كتابة

هذا هو ماجرى لنا

محمود الوردانى
محمود الوردانى

القارئ‭ ‬الباحث‭ ‬عما‭ ‬هو‭ ‬مثير‭ ‬وكاشف،‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬الأسرار،‭ ‬عن‭ ‬صدمات‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬المطمورة‭ ‬تحت‭ ‬الركام،‭ ‬وأخفتها‭ ‬صاحبتها‭ ‬سنوات‭.. ‬هذا‭ ‬القارئ‭ ‬تحديدا‭ ‬لن‭ ‬يجد‭ ‬مبتغاه،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬فاطمة‭ ‬قنديل‭ ‬في‮»‬‭ ‬أقفاص‭ ‬فارغة‮»‬‭- ‬دارالكتبخان‭- ‬2021‭ ‬كانت‭ ‬متحفظة‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬حد‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الخصوص،‭ ‬لكنها‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬أمسكت‭ ‬بسكين‭ ‬مسنون‭ ‬جيدا،‭ ‬وهى‭ ‬تتناول‭ ‬أوجاع‭ ‬زمن‭ ‬أصابنا‭ ‬جميعا‭ ‬وألحق‭ ‬بنا‭ ‬هزائم‭ ‬لم‭ ‬نبرأ‭ ‬منها‭ ‬بعد‭.‬

‭ ‬كاتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬متابع‭ ‬لابأس‭ ‬به‭ ‬لأعمالها،‭ ‬ولايخفى‭ ‬إعجابه‭ ‬وتقديره‭ ‬لتجربتها‭ ‬فى‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬منذ‭ ‬‮«‬‭ ‬صمت‭ ‬قطنة‭ ‬مبتلة‮»‬‭ ‬1995‭ ‬و‮»‬‭ ‬أسئلة‭ ‬معلقة‭ ‬كالذبائح‮»‬‭ ‬2008‭ ‬و‮»‬‭ ‬بيتى‭ ‬له‭ ‬بابان‮»‬‭ ‬2017‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬القصائد‭ ‬التى‭ ‬نشرتها‭ ‬فى‭ ‬أعقاب‭ ‬ديوانها‭ ‬الأخير‭ ‬ولم‭ ‬تصدر‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬بعد‭. ‬

‭  ‬لذلك‭ ‬استقبلتُ‭ ‬سيرتها‭ ‬الذاتية‭ ‬بما‭ ‬يليق‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬ترقب‭ ‬واهتمام،‭ ‬موقنا‭ ‬أنها‭ ‬ستضيف‭ ‬لى‭ ‬لمعرفة‭ ‬أكثربشعرها‭ ‬الذى‭ ‬فتنني‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬تحديدا،‭ ‬أى‭ ‬تجربتها‭ ‬الشعرية،‭ ‬لم‭ ‬ينل‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬الكاتبة‭ ‬إلا‭ ‬أقل‭ ‬القليل،‭ ‬وأفردت‭ ‬الجانب‭ ‬الأكثرتفصيلا‭ ‬وتدقيقا‭ ‬لتجربتها‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬زماننا‭ ‬وأيامنا‭.‬

‭  ‬أبادر‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬تجربتها‭ ‬وسيرتها‭ ‬الذاتية‭ ‬هى‭ ‬سيرة‭ ‬أجيال‭ ‬واجهت‭ ‬أعتى‭ ‬الظروف‭ ‬وأكثرها‭ ‬شراسة‭.. ‬واجهت‭ ‬باختصار‭ ‬ما‭ ‬فُرض‭ ‬علينا‭ ‬جميعا‭ ‬ومادُمغنا‭ ‬بعد‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر‭ ‬1973‭. ‬فمن‭ ‬الانفتاح‭ ‬السداح‭ ‬مداح‭ ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬طيب‭ ‬الذكر‭ ‬أحمد‭ ‬بهاء‭ ‬الدين،‭ ‬إلى‭ ‬خروج‭ ‬الملايين‭ ‬للعملفى‭ ‬السعودية‭ ‬والخليج‭ ‬والعودة‭ ‬بالصنادل‭ ‬والجلابيب‭ ‬وأغطية‭ ‬الرأس‭ ‬والعقل‭ ‬واقتلاع‭ ‬الأرض‭ ‬نفسها،‭ ‬التربة‭ ‬التى‭ ‬نعيش‭ ‬عليها‭ ‬وتبويرها،‭ ‬ناهيك‭ ‬طبعا‭ ‬عن‭ ‬الجرائم‭ ‬التى‭ ‬ارتكبناها‭ ‬فى‭ ‬حق‭ ‬أنفسنا‭: ‬الجرائم‭ ‬المتعلقة‭ ‬بوجودنا‭ ‬ذاته‭. ‬تراثنا‭ ‬وموسيقانا‭ ‬ونمط‭ ‬حياتنا‭ ‬واختياراتنا‭ ‬وطريقتنا‭ ‬فى‭ ‬العيش‭.. ‬لقد‭ ‬فقدنا‭ ‬الكثير‭ ‬والكثير‭ ‬مما‭ ‬لايمكن‭ ‬تعويضه‭ ‬للأسف‭ ‬حيث‭ ‬لاينفع‭ ‬الأسف‭.‬

