د.الضوى محمد الضوى يكتب : طريقُ الكِباش والدِّيَكَة!

د.الضوى محمد الضوى يكتب : طريقُ الكِباش والدِّيَكَة!
د.الضوى محمد الضوى يكتب : طريقُ الكِباش والدِّيَكَة!

 يوما بعد يوم، على مدار عشرين عاما، كانت الحكومة تواصل التنقيب، تواصل إجلاء المناطق السكنية، والمحلات، والورش، حتى وصلت مناطق التنقيب والعثور على كباش جديدة، بعضها ببعض، فغدت طريقا طويلا، ممتدا من بوابة معبد الكرنك حتى المدخل الشمالى لمعبد الأقصر

كان أمرًا مدهشًا ذلك الذى رأيتُه قبل عشرين عاما، أمام سنترال الأقصر، حيث كان أبى يرحمه الله تعالى يعمل، إنها حفرة كبيرة مستطيلة، تمتد بطول ثلاثين أو أربعين مترا، وبعمق خمسة أو ستة أمتار، فيها جَملان من «الجِمَال الباركة»، هكذا كنا نسمى نحن أهل قرية الكرنك، الكباشَ التى عند البوابة الجنوبية لمعبد الكرنك، ما الذى أتى بجِمَالنا البَارِكة فى الكرنك، إلى هنا حيث منتصف مدينة الأقصر! سألتُ أبى عن الأمر، قال لى إنه اكتشاف جديد من اكتشافات الآثار.


 وقتها لم تكن كلمة «اكتشاف أثري» غريبة على مسامعنا نحن عامة أهل الأقصر، فالآثار حولنا فى كل مكان، بسيطة ومألوفة، مثل أهل المكان، كأنها لطيلة ما اعتدناها، كالطير، والحقول، والجبل، والنهر، كأهلنا، أو هى من أهلنا على وجه الحقيقة.


 كان من المعتاد وقتها أن نزور نحن الأطفال معابد الكرنك والأقصر ومتحف الأقصر، ومعابد البر الغربي، فى رحلات فردية أو مدرسية منظمة، وكنتُ كلما أدرتُ عينيَّ فى وجوه التماثيل الفرعونية، لم أشعر بالفارق بين ملامحهم، كانت المعضلة ذاتها التى أعانيها مع السيّاح الآسيويين، فكل الآسيويين لهم الملامح ذاتها، وكل الفراعنة لهم الملامح ذاتها، كيف كانوا يعرفون بعضهم البعض يا أمي؟ ولا أجد إجابةً.

 

 


 سمعتُ وقتها من عمتى أن ديكًا ظهر لها فجأة فى شقتها التى فى الدور الأرضي، والتى تخلو تماما من الطيور المنزلية، وأخذ يتقافز أمامها وهى مضجعة على الأرض بين النوم واليقظة، حتى وصل إلى نقطة معينة من الغرفة، وفيها اختفى، حُكيت هذه الحكاية فى حضور أحد الناس، فما أن سمع بهذا الديك، حتى صاح: يااه.. ليتكِ قذفتِه بشيء من التراب فى وجهه، لو فعلتِ لكانت المقبرة التى أسفل بيتكم انفتحت من تلقاء نفسها، إن هذا الديك هو حارس المقبرة! تنبَّهت عمتى وقالت: لقد رأيتُ فيما رأيتُ أيضا مرةً رجلا ضخما يقول لى انهضى من هذا المكان، لا تنامى هنا، فأكّد الرجل: إنك إذن كنت نائمة فوق باب المقبرة تماما!


 جدتى لأبى حكت أيضا أن رجلا صالحا أراد زراعة شجرة لها ولأبنائها الأيتام أمام بيتها ليستظلوا بها، فى ستينيات القرن الماضي، وفور أن حفر حفرة صغيرة، وجد أسفل التراب شيئا حجريا (والأرض طينية) فأغلق الحفرة مرة أخرى وحفر على بعدٍ منها وقال لها: يا أخيتى لا تخبرى أحدًا أننى وجدتُ حجرا أسفل تلك الحفرة، حتى لا يأتى (بتوع الآثار) ويأخذوا البيت منكِ!


 فى الأقصر أيضا يمكن أن تجد شخصا بملابس غريبة، توحى بأنه (درويش) كما هى الصورة الشعبية للدراويش، يتجول فى القرى، فيتوقف أمام أحد البيوت، ليقول لأهل البيت: هذا البيت أسفله «لَقِيَّة» (يعنى مقبرة أو كنزًا أثريًّا)! ثم يعرض مساعداتهم لإخراج ذلك الكنز، يدعى أنه سيقرأ (تعازيم) أو (تلاوات سحرية أو قرآنية) بإمكانها المساعدة فى فتح ذلك الكنز وتسهيل العثور عليه حال الحفر، وأنه سيأخذ مبدئيا قدرا من المال مقابل هذا، وتبدأ من هنا عملية الاحتيال التى تتشعب تفاصيلها، والتى قد لا تكون احتيالا أيضا، بل حقيقة!

