هضبة المساخيط: التراث الأسطورى وسياسات التطهير

هضبة المساخيط: التراث الأسطورى وسياسات التطهير
هضبة المساخيط: التراث الأسطورى وسياسات التطهير

كتبت : دينا نبيل
تنبع أهمية الأساطير فى العموم من محاولة الإنسان إخراج خواطره الوجدانية والاتصال بالكون والظواهر الطبيعية من حوله وتقديم تفسيرات لها وعلى رأسها تفسير ماهية وجوده بالدرجة الأولى. وقد أشار إرنست كاسيرر فى كتابه «مقال فى الإنسان» أنّ «المخيلة الأسطورية الحقّة تنطوى على فعل إيمان» وبناء وجدانى تطهيرى للإنسان المعاصر. فدور الأسطورة فى تقديم تفسيرات حول الكون قد تعطّل بالنسبة لكثيرٍ من الحضارات التى تستند الآن إلى النظريات العلمية والظواهر الفيزيقية فى تفسير الوجود؛ إلا أنّ البعد الميتافيزيقى للأسطورة يتعدّى كونه بعدًا خرافيًا لا يفتر عن امتزاجه بالوعى الجمعى للجماعات الإنسانية. ولعل أبرز الأبعاد الميتافيزيقية التى تنتج عن عملية تلقى الخطاب الأسطورى هى التطهير. ويقصد بالتطهير أو الكاثارسيس على حد تعبير أرسطو هو التنفيس الوجدانى الناجم عن مشاهدة المصير التراجيدى للبطل، فتتولد شحنة الانفعالات من خوف وشفقة ومن ثمّ تُحرره من أهوائه. وتعدّ رواية «هضبة المساخيط» للكاتب حجّاج أدّول – الصادرة عن دار البدائل عام 2020 – إحدى الروايات التى لا تستلهم الخطاب الأسطورى العتيد بغية الثراء الفكرى فحسب وإنما لتقديم طقس تطهير وجدانى للمتلقّى. 


تقع الرواية فى خمسة فصول وتدور أحداثها حول هضبة المساخيط التى تسلك إحدى التجريدات القبلية الطريق إليها أثناء فرارها من إعصار الصحراء.

تمثل هضبة المساخيط مرتكزًا سردًا ومكانيًا للرواية حيث تقف فى منتصف الرواية كعمود تنتظم حوله سائر الأحداث.

وكما يتضح من عتبة العنوان فإن الشق الأسطورى فى العنوان يرجع إلى الإضافة التوضيحية لماهية الهضبة ومن هنا اكتسب المكان سمته الأسطورية من طبيعة القوم الذين يعيشون فوقها – ألا وهم المساخيط.

والمساخيط كما جرى وصفهم على لسان دليل التجريدة: «أسلافنا أطلقوا على هذه الهضبة اسم هضبة المساخيط وسبب هذا الاسم ما يُحكى من حكايات نتداولها جيلًا بعد جيل، فيقال أنّ كل عقدٍ أو عقدين أو أكثر من السنين تطول أو تقصر، تحتل هذه الهضبة مخلوقات مشوّهة غضب عليها الله، فسخطها فى هيئات بشعة».

ويلمح المتلقى تماسّ أسطورة المساخيط مع عددٍ من الأساطير والحكايات الشعبية: العماليق فى الأساطير الإغريقية، ومفهوم المساخيط فى الوجدان الشعبى المصرى عند الإشارة قديمًا إلى تماثيل القدماء وإرجاء سبب التسمية إلى ارتكاب أصحاب هذه التماثيل لكثير من الآثام العظيمة فاستحقوا العذاب الأبدى بمسخهم وسخطهم إلى تماثيل حجرية، وهذا ما استند إليه الكاتب جزئيًا فى تأثيثه لتلك الأسطورة. يقول الدليل: «مخلوقات كُتب عليها ألّا تموت وألّا تحيا إلا من تدركه رحمة من الله.

 

بعضهم حلّت عليهم اللعنة من أزمان سحيقة وبعضهم كُتب عليهم الغضب الشنيع والسخط المرعب». ومن ثمّ، يرتبط اسم تلك المخلوقات بارتكاب أحقر وأقبح الأعمال وتعمير الأرض بطريقة شريرة حتى غضب الله عليهم وجعلهم من فئة لا مساس – أى بين الحياة والموت. 



