رئيس جمعية الدراسات التاريخية لـ «آخرساعة» (1-2):الغرب أكثر اهتماماً بالتراث من العرب

د. أيمن فؤاد
د. أيمن فؤاد

حسن حافظ

من مكتبه فى مقر الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، يطل الدكتور أيمن فؤاد سيد، على أحوال الكتابة التاريخية فى مصر والعالم العربي، فأستاذ التاريخ الإسلامى بجامعة الأزهر، وأحد كبار المتخصصين فى التراث الإسلامي، يرى بعد سنوات من الاحتكاك مع الأوساط الأكاديمية فى مختلف أنحاء العالم، أن الغرب يتفوق على أبناء العالم العربى والإسلامى فى الاهتمام بالتراث العربي، لافتا فى الحلقة الأولى من حواره مع آخرساعة إلى أن جيل الرواد من المؤرخين المصريين تعلموا المناهج الحديثة عن طريق الاحتكاك المباشر مع المدارس الغربية، وهو ما ينقص الأجيال الحالية من الباحثين، الذين يرى مؤرخ الدولة الفاطمية أن المحلية تغلب عليهم، بعدما انعزلوا عن حركة البحث العالمية، ويعترف فى شجاعة نادرة بأن المدرسة التاريخية فى بلاد المغرب هى الأكثر تفوقا على صعيد العالم العربى حاليًا، بسبب انفتاحها واحتكاكها المباشر مع المدرسة الفرنسية.

الدكتور أيمن فؤاد سيد، صدر له منذ أيام الجزء الأول من تحقيقه لرسائل مؤرخ مصر فى العصور الوسطى تقى الدين المقريزى، وهو يعد أحد أهم المتخصصين فى أعمال المقريزى، إذ سبق أن حقق ونشر العديد من النصوص للمقريزى، فضلا عن عدد من المؤلفات التى استعان فيها بأعمال المقريزى فى كتاباته عن الدولة الفاطمية ودولة المماليك وتاريخ القاهرة. ويحكى رئيس الجمعية التاريخية جزءا من ذكرياته عن بداياته البحثية، وتعليقاته على الأوضاع البحثية فى مصر، موضحا رأيه الرافض لحصر مفهوم التراث فى الناحية الدينية، مؤكدا أن التراث يشمل كل ما أنتجه الماضى من فلسفة وعلم كلام وتاريخ وجغرافية وعلوم.

 نحن فى حضرة أحد أكبر المؤرخين المصريين فى اللحظة الراهنة نود أن نعرف كيف بدأت علاقتك بالدراسات التاريخية؟ 

- بداية الاهتمام عن طريق والدى المحقق الراحل فؤاد سيد، الذى أرشدنى لتاريخ اليمن فى العصر الإسلامى، لأن والدى رحمة الله عليه سافر فى البعثة التى أرسلها وزير المعارف فى أوائل الخمسينيات، الدكتور طه حسين، إلى اليمن، لتصوير المخطوطات التى كُشفت لأول مرة، وتم العثور بينها عن تراث المعتزلة، كما كانت مناسبة للتعرف على مصادر تاريخ اليمن، وأضيفت هذه المصورات إلى دار الكتب المصرية. ووجدت فى بطاقات والدى رحمه الله، بطاقات خاصة عن مصادر تاريخ اليمن، فرأيت أن أجمع هذه البطاقات وأن أعمل عليها وأستكملها وأبنى عليها عملى الخاص بمصادر اليمن، وبدأت هذا العمل وأنا طالب فى كلية الآداب بجامعة القاهرة، وانتهيت منه فور التخرج فى قسم التاريخ، وقد تقدمت به إلى المعهد الفرنسى للآثار الشرقية بالقاهرة، والذى نشره بالفعل تحت عنوان مصادر تاريخ اليمن فى العصر الإسلامي.

 هل نشرت هذا الكتاب فعلا قبل الحصول على درجة الماجستير؟

- نعم، نشرت الكتاب وهو مرجع معتمد فى العديد من معاهد العلم العالمية، فور تخرجي، وعلى هذا الأساس سجلت رسالة الماجستير فى اليمن أيضًا، وعنوانها تاريخ المذاهب الدينية فى اليمن حتى نهاية القرن السادس الهجرى، وفى السبعينيات عملت مع المعهد الفرنسى فى بناء القسم العربى من مكتبة المعهد، والذى توقف تزويده منذ العدوان الثلاثى فى 1956، وتعرفت من خلال هذا العمل على كبار المستشرقين أمثال جان كلود جارسان وتيارى بيانكى، ونبهنى الأخير إلى أهمية مصدر فاطمى لم يستفد منه إطلاقًا، وهو الجزء الأربعون من تاريخ المسبحى، والذى عاصر الستين سنة الأولى من تاريخ الفاطميين فى مصر، واتفقنا على إخراجى النص العربى على أن يقوم تيارى بيانكى بالترجمة الفرنسية. ومن هنا بدأ اهتمامى بمصادر مصر الإسلامية فبدأت بنشر نصوص مثل االمنتقى من أخبار مصرب لابن ميسر، واالسيرة المأمونيةب لابن المأمون البطائحى، لذا عندما سافرت إلى فرنسا لتسجيل درجة دكتوراه الدولة فى جامعة باريس رقم واحد، كان الاختيار أن أتخصص فى تاريخ مصر، واخترت موضوع الدكتوراه بعنوان اعاصمة مصر حتى نهاية العصر الفاطمى دراسة فى إعادة تخطيطهاب، وناقشت الرسالة فى فبراير 1986، وحصلت على الدرجة بالفعل، ثم عدت إلى مصر.

