كتابة

خمارة القط الأسود( 2 ــ 2)

محمود الوردانى
محمود الوردانى

أواصل‭ ‬هنا‭ ‬ماكنت‭ ‬قد‭ ‬بدأته‭ ‬الأسبوع‭ ‬الماضى‭ ‬حول‭ ‬مجموعة‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬القصصية‮»‬‭ ‬خمارة‭ ‬القط‭ ‬الأسود‮»‬‭. ‬

هى‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬مجموعاته‭ ‬التى‭ ‬تعد‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬القصة‭ ‬العربية،‭ ‬وتضم‭ ‬تسع‭ ‬عشرة‭ ‬قصة،‭ ‬هناك‭ ‬وشائج‭ ‬وأواصر‭ ‬صلة‭ ‬بين‭ ‬بعضها‭ ‬والبعض‭ ‬الآخر،‭ ‬أى‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬لم‭ ‬يجمع‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬فى‭ ‬كتاب،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬معنيا‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬التى‭ ‬كتبها‭ ‬فيها‭ ‬باختبار‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬والتوغل‭ ‬فيه‭ ‬والتقليب‭ ‬فى‭ ‬دقائقه‭. ‬وإذا‭ ‬وضع‭ ‬الواحد‭ ‬فى‭ ‬اعتباره‭ ‬أن‭ ‬القصص‭ ‬مكتوبة‭ ‬حوالى‭ ‬عام‭ ‬1969،‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أصداء‭ ‬الهزيمة‭ ‬والكارثة‭ ‬فى‭ ‬1976‭ ‬مخيّمة‭ ‬بأجوائها‭ ‬على‭ ‬القصص‭.‬

أبادر‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬تلازم‭ ‬ميكانيكى‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬والكتابة،‭ ‬ومن‭ ‬نافل‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الكتابة‭ ( ‬الكتابة‭ ‬التى‭ ‬تسكن‭ ‬القلب‭) ‬عملية‭ ‬معقدة‭ ‬وليست‭ ‬مجرد‭ ‬انعكاس‭ ‬للواقع،‭ ‬خصوصا‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بنجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬وهو‭ ‬الكاتب‭ ‬شديد‭ ‬الانخراط‭ ‬فى‭ ‬الواقع،‭ ‬ولطالما‭ ‬اعتبر‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬والقصصية‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬الأيديولوجيا‭. ‬

يلعب‭ ‬الزمن‭ ‬والسنين‭ ‬دورا‭ ‬مؤثرا‭ ‬فى‭ ‬المجموعة،‭ ‬مثلما‭ ‬يلعب‭ ‬الخوف‭ ‬دورا‭ ‬مماثلا‭. ‬ 

فالقصة‭ ‬التى‭ ‬اختارها‭ ‬الكاتب‭ ‬عنوانا‭ ‬لمجموعته‭ ‬هى‭ ‬قصة‭ ‬الرعب‭ ‬الأعظم‭ ‬والخوف‭ ‬حتى‭ ‬الارتجاف‭ ‬والعجز‭ ‬التام‭ ‬عن‭ ‬المقاومة‭. ‬هناك‭ ‬ناس‭ ‬يتسامرون‭ ‬ويتضاحكون‭ ‬فى‭ ‬الخمارة،‭ ‬ثم‭ ‬يدخل‭ ‬رجل‭ ‬غامض،‭ ‬بنظرة‭ ‬واحدة‭ ‬يقيّدهم‭ ‬فى‭ ‬أماكنهم،‭ ‬ويمنعهم‭ ‬بنظرة‭ ‬واحدة‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬الكلام،‭ ‬ثم‭ ‬يمنعهم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يغادروا‭ ‬مقاعدهم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أظهر‭ ‬لهم‭ ‬الشر،‭ ‬وإذا‭ ‬حاول‭ ‬أحدهم‭ ‬الخروج‭ ‬يتعرض‭ ‬للتهديد‭ ‬بممارسة‭ ‬العنف‭ ‬ضده‭. ‬الرجل‭ ‬الغامض‭ ‬لايكف‭ ‬عن‭ ‬الشراب‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسكر‭.‬

‭  ‬كتب‭ ‬محفوظ‭ ‬عنه‭:‬

‮«‬الرجل‭ ‬مخيف‭ ‬حقا‭. ‬ولعله‭ ‬خائف‭ ‬أيضا،‭ ‬وسيضاعف‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬المصير‭. ‬وزحف‭ ‬اليأس‭ ‬إلى‭ ‬القلوب‭ ‬كموجة‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬المميت‭. ‬ولم‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬الشراب،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬لايسكر‭ ‬ولايفتر‭ ‬ولايهمد‭. ‬وهاهو‭ ‬يعترض‭ ‬المنفذ‭ ‬الوحيد‭ ‬للمكان‭. ‬قويا‭ ‬عنيفا‭ ‬فولاذى‭ ‬المبنى‭ ‬مثل‭ ‬قضبان‭ ‬النافذة‮»‬