تتبدّى المشاعر التطهيرية – الخوف والشفقة – فى شخوص الرواية بالدرجة الأولى وأثر ذلك بدرجات متفاوتة على المتلقي. فتتعرض شخوص الرواية لرحلة ذات مخاطر مصيرية تضع الشخوص أنفسهم على حافة الرعب وتبدّل مشاعر الأنانية إلى الإشفاق على الآخر ومواجهة مع الذات

 

وفى تلك الأثناء يتولّد لدى المتلقى شعورًا بالتقمّص الوجدانى إزاء ما يتفاعل معه من مصائر تراجيدية لتلك الشخوص حتى وإن اتخذ موقفًا مضادًا لبعض منهم فى أول الرواية.

 

وكذلك الحال مع شخوص المساخيط، فرغم بشاعتهم وهيئتهم المرعبة التى تستثير الخوف والاشمئزاز فى الوقت ذاته فى قلوب الشخوص والمتلقى على حد سواء، فإن المتلقّى لا يفتر عن التعاطف مع هؤلاء المساخيط ولاسيما عندما يعلم حالهم؛ فالمسخوط «لا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا ينام ولا يستيقظ. سلسلة من لا ولا ولا! حياة ملولة غبية ومقرفة.. يمن الله عليهم بالموت الأخير. فتنطلق أرواحهم مثل البرق لأعلى لتتحول نجمًا لفترة ما». فلا يملك المتلقى نفسه إلا بالشفقة على تلك الكائنات المرعبة والتألم لمأساتهم لافتقادهم الجانب الإنساني. ثم يقف المتلقى متأملًا أن المساخيط ليسوا فقط كائنات خرافية ولكن قد يتحوّل بعض البشر إلى مسوخ وإن ظلّوا فى صورتهم البشرية ويعيشون بين ظهرانينا! 


وقد وظّف الكاتب عدّة سياسات كى تمكّنه من تفعيل البعد التطهيرى للأسطورة التى أثثها فى عمله الروائى. وأول تلك السياسات هى توظيف عناصر الحكى الشعبى وعلى رأسها صوت الذاكرة الجمعية الذى يقوم به راوٍ مجهول عندما يقول: «من الحكايات الغرائبية حكايات تدخل المعلوم فى المجهول وتُخَلبِط المفهوم فى غير المعقول!

 

ومن تلك الحكايات، حكايتنا هذه، التى ألحقت الحى بالشبح والمعتدل بالمسخوط!» تُسرد تلك الحكاية بمقدمة مسجوعة على لسان راوٍ يتناقل الأخبار بالتواتر الشفاهى عبر نسيج شعبى ليكون خير حاملٍ لثقافة المجتمع ونفسيته.

 

ومن ثم، لا يمكن النظر لتلك الرواية كتأثيث أسطورى فحسب وإنما تمتزج معها عناصر الحكاية الشعبية بما يضمن توغلها الأكمل داخل الوعى الشعبى والوصول إلى الأثر التطهيرى الأبلغ داخل الوجدان الشعبى حين قراءته تلك الحكاية التى لا تنفك تجسّد ثيمات عالمية وقواسم مشتركة بين سائر المجتمعات مثل الخير والشر والحب والكراهية. فيدخل المتلقى فى حالة من التقمص التى تفرض عليه أثرًا تطهيريًا وجدانيًا.


وأحد السياسات الأخرى التى يعتمدها الكاتب هى توظيف شخصية البطل الأسطورى الزائف الذى يلقى عقابًا أبديًا فى نهاية الرواية. تقدّم الرواية عبد الرحيم الوسيم – الشخصية الرئيسة بالرواية – كشخص كان من الممكن أن يحمل سمات البطولة الأسطورية الحقيقية كونه الابن الأوحد لزعيم القبائل الثلاث، واتسامه بالوسامة والفتوة وقوة البنيان وطموحه الجامح. إلا أنّه يستغل نسبه من أجل استغلال الآخرين كلما أتيحت له الفرصة من سرقة أو اغتصاب أو قطع للطرق. فأودت غطرسته بمصيره ومصير رجاله فى التجريدة؛ يقول الراوى مبلغًا عن عبد الرحيم فى خطبته قبل خروجه مع التجريدة لقطع الطرق: «أيها الناس. لقد وليت عليكم وأنا أفضلكم وأخيركم وأجملكم وأذكاكم... سآتى إليكم بالخير الواسع، فأعينونى بطاعتي».


