العصبي يفجر أزمات نفسية


◄ أستاذ علم اجتماع: الأعباء الأسرية وزيادة المصاريف تحمل الموظف فوق طاقته


◄ أحمد: «الكول سنتر» محرقة الشباب


◄ موظف بالقطاع الخاص: 8 ساعات متواصلة على الكرسي.. والعقاب مصير من ترك مقعده

 

أزمات نفسية تصل إلى حد الاكتئاب وربما تدفع بصاحبها للانتحار، بسبب ضغوط العمل ومشاكله اللا متناهية، التي تواجه الإنسان في رحلة العمل، والتي لا تعدُ من سنن الحياةِ فحسب، وإنما أمرُ مقدسُ، بدونه يفقد الإنسانُ مصادر الدخل، ولن يكون قادرًا على تلبية متطلبات وتوفير احتياجات نفسه ومن يعول.

 

حماية قانونية
القانون يحمي العاملين في القطاع الخاص والعام، هذا ما أكد عليه الدكتور عصام الإسلامبولي الفقيه القانوني، مشيرًا إلى أن العاملين في الهيئات والجهات الحكومية يتعاملون وفقا لقانون الخدمة المدنية الذي بين حقوقهم وحدد واجباتهم.

 

وأضاف في تصريح خاص لـ«بوابة أخبار اليوم»، أن العاملين في القطاع الخاص لهم حقوق جاءت في قانون العمل والاستثمار، ولكن الكثير الآن لا يقر بما جاء في القانون ويتم تجاهله.

 

وأشار إلى أن القانون يحدد مدة معينة للعمل ينبغي ألا تزيد عن 8 ساعات وفي حال زيادتها، يجب أن تكون بموافقة الموظف أو العامل على أن تدفع جهة العمل مقابل مادي يوازي الساعات الإضافية.

 

وأوضح أن الموظف بشر معرض لأي طارئ أو ظروف اجتماعية ولا يجوز معاملته على أنه آلة، موضحًا أن القانون حدد إجازات اعتيادية وعارضة لأي موظف.

 

ولفت عصام الإسلامبولي الفقيه القانوني، إلى أنه لا يمكن لأي صاحب عمل أن يمنع  الموظفين معه من الدخول إلى دورات المياه، لأن هناك ظروف مرضية تستدعي دخول دورات المياه كثيرًا وهذا ينبغي على جهة العمل أن تتقبله وتدركه.


وأضاف أن هناك أمور ليست ثابتة ويتم تنظيمها في كل جهة أو مؤسسة حسب ما تقتضيه مصلحة العمل، وعلى الدجميع الالتزام بها طالما أنها معلنة مسبقا وتم الاتفاق عليها بين جميع الأطراف.

 

وصمة اجتماعية
يلجأ الكثير من العاملين في القطاع الخاص إلى التغاضي عن كثير من الحقوق الخاصة بهم، خشية ترك العمل ويصاب بنظرة المجتمع القاسية التي لا ترحم وتصفه بالفاشل وأنه «عالة على غيره»، هذا ما أكدت عليه الدكتورة إجلال إسماعيل حلمي أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس.

 

وأضافت في تصريحها لـ«بوابة أخبار اليوم»، أن الأعباء الأسرية وزيادة مصاريف الإنفاق مثلت عبئًا على بعض الأفراد تجعلهم يعملون في ظروف عمل فوق طاقتهم ويتحملون مالا يطيقون.

 

وأشارت إلى أن الكثير من الأشخاص لا يملكون رفاهية التنقل بين عمل وآخر، مطالبة بضرورة تشديد الرقابة على أصحاب الأعمال الخاصة، لأن معظم تلك الجهات تشهد جودة شكلية على حساب العاملين بها.

 

ولفت إلى أن بعض جهات العمل تستخدم نظام ظالم ضد بعض العاملين، حيث تشترط عليهم تجديد عقد العمل كل فترة زمنية قصيرة لا تصل إلى العام، حتى لا يكون له أقدمية أو حقوق يمكنه المطالبة بها، حال قضائه فترة كبيرة في العمل.

 

وحذرت الدكتورة إجلال إسماعيل حلمي أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس من البطالة الاختيارية التي يصنعها بعض الأشخاص لأنهم يرفضون العمل في أعمال لا تناسب مستواهم الاجتماعي أو أنها لا تلبي طموحاتهم فيفضلون البقاء «عاطلين»، مما يولد ضغوط عليهم قد تهدد حياتهم.

 

العصبية والمدير السادي
بينما حذر الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، من التعرض لضغوطات أو الضجر من العمل لما يسببه من عواقب وخيمة، ومشاكل وأزمات نفسية قد تتطور حال تراكمها وتدفع بصاحبها للإنتحار.

 

وأشار إلى أن هناك بعض الأشخاص يكون لديهم استعداد للتفاعل مع أي ضغوطات ومن ثم زيادة أثرها عليهم، وتتضاعف معاناتها، في ظل عدم وجود ن يحتويه في مكان العمل، موضحا أن اجتماع المدير السادي مع الموظف العصبي قد يفجر أزمات نفسية.

