أواصل هنا ماكنت قد بدأته الأسبوع الماضى حول مجموعة نجيب محفوظ القصصية» خمارة القط الأسود».
هى واحدة من مجموعاته التى تعد من علامات القصة العربية، وتضم تسع عشرة قصة، هناك وشائج وأواصر صلة بين بعضها والبعض الآخر، أى أن الكاتب لم يجمع عددا من القصص فى كتاب، بل كان معنيا فى تلك الفترة التى كتبها فيها باختبار هذا العالم والتوغل فيه والتقليب فى دقائقه. وإذا وضع الواحد فى اعتباره أن القصص مكتوبة حوالى عام 1969، فمن الطبيعى أن تكون أصداء الهزيمة والكارثة فى 1976 مخيّمة بأجوائها على القصص.
أبادر إلى القول أنه ليس هناك بطبيعة الحال تلازم ميكانيكى بين الواقع والكتابة، ومن نافل القول إن الكتابة ( الكتابة التى تسكن القلب) عملية معقدة وليست مجرد انعكاس للواقع، خصوصا فيما يتعلق بنجيب محفوظ، وهو الكاتب شديد الانخراط فى الواقع، ولطالما اعتبر الكتابة الروائية والقصصية جزءا من الأيديولوجيا.
يلعب الزمن والسنين دورا مؤثرا فى المجموعة، مثلما يلعب الخوف دورا مماثلا.
فالقصة التى اختارها الكاتب عنوانا لمجموعته هى قصة الرعب الأعظم والخوف حتى الارتجاف والعجز التام عن المقاومة. هناك ناس يتسامرون ويتضاحكون فى الخمارة، ثم يدخل رجل غامض، بنظرة واحدة يقيّدهم فى أماكنهم، ويمنعهم بنظرة واحدة أيضا من الكلام، ثم يمنعهم من أن يغادروا مقاعدهم بعد أن أظهر لهم الشر، وإذا حاول أحدهم الخروج يتعرض للتهديد بممارسة العنف ضده. الرجل الغامض لايكف عن الشراب دون أن يسكر.
كتب محفوظ عنه:
«الرجل مخيف حقا. ولعله خائف أيضا، وسيضاعف ذلك من سوء المصير. وزحف اليأس إلى القلوب كموجة من البرد المميت. ولم يكف عن الشراب، رغم أنه لايسكر ولايفتر ولايهمد. وهاهو يعترض المنفذ الوحيد للمكان. قويا عنيفا فولاذى المبنى مثل قضبان النافذة»
سجنهم هذا الرجل الغامض، وعلى الرغم من الرعب الذى أصابهم منه، إلا أنه هو نفسه خائف، ولطالما هددهم دون أن يكون محتاجا لتنفيذ تهديده، فقط مجرد التهديد كان كافيا. وبعد أن مرّ الوقت، وحاولوا نسيانه خلاله، يختفى فجأة مثلما ظهر فجأة، ولكن على الأرجح هم مازالوا مسجونين رغم اختفاء الرجل، ولاأحد يعلم إذا كان هناك رجل فى الأصل، أو أنه لم يكن موجودا..
على هذا النحو يمضى محفوظ. ففى قصة «المتهم». لم يرتكب بطلها جريمة ما، ومع ذلك يتم توريطه، بل ويشهد الشهود على ذلك، على الرغم من أنهم لم يروا شيئا..وفى قصة» الصدى»يعود البطل إلى أمه بعد غيبة غير مبررة وبلاسبب واضح استمرت عشرين عاما، ويكتشف أنهاأصيبت بالعمى. وفى » الخلاء» يعود رجل آخر بعد عشرين عاما أيضا لينتقم ممن أهانه وطرده وخطف امرأته، فوجد الأخيرة فى خريف عمرها ولاتتذكر شيئا، وغريمه مات.. وهكذا حُرم حتى من الانتقام. وفى قصة» المجنونة» تدور معركة غامضة يقتتل الناس فيها ويصرعون بعضهم البعض، دون أن يكون هناك سبب. وفى قصة » فردوس» يقوم البطل بزيارة معتادة لحى البغاء الذى طالما تردد عليه، فيفاجأ باختفاء الحى بكامله..
أدرك جيدا أننى أختزل وألخّص تلخيصا مخلا، لكننى قصدتُ الإشارة فقط إلى ملامح وعناوين عريضة تحفل بدلالات لعالم «خمارة القط الأسود»، الذى هو فى حقية الأمر عالمنا نحن، ليس فى زمن القط الأسود فقط، بل فى سائر الدنيا وكل الأزمان.
على أى حال .. هذا هو نجيب محفوظ، ما أن تعود لقراءته حتى تمتلئ وتفيض ..كتّر خيرك ياعم نجيب..