ولا ينسى الكاتب أن يصوّر حالة الضعف والتوانى المتفشية فى المؤسسة المجتمعية بسبب خضوعها لقوانين القبلية التراتبية؛ فابن الزعيم مطاعٌ دائمًا ولا يجب أن يُحاسب. وعليه، كانت رحلة التجريدة التى تجسّد صورة مصغرة من القبائل الثلاث بمثابة الطقس التطهيري، فقد تعرضت التجريدة وعلى رأسها عبد الرحيم الوسيم لكثير من المشاق التى أودت بحياة ثلاث أرباع التجريدة. وكل خطوة يخطونها تضعهم فى مواجهة مع ذواتهم ابتداء من الصحراء ثم ممر الهضبة ثم معركتهم مع المساخيط أنفسهم. واكتمالًا للأجواء الطقسية التطهيرية، تقدّم التجريدة قرابين بشرية – السبرونى والجارية البيضاء - للمساخيط كى يتمكّنوا من الفرار منهم لينتهى بهم الحال بالتيه فى الصحراء.


ولعل أكثر سياسات التطهير أهمية هو المكان السردى المهيمن: الصحراء. فتقع أحداث الرواية فى بيئة ذات سمات جافة متقشفة: الصحراء، ممر الهضبة الوعر، هضبة المساخيط. يتبدى البعد التطهيرى واضحًا جليًا فى الممر والهضبة؛ ففى كل خطوة وكل مرحلة من المعركة يسقط عدد من الرجال قتيلًا. إلا أن الصحراء تتمظهر كمكان سردى سلطوى يطوّق الأماكن الأخرى فى بداية ونهاية الرواية. يقول الراوى فى بداية الرواية واصفًا أول مواجهة للتجريدة مع الصحراء: «خط نمل يزحف وسط بحر الرمال الصفراء الغامقة وبعض من هذا البحر يشع عاكسًا آشعة الشمس وبعض ثنايا كثبان الرمال الواطئة تعطى ظلالًا دكناء».

 

تتبدّى الصحراء هنا كمكان وجودى شديد التحفّز يضع الإنسان فى مواجهة مع الكون بأكمله؛ وعليه، يمكن تلمّس بعض الثنائيات الضدية التى تنشأ عن تلك المواجهة: المتناهى الكبر – الصحراء/ المتناهى الصغر – التجريدة، الكون/ الإنسان، السكون/الحركة. تنتج عن هكذا ثنائيات تقويض واضح لما بناه عبد الرحيم الوسيم وتجريدته من قوة زائفة. فعبد الرحيم الذى لا يفتر حكيم القبائل عن تحذيره قائلًا: «حذرتك من قبل، وأحذرك للمرة الأخيرة، عجرفتك وغطرستك لا يقبلهما الخالق، سيحطمك»؛ فتدخل التجريدة داخل صحراء مترامية الأطراف تتقلّص أمامها الأنا الإنسانية وتدور داخل دائرتها المفرغة لتنتهى بمواجهة أشبه بطقس تطهيرى للروح من دنايا الجسد، طقس أشبه بالطقوس الصوفية. ففى نهاية الرحلة، يفقد عبد الرحيم سلطانه على تجريدته التى قتل أغلبها، وفقد أهليته كابن للزعيم بعد أن توعّده المساخيط بمصير يشبه مصيرهم، وفقد جاريته المفضلة وقدّمها قربانًا قبل أن يمسها، وفى النهاية تفقد التجريدة العدّة والعتاد ولم يتبق لديهم قطرةً من ماء. يقول الراوي: «العطشان فى الصحراء عذابه لا يدانيه عذاب، هو عذاب الحريق البطيء. حريق الجفاف فى داخله، وحريق الشمس فى خارجه». 


وأخيرًا، تقدّم رواية «هضبة المساخيط» مكاشفة للذات الإنسانية عبر توظيف التراث الأسطورى ليستخلص منها طقوسًا تطهيرية. يقف المتلقى فى نهاية الرواية ليرى حقيقة الإنسان داخل حلقة وجودية ويدرك أنّ المساخيط ليسوا فقط كائنات أسطورية أو خرافية ولكنهم موجودون فى كل زمان ومكان وإن كانت لهم أجساد بشرية، وأخشى ما نخشاه أن نلقى مصيرهم ونحن لا نعلم. 

 

أقرا ايضا | أحمد فضل شبلول يكتب: نجيب محفوظ ونزار قباني.. وجهًا لوجه