 

وأكد جمال فرويز على أن ضغوطات العمل قد تسبب ارتفاع ضغط الدم، والإصابة بالسكري والتعرض لأزمات قلبية مفاجئة ومشاكل في القولون العصبي، واضطرابات في الأكل والنوم.

 

ولفت إلى أن هناك دراسة عن الجمعية الأمريكية للأمراض الباطنية صدرت في العام 2019، توصلت نتائجها إلى أن 60 % من مرضى القولون العصبي يصابون نتيجة التعرض لاضطرابات حياتية، كما أن 40 من المترددين على مراكز القلب في الفترة الصباحية يعانون من اضطرابات نفسية، وترتفع النسبة إلى 60 % بالفترة المسائية.

 

ووضع فرويز في تصريحه لبوابه أخبار اليوم، روشتة لتلاشي التعرض لهذه الأزمات النفسية الناجمة عن ضغوط العمل، بدأها بقاعدة «حب ما تعمل حتى تعمل ما تحب»، مردفا يجب على الإنسان أن يطور من ذاته ويجتهد ويصقل مهاراته ليرتقى إلى عمل أفضل مما فيه.


حالات عانت من الاحتراق الوظيفي
وكانت «بوابة أخبار اليوم» دخلت على خط الأزمة وعرضت حالات عاشت أوقاتا صعبة من الضغط النفسي في عملهم، كما نعرضهم في السطور التالية:

 

الكول سنتر محرقة للشباب
قاد حماس أحمد –اسم مستعار- بعد إنهائه من مرحلة الدراسة الجامعية وقضاء الخدمة العسكرية، إلى البحث عن أي عمل يدر له دخلا، حتى لا يكون عاطلا، بحث عن أي وظيفة تقبل بإمكانياته المتوفرة، والخالية من أهم شروط العمل تقريبا وهي الخبرة، حيث لم يسبق له العمل في أي مجال من قبل، يحصل من خلاله على خبرة، تعينه على إيجاد فرص عمل تقبل بأي شخص بشروط ميسرة، مقابل امتيازات أقل.

 

طرق كل الأبواب، وفجأة أتيحت له فرصة للعمل كول سنتر في إحدى شركات الاتصالات الكبرى، لم يتوانى في قبولها ولم يفكر كثيرًا لأنها كانت الفرصة الوحيدة التي ناسبته وقبلت به، من بين العديد من الأعمال الأخرى.

 

فرح بعمله الجديد، وراح يبلغ أهل وأقربائه وأصدقائه به، ولكنه تفاجأ بتحذيرات من العمل كـ «كول سنتر» حتى لو في شركة مرموقة، لم يبال بما قيل له، وترك كل هذه النصائح خلف ظهره، وانطلق نحو الاستعداد لبدء عمله الجديد.

 

حماس البداية وفرحة الالتحاق بأول عمل له في جعلا أحمد يسد أذنيه عن كل ما يقال له، ومضى في طريقه، ومع مرور الأيام، تتحقق التحذيرات التي تلقاها قبل بدء العمل.

 

وقال لـ «بوابة أخبار اليوم»، إن أول تجربة له في بداية حماية العملية كانت كفيلة بـ «سد نفسه»، عن استكمال المشوار، لو أن كل المحطات التالية ستكون مثل الأولى.

 

وأضاف أنه تأكد من كوّن الكول سنتر محرقة للشباب كما كان يسمع، تطفئ حماسهم وتموت الأمل والطموح داخلهم، حيث يواجه فيها الشباب ضغوطات عدة يتبعها أزمات نفسية، لو الإيمان القوي للشخص لفقد ذاته وأقدم على فعل سلوكيات تفقده نفسه
 وتدفعه لارتكاب سلوكيات تغضب الله منه.

 

وأوضح أن شركات الاتصالات تعامل موظفي الكول سنتر، على أنهم جمادات لا يعطلون ولا يشكون ألاما ولا يمرضون ولا تحدث معهم طوارئ، ومعزلون عن الواقع والمجتمع الذي يعيشون فيه.

 

وذكر موقفين حدثا معه، الأول عندما كان قد التحق بالشركة منذ أشهر بسيطة في فترة التدريب، توفى والده القابع في إحدى محافظات وسط الصعيد، وذهب لتشييع الجثمان وتلقى واجب العزاء، وفي اليوم الثالث تفاجأ بمندوب من الشركة يخبره أن الإجازة المسموحة لها 3 أيام وحال عدم ذهابه إلى الشركة في اليوم الرابع سيتم اعتبار إلغاء فترة التدريب لاغية.


وأوضح أنه نظرًا للظروف التي كان يمر بها، أضطر للذهاب إلى عمله، ولكن الأمر كاد أن يتكرر مجددًا عندما مرضت والدته في العام الأخير من عمله بالشركة والتي استمرت طيلة 3 سنوات، حيث كان يذهب لها في يومي الإجازة، وأحيانا استدعى مرضها بقائه معها لمتابعة حالتها، وكلما تأخر عن عمله يتلقى رسائل بأن هذا ليس في مصلحته ويعطل ترقياته ويحرمه من تبوأ مناصب قيادية.