 بالتأكيد تم تعيينك فى الجامعة بعد أن حصلت على دكتوراه الدولة من إحدى أكبر الجامعات فى العالم؟

- لم يحدث للأسف، لأننى اكتشفت أن الجامعات المصرية لا تعترف بالدكتوراه التى تُمنح فى الخارج، خصوصا أن الدكتوراه التى حصلت عليها من فرنسا تؤهلنى لشغل درجة أستاذ متفرغ وهى أعلى درجة فى السلم الأكاديمي، وتم منحى هذه المرتبة فى فرنسا بناء على تقييم ما تقدمت به من أعمال وتحقيقات ومشاركات فى مؤتمرات علمية؛ فضلا عن رسالة الدكتوراه، لكن للأسف فى مصر يتعاملون مع هذه الدرجة باعتبارها درجة تحصل عليها من جامعات أوروبا الشرقية، فرفضت هذه المعاملة والدخول إلى الجامعة بدرجة وظيفية أدنى، والأغرب أن المجلس الأعلى للجامعات فى مصر يعادل الدرجات العلمية التى يحصل عليها المبعوث فى الخارج، بتلك التى تمنحها الجامعات المصرية، وعندما تحدثت مع أحد الأساتذة، قال لي: ابص يا دكتور.. دكتوراه من جامعة باريس مثل دكتوراه من جامعة سوهاجب، فكيف يتساوى الوضع فى جامعة كانت وقتها لا تزال ناشئة وبين جامعة من القرن الثانى عشر ومن أكبر جامعات أوروبا والعالم؟! فهذا يكشف لنا الفكرة الحاكمة عندنا، والتى تحبط الأعمال العلمية، فما الدافع للسفر إلى الخارج والكتابة التاريخية، وفى النهاية سيتم مساواتك بمن يكتب أى كلام!

 هل هذا الموقف يعد أحد الأدلة على ما تمر به الكتابة التاريخية فى مصر من أزمة فى العقود الأخيرة؟

- المفروض أن يحدث العكس، لأن لديك أكثر من 30 قسما للتاريخ فى مختلف الجامعات ومثلها فى أقسام آثار، لكن الأزمة أنك لا تستطيع أن تقارن حجم الإنتاج الحالى بحجم وقيمة الإنتاج الذى أنتجته الأجيال السابقة خصوصا جيل الرواد، لأن السابقين اهتموا بالكليات التاريخية، كتاريخ دولة بأكملها، ما جعل الأجيال الحالية تهتم بالدراسات الجزئية، على الرغم من أن العكس هو ما كان يجب أن يتم، أى أن نبدأ بالدراسات الجزئية وصولا للدراسة التاريخية الشاملة.

لكن هذا كله يحتاج إلى منهجية، فالذى يميز جيل الرواد فى الكتابات التاريخية هو أنهم درسوا فى الغرب أو احتكوا بالأكاديمية الغربية والمنهجية الحديثة على الأقل، لكن الجيل الحالى -رغم كثرة الأعداد- فهو محلى، ولا يواكب الإصدارات الحديثة ولا يتابع التطورات الموجودة فى حقل الدراسات الشرقية والعربية الإسلامية رغم وجود الإنترنت وسهولة التواصل. فلا بد من إتاحة فرصة للباحثين للاحتكاك بالغرب، ناهيك أن طموحات الباحثين الآن تقتصر على حضور مؤتمر فى اتحاد المؤرخين العرب أو السعودية، لكننى أريد لهم أن يحضروا مؤتمرات فى روما أو باريس مثلا.

 متى بدأ هذا الانعزال عن الأكاديمية الغربية؟

- نستطيع القول إن الأزمة بدأت مع التمصير، ففى البداية قامت الجامعة المصرية على جهود مستشرقين أعلام، والذين نقلوا أفكارهم ومناهجهم لجيل من الباحثين المصريين، لكن الوضع الآن مختلف إذ أصبحت كل الرسائل عندنا محلية. لننظر إلى نموذج مختلف، الأكاديمية فى دول شمال أفريقيا نجد فيها الكثير من الاحتكاك بالأكاديمية الفرنسية، لمعرفتهم باللغة، فتجد أن المؤتمرات العلمية فى تونس والمغرب تلقى فيها الأبحاث بالعربية والفرنسية بكل سهولة، والآن تجد أن دول الخليج لم تعد ترسل بعثاتها العلمية إلى مصر، بل ترسلها إلى أمريكا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا.