‭  ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الفضاء‭ ‬الذى‭ ‬تتحرك‭ ‬عليه‭ ‬سيرة‭ ‬فاطمة‭ ‬قنديل‭ ‬بنت‭ ‬السويس‭ ‬التى‭ ‬تعيش‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬تجربة‭ ‬التهجير‭ ‬المرعبة‭. ‬لاتنقل‭ ‬الكاتبة‭ ‬الواقع‭ ‬ولايهمها‭ ‬نقله،‭ ‬بل‭ ‬تكتب‭ ‬تجربتها‭ ‬بأقصى‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬التأني،‭ ‬وبمزيد‭ ‬من‭ ‬الألم‭. ‬الخطوط‭ ‬العريضة‭ ‬للسيرة‭ ‬حافلة‭ ‬حقا‭. ‬أسرة‭ ‬مصرية‭ ‬مستورة‭ ‬تترنح‭ ‬تحت‭ ‬ضربات‭ ‬متتالية،‭ ‬وتنتقل‭ ‬من‭ ‬السويس‭ ‬للألف‭ ‬مسكن‭ ‬لمدينة‭ ‬نصر‭ ‬لمصر‭ ‬الجديدة‭. ‬تفقد‭ ‬الأب‭ ‬ويسافر‭ ‬الأخ‭ ‬للسعودية،‭ ‬حيث‭ ‬يعيث‭ ‬فسادا‭ ‬شأنه‭ ‬شأن‭ ‬الملايين‭ ‬الذين‭ ‬خرجوا،‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬صفحات‭ ‬السيرة،‭ ‬وهو‭ ‬الأكثر‭ ‬تمثيلا‭ ‬للتحولات‭ ‬المرعبة،‭ ‬بينما‭ ‬يختفى‭ ‬الثانى‭ ‬فى‭ ‬ألمانيا‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاما‭ ‬هاربا،‭ ‬وعندما‭ ‬يعود‭ ‬يتم‭ ‬تدبير‭ ‬إقامته‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬بيوت‭ ‬المسنين‭ ‬ويخرج‭ ‬من‭ ‬المشهد،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتاح‭ ‬لأمه‭ ‬أن‭ ‬تراه،‭ ‬فقد‭ ‬ماتت‭ ‬بين‭ ‬يدى‭ ‬ابنتها‭ ‬بعد‭ ‬صراع‭ ‬ضار‭ ‬مع‭ ‬السرطان‭. ‬وصاحبة‭ ‬السيرة‭ ‬نفسها‭ ‬،‭ ‬لاتملّ‭ ‬من‭ ‬ركل‭ ‬الفرص‭ ‬المتاحة‭ ‬لها‭ ‬للترقى‭ ‬وفق‭ ‬شروط‭ ‬السوق،‭ ‬ويلاحقها‭ ‬الفشل‭ ‬فى‭ ‬حياتها‭ ‬العاطفية،‭ ‬فهى‭ ‬تلقى‭ ‬بنفسها‭ ‬بإصرار‭ ‬يصيب‭ ‬الواحد‭ ‬بالدهشة‭ ‬فى‭ ‬تجارب‭ ‬فاشلة،‭ ‬ولاينقذها‭ ‬إلا‭ ‬اللحاق‭ ‬فى‭ ‬اللحظة‭ ‬الأخيرة‭ ‬بالسلك‭ ‬الأكاديمي‭.‬

‭  ‬وحدها‭ ‬قصة‭ ‬الحب‭ ‬بين‭ ‬الأم‭ ‬وابنتها‭ ‬هى‭ ‬النقطة‭ ‬المضيئة،‭ ‬بل‭ ‬هى‭ ‬الشمس،‭ ‬فالأم‭ ‬لاتستطيع‭ ‬كراهية‭ ‬أى‭ ‬من‭ ‬الأخوين‭ ‬المجرمين‭ ‬والمسكينين‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ماسبباه،‭ ‬ومايربط‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬ابنتها‭ ‬عصى‭ ‬على‭ ‬الوصف،‭ ‬فهو‭ ‬أعمق‭ ‬وأبعد‭ ‬غورا،‭ ‬وتبدو‭ ‬صاحبة‭ ‬السيرة‭ ‬وكأنها‭ ‬ماتزال‭ ‬داخل‭ ‬رحم‭ ‬الأم‭ ‬حتى‭ ‬كتابة‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭.‬

‭  ‬وإخيرا،‭ ‬لاحاجة‭ ‬للقول‭ ‬إن‭ ‬فاطمة‭ ‬قنديل‭ ‬كانت‭ ‬الأكثر‭ ‬شجاعة،‭ ‬والسكين‭ ‬الذى‭ ‬أشهرته‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬صفحات‭ ‬السيرة‭ ‬طال‭ ‬الجميع،‭ ‬وعلى‭ ‬الأخص‭ ‬طال‭ ‬زماننا‭ ‬الذى‭ ‬تم‭ ‬إفساده‭ ‬وتبويره،‭ ‬فهو‭ ‬زمان‭ ‬وطن‭ ‬وتاريخ‭ ‬وروح‭ ‬فقدناها‭..‬

‭  ‬كتّر‭ ‬خيرك‭ ‬يافاطمة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الصراحة‭ ‬الموجعة‭.

[email protected]