سجنهم‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬الغامض،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الرعب‭ ‬الذى‭ ‬أصابهم‭ ‬منه،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬خائف،‭ ‬ولطالما‭ ‬هددهم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬محتاجا‭ ‬لتنفيذ‭ ‬تهديده،‭ ‬فقط‭ ‬مجرد‭ ‬التهديد‭ ‬كان‭ ‬كافيا‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬مرّ‭ ‬الوقت،‭ ‬وحاولوا‭ ‬نسيانه‭ ‬خلاله،‭ ‬يختفى‭ ‬فجأة‭ ‬مثلما‭ ‬ظهر‭ ‬فجأة،‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭ ‬هم‭ ‬مازالوا‭ ‬مسجونين‭ ‬رغم‭ ‬اختفاء‭ ‬الرجل،‭ ‬ولاأحد‭ ‬يعلم‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬رجل‭ ‬فى‭ ‬الأصل،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬موجودا‭..‬

‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬يمضى‭ ‬محفوظ‭. ‬ففى‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬المتهم‮»‬‭. ‬لم‭ ‬يرتكب‭ ‬بطلها‭ ‬جريمة‭ ‬ما،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يتم‭ ‬توريطه،‭ ‬بل‭ ‬ويشهد‭ ‬الشهود‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يروا‭ ‬شيئا‭..‬وفى‭ ‬قصة‮»‬‭ ‬الصدى‮»‬يعود‭ ‬البطل‭ ‬إلى‭ ‬أمه‭ ‬بعد‭ ‬غيبة‭ ‬غير‭ ‬مبررة‭ ‬وبلاسبب‭ ‬واضح‭ ‬استمرت‭ ‬عشرين‭ ‬عاما،‭ ‬ويكتشف‭ ‬أنهاأصيبت‭ ‬بالعمى‭.‬‭ ‬وفى‭ ‬‮»‬‭ ‬الخلاء‮»‬‭ ‬يعود‭ ‬رجل‭ ‬آخر‭ ‬بعد‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭ ‬أيضا‭ ‬لينتقم‭ ‬ممن‭ ‬أهانه‭ ‬وطرده‭ ‬وخطف‭ ‬امرأته،‭ ‬فوجد‭ ‬الأخيرة‭ ‬فى‭ ‬خريف‭ ‬عمرها‭ ‬ولاتتذكر‭ ‬شيئا،‭ ‬وغريمه‭ ‬مات‭.. ‬وهكذا‭ ‬حُرم‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬الانتقام‭. ‬وفى‭ ‬قصة‮»‬‭ ‬المجنونة‮»‬‭ ‬تدور‭ ‬معركة‭ ‬غامضة‭ ‬يقتتل‭ ‬الناس‭ ‬فيها‭ ‬ويصرعون‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬سبب‭. ‬وفى‭ ‬قصة‭ ‬‮»‬‭ ‬فردوس‮»‬‭ ‬يقوم‭ ‬البطل‭ ‬بزيارة‭ ‬معتادة‭ ‬لحى‭ ‬البغاء‭ ‬الذى‭ ‬طالما‭ ‬تردد‭ ‬عليه،‭ ‬فيفاجأ‭ ‬باختفاء‭ ‬الحى‭ ‬بكامله‭.. ‬

‭  ‬أدرك‭ ‬جيدا‭ ‬أننى‭ ‬أختزل‭ ‬وألخّص‭ ‬تلخيصا‭ ‬مخلا،‭ ‬لكننى‭ ‬قصدتُ‭ ‬الإشارة‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬ملامح‭ ‬وعناوين‭ ‬عريضة‭ ‬تحفل‭ ‬بدلالات‭ ‬لعالم‭ ‬‮«‬خمارة‭ ‬القط‭ ‬الأسود‮»‬،‭ ‬الذى‭ ‬هو‭ ‬فى‭ ‬حقية‭ ‬الأمر‭ ‬عالمنا‭ ‬نحن،‭ ‬ليس‭ ‬فى‭ ‬زمن‭ ‬القط‭ ‬الأسود‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬فى‭ ‬سائر‭ ‬الدنيا‭ ‬وكل‭ ‬الأزمان‭.‬

على‭ ‬أى‭ ‬حال‭ .. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬لقراءته‭ ‬حتى‭ ‬تمتلئ‭ ‬وتفيض‭ ..‬كتّر‭ ‬خيرك‭ ‬ياعم‭ ‬نجيب‭..‬