القارئ الباحث عما هو مثير وكاشف، الباحث عن الأسرار، عن صدمات السيرة الذاتية المطمورة تحت الركام، وأخفتها صاحبتها سنوات.. هذا القارئ تحديدا لن يجد مبتغاه، بل إن فاطمة قنديل في» أقفاص فارغة»- دارالكتبخان- 2021 كانت متحفظة إلى أقصى حد فى هذا الخصوص، لكنها فى الوقت نفسه، أمسكت بسكين مسنون جيدا، وهى تتناول أوجاع زمن أصابنا جميعا وألحق بنا هزائم لم نبرأ منها بعد.
كاتب هذه السطور متابع لابأس به لأعمالها، ولايخفى إعجابه وتقديره لتجربتها فى قصيدة النثر، على الأقل منذ « صمت قطنة مبتلة» 1995 و» أسئلة معلقة كالذبائح» 2008 و» بيتى له بابان» 2017 فضلا عن القصائد التى نشرتها فى أعقاب ديوانها الأخير ولم تصدر فى كتاب بعد.
لذلك استقبلتُ سيرتها الذاتية بما يليق بها من ترقب واهتمام، موقنا أنها ستضيف لى لمعرفة أكثربشعرها الذى فتنني. والواقع أن هذا الجانب تحديدا، أى تجربتها الشعرية، لم ينل من اهتمام الكاتبة إلا أقل القليل، وأفردت الجانب الأكثرتفصيلا وتدقيقا لتجربتها فى مواجهة زماننا وأيامنا.
أبادر إلى القول إن تجربتها وسيرتها الذاتية هى سيرة أجيال واجهت أعتى الظروف وأكثرها شراسة.. واجهت باختصار ما فُرض علينا جميعا ومادُمغنا بعد حرب أكتوبر 1973. فمن الانفتاح السداح مداح حسب تعبير طيب الذكر أحمد بهاء الدين، إلى خروج الملايين للعملفى السعودية والخليج والعودة بالصنادل والجلابيب وأغطية الرأس والعقل واقتلاع الأرض نفسها، التربة التى نعيش عليها وتبويرها، ناهيك طبعا عن الجرائم التى ارتكبناها فى حق أنفسنا: الجرائم المتعلقة بوجودنا ذاته. تراثنا وموسيقانا ونمط حياتنا واختياراتنا وطريقتنا فى العيش.. لقد فقدنا الكثير والكثير مما لايمكن تعويضه للأسف حيث لاينفع الأسف.
هذا هو الفضاء الذى تتحرك عليه سيرة فاطمة قنديل بنت السويس التى تعيش على هامش تجربة التهجير المرعبة. لاتنقل الكاتبة الواقع ولايهمها نقله، بل تكتب تجربتها بأقصى قدر من التأني، وبمزيد من الألم. الخطوط العريضة للسيرة حافلة حقا. أسرة مصرية مستورة تترنح تحت ضربات متتالية، وتنتقل من السويس للألف مسكن لمدينة نصر لمصر الجديدة. تفقد الأب ويسافر الأخ للسعودية، حيث يعيث فسادا شأنه شأن الملايين الذين خرجوا، على مدى صفحات السيرة، وهو الأكثر تمثيلا للتحولات المرعبة، بينما يختفى الثانى فى ألمانيا لأكثر من ثلاثين عاما هاربا، وعندما يعود يتم تدبير إقامته فى أحد بيوت المسنين ويخرج من المشهد، دون أن يتاح لأمه أن تراه، فقد ماتت بين يدى ابنتها بعد صراع ضار مع السرطان. وصاحبة السيرة نفسها ، لاتملّ من ركل الفرص المتاحة لها للترقى وفق شروط السوق، ويلاحقها الفشل فى حياتها العاطفية، فهى تلقى بنفسها بإصرار يصيب الواحد بالدهشة فى تجارب فاشلة، ولاينقذها إلا اللحاق فى اللحظة الأخيرة بالسلك الأكاديمي.
وحدها قصة الحب بين الأم وابنتها هى النقطة المضيئة، بل هى الشمس، فالأم لاتستطيع كراهية أى من الأخوين المجرمين والمسكينين فى الوقت نفسه، على الرغم من كل ماسبباه، ومايربط بينها وبين ابنتها عصى على الوصف، فهو أعمق وأبعد غورا، وتبدو صاحبة السيرة وكأنها ماتزال داخل رحم الأم حتى كتابة هذه السطور.
وإخيرا، لاحاجة للقول إن فاطمة قنديل كانت الأكثر شجاعة، والسكين الذى أشهرته على مدى صفحات السيرة طال الجميع، وعلى الأخص طال زماننا الذى تم إفساده وتبويره، فهو زمان وطن وتاريخ وروح فقدناها..
كتّر خيرك يافاطمة على كل هذه الصراحة الموجعة.