وواصل حديثه قائلا: الموظف هو المعني عن إرضاء العميل، ويتحمل سبب غضبه حتى لو كانت الأسباب متعلقة بسياسة الشركة ذاتها، فإن رضاء العميل يحسب للشركة وغضبه يحسب على الموظف.


ولفت إلى أن الشركات لا تتيح أدوات لموظفيها يمكنهم من خلالها خدمة العملاء بما يرضيهم عن الشركة التي يتعاملون معها، بل تفرض على   الموظفين شروطا قد تكون ضد المنطق.


التارجيت مقبرة الموظفين
وفي حالة أخرى، لا تقل معاناتها عن الأولى، حيث المعاملة المتعنتة غير المرضية من وجهة نظر حسام - اسم مستعار-، والذي أكد أنه لم يشم نفسه أو يكن مرتاح البال إلا بعد تركه العمل كمندوب مبيعات في إحدى الشركات الخاصة.


وقال خلال رواية حكايته لـ «بوابة أخبار اليوم»، أنه ظل مندوبًا للشركة لفترة طالت لمدة 4 سنوات، ظل خلال العامين الآخرين منها يبحث عن عمل يجد في نفسه ويعامل في باحترام يليق بآدميته، ولكن كان منهك في عمله الحالي ولا يجد وقتا للبحث عن عمل آخر.


وأوضح أن مسئول الشركة كان يضع لهم «تاريجت» لتحقيقه، وكل يوم في منطقة جغرافية يتم إخباره بها صباح كل يوم، وعليه إنجاز المطلوب، موضحًا أنه كان يطلب منه كل ربع ساعة رسالة بالموقع الجغرافي الموجود فيه كنوع من الرقابة عليه.

 

وأشار إلى أن الشركة تضع قواعد فوق طاقة البشر وتحملهم ما لا يطيقون، ماديا ونفسيا واجتماعيا، موضحا أنه كانوا لا يراعون ظروف الموظف وغير مسموح له بالتخلف عن الذهاب للعمل مهما كانت الأسباب، بل كان الغياب يعاقب عليه بشكل مضاعف.


وأوضح أن التارجت المطلوب منه ثابت طوال الوقت حتى لو كانت هناك مناسبات تتميز بضعف المبيعات، وأحيانا كان يضطر للاستدانة من أجل تسليم المطلوب على أن يتولى هو بيع المنتجات في أوقات إضافية.


وأشار إلى أنه تعرض في آخر أيامه إلى حالة نفسية سيئة جعلته عازفا عن الذهاب للعمل، لأنه كان محروم من صلة الرحم وشعر بحالة من الانطواء وفقد علاقاته بالكثيرين لقلة التواصل.

 

ولفت إلى أنه تمكن من اتخاذ قرار وصفه بأنه تأخر كثيرًا، وتقدم باستقالته بعد العديد من التضحيات فقد خلالها كثيرًا معنويا ونفسيا، وتوجه للعمل بإحدى الدول العربية.

 

لا عذر للغياب لجني الأرباح
وعند سماع معاناة موظف آخر بإحدى فروع شركات الاتصالات، تلاحظ مشاركته للحالات السابقة في نفس المعاناة، حيث إنه كان يعمل مع موظف ثاني في الدوام الصباحي واثنين آخرين في الدوام المسائي.

 

وأوضح أنه كان يعمل تحت ضغط كبير، لنه مطلوب منه بيع عدد معين من خطوط الهاتف، وحال عدم تحقيقه للمطلوب يؤثر على راتبه الشهري.

 

وأشار إلى أن المطلوب منه أن يمكث طوال الـ 8 ساعات على الكرسي، وهناك كاميرا مراقبة متصلة بالفرع الرئيس وإذا تبين لهم غيابه عن مقعده المخصص بعيد عن وقت الراحة يتم توقيع العقاب والجزاء عليه.

 

وأكمل حديثه عن طريقة العمل المتبع داخل فروع الشركة التي كان يعمل بها، أنه لا توجد أعذار لهم للغياب لأي سبب كان مرضي أو اجتماعي، ومطلوب منه الالتزام.

 

وأوضح أن أكثر ما يعانيه العاملين في الوظائف المشابهة في القطاع الخاص، أنه مطلوب منه إرضاء كل العملاء، والتحمل حال التعدي من العملاء بحجة الحفاظ على مكانة وسمعة الشركة.


واختتم حديثه مشيرًا إلى أن أكثر ما كان يزعجه هو عدم السماح له بتناول الطعام أو الشراب، إلا في وقت الراحة المقدر بساعة والمخصص لقضاء الحوائج وتناول المأكولات، مضيفا أنه يحظر على العاملين تلقي مكالمات شخصية خلال وقت العمل، لأن كل هذا يأتي على حساب المرتب الذي يتقاضاه.
 

اقرأ أيضا : الاحتراق الوظيفي| حكايات من دفتر الناجين من الانتحار