 هل نستطيع أن نقول إن المدرسة المغربية هى الأقوى على مستوى الدراسات العربية حاليا؟

- نعم، انظر إلى الموضوعات التى يتصدى لها أبناء هذه المدرسة، وانظر إلى مؤرخين أمثال هشام جعيط رحمة الله عليه، وعبد الله العروى وعبد المجيد الشرفى وغيرهم، ستجد أنها مشروعات لها صدى، لأن الفكر نفسه ليس منغلقا، فهم يطرحون أفكارا لا نملك الجرأة لطرحها، وسبب هذا يرجع للاحتكاك بالغرب، كما أن المناخ عندهم يسمح بطرح هذه الأفكار، وهو مناخ لا يتوفر عندنا.

 بالمقارنة بين الأكاديمية الغربية والأكاديمية العربية.. هل هم أكثر اهتماما بالتراث أكثر من أصحابه؟

- بدأ الاهتمام الأوروبى بالتراث العربى قرب نهايات القرن الثامن عشر، ويرجع الاهتمام الأكاديمى إلى المستشرق الفرنسى سلفستر دى ساسى، والجمعيات الآسيوية التى تأسست فى عدد من الدول الأوروبية واهتمت بالمشرق، ثم الدوريات العلمية التى نشأت فى أوروبا، كذلك مطبعة بريل فى ليدن الهولندية، وهى أهم مطبعة لنشر التراث العربى والدراسات التى لها علاقة بالشرق، فضلا عن معاهد الاستشراق وأقسام اللغات الشرقية فى الجامعات العربية، كل هذا يظهر لنا مدى الاهتمام الغربى بتاريخ وحضارة المسلمين، خاصة إذا أضفت إلى ذلك العناية التى تلقاها المخطوطات العربية فى الدول الغربية.

وأرى أنهم يتفوقون علينا فى المنهجية، فعند حديثى مع أحد المستشرقين عن بداية حياته فى دراسة النصوص العربية، أخبرنى أن أستاذه طلب منه بداية أن يؤلف عدة دراسات بالتوازى مع تحقيق مخطوط أو مخطوطين على الأقل من التراث العربى، فى حين أننا فى العالم العربى، لا نعترف بالنشر النقدى للنصوص، ونعتبره مجرد نقل المخطوط من ورق أبيض إلى ورق أصفر، ولا يتم اعتماد التحقيق فى ترقية الباحث، لذا سحب البساط من تحت أقدامنا، فتجد الأستاذ الجامعى مشغولا بإعداد الأبحاث لكى يحصل على درجة الأستاذية، فالباحث يكتب خمسة أبحاث بمتوسط 30 صفحة، ليحصل على الدرجة الوظيفية، أى أنه أصبح أستاذا فى الجامعة بـ 150 ورقة، فلماذا يضيع من عمره سنتين أو أكثر فى تحقيق كتاب لن يُعترف به؟

 لكن المطابع الآن تخرج بعشرات الكتب التراثية المحققة سنويا؟

- هــذه الكــتب فــى معظــــمهـــــا ديـنـيـــة، لأن الغــــالب على مفهـــوم الــتراث أنه دينى، لكن هذا مفهوم قاصر، لأن التراث هو كل ما أنتجه الماضى، فهو يغطى الجغرافيا والتاريخ والطب والعلوم وعلم الكلام والفلسفة والأدب، فتجد أن البعض يرى أن التراث يعنى حصر ما يتعلق بالفقه والأصول، بل البعض حصره فى علوم الحديث، لأن أغلب من يعملون فى هذا المجال من أبناء هذه المنظومة، لذا ما ينتج من أعمال يكون غير مبنى على منهج على أى حال.

 ماذا عن دور الجمعية التاريخية فى معالجة هذا القصور عن الباحثين المصريين؟

- نحاول فى الجمعية أن نوفر مساحة للتلاقى مع الباحثين الغربيين، لكن للأسف خلال العامين الماضيين لم تعد هناك حركة بسبب تفشى فيروس كورونا المستجد، ونحن نتمنى أن تنفرج الأمور مستقبلا، بحيث ندعو كبار الباحثين والمستشرقين فى الجمعية، ليدور حوار مع الباحثين المصريين حول هذه القضايا، كى نطعم الأفكار بعضا ببعض، ولكى يكون هناك تقارب بين الباحثين المصريين والباحثين الأجانب، وقد سبق أن احتفلت الجمعية بمستشرقين كبار أمثال الفرنسى أندريه ريمون وغيره فى أوقات سابقة.

>  >  >

فى الحلقة الثانية: الدكتور أيمن فؤاد سيد يكشف عن موقفه من كتابات على الصلابى وراغب السرجانى، ومن أين يستخلص االإخوانب رؤيتهم المشوهة للتاريخ، ورأيه فى الأعمال التاريخية المقدمة عبر الدراما وازدهار الرواية التاريخية، والصراع بين الموضوعية والذاتية فى الأعمال التاريخية الحديثة، وموقفه من عمليات التطوير الجارية فى القاهرة التاريخية.