 

 


 ما دار فى رأسى وأنا طفل -محمل بأخبار وحكايات الكنوز القابعة أسفل البيوت- أنظر بدهشة إلى الكبشين اللذين عُثِرَ عليهما فى وسط المدينة، أمام سنترال الأقصر القديم- هو هل تقافزت الديكة هنا، وقتًا، ورآها الناس تظهر وتختفي، حتى نقّبت عنها الحكومة فوجدت هذين التمثالين؟! ثم لمن هذا الوجه الذى فى رأسى التمثالين؟ من هذا الرجل الذى يبدو بملامح طيبة، والذى يتردد فى وجوه كل تماثيل الفراعنة المتشابهة، فلا تعرف أحدهم من الآخر؟ وماذا لو أننى أنا من وجد هذين التمثالين فى بيتنا! هل كنت سأبيعهما مثل من يجدون الآثار فيبيعونها؟! ولا بملايين الدنيا! يكفى أننى أعرف أن هذه التماثيل قد كانت لآخرين صنعوها قبل آلاف السنين! إننى بين يديّ الآن تمثالان صنعهما آخرون، متقنين نحت الأنف، والظهر والذيل والمخالب والرقبة! كيف يمكن أن أترك امرءًا يأخذهما منى مقابل المال! إنهما أعظم من أى مال، يا لجمالهما!


 أُولعتُ تلك الفترة من حياتي، بصناعة التماثيل التى تشبه وجوه الفراعنة الطيبة -دون توجيهٍ من أحد- كنت آخذ حفنةً من الأسمنت (أو الجبس) من شكارة الأسمنت الموضوعة فى بير سلم بيتنا، وأضعها فى طبق، مع قليل من الماء، وأنتظر نصف ساعة أو أقل، حتى إذا تيبس الأسمنت وصار قطعة متماسكة، أخرجته من الطبق، ورحت أنحته بمفك، وسكين قديم، ومسمار أو ما شابه من الآلات الحادة، أرسم العينين والأنف والفم، بسن المسمار، ثم أبدأ فى النحت حيث رسمت، حتى يبرز الوجه الجميل، الطيب، كان اسم الجهة التى يعمل فيها أبى وقتها (هيئة المواصلات السلكية واللاسلكية) أو (هيئة الاتصالات) قبل أن تغدو الشركة المصرية للاتصالات

 

 

وكان فى ذلك الوقت -قبل ظهور كروت الميناتل- لهيئة الاتصالات هذه ماكينات فى الشوارع، لإجراء المكالمات، وكانت تلك الهيئة تطبع كروتًا ممغنطة، أرق قليلا فى سُمكها من كروت الفيزا كارت، هذه الكروت من فئات مختلفة بحسب سعر الكارت، كان يستعملها المصريون والأجانب فى إجراء الاتصالات المحلية والدولية، وكانت على تلك الكروت صور للفراعنة -من قبيل الدعاية- مثل حتشبسوت، وقناع توت عنخ آمون، وحتى كليوباترا كان لها كارت يحمل صورتها، كنت أتأمل تلك الوجوه والنقوش والاكسسوارات، وأحاول تقلديها فى تماثيلى الصغيرة.


 يوما بعد يوم، على مدار عشرين عاما، كانت الحكومة تواصل التنقيب، تواصل إجلاء المناطق السكنية، والمحلات، والورش، حتى وصلت مناطق التنقيب والعثور على كباش جديدة، بعضها ببعض، فغدت طريقا طويلا، ممتدا من بوابة معبد الكرنك حتى المدخل الشمالى لمعبد الأقصر، يعلو الطريق كُبريان لعبور المشاة والسيارات – وددنا نحن أهل الأقصر لو صار ثمة كوبرى ثالث أمام فندق «إيمليو»، لأن حركة السير فى المدينة صعبة جدا فى غيابه، وطويلا ما نادينا به وما من مجيب- أنظر الآن إلى طريق الكباش الطويل، وأتذكر البيوت والمناطق التى كانت تعلوه وأُزيلت ليُكشف عنه، وأترحَّم على عمتى أنيسة ديك المقبرة، وأبتسم وأقول: كم ديكًا تقافز ها هنا يا عمتي، حتى يخرج لنا هذا الكنز العظيم!

 

أقراايضا | هيئة المحطات النووية: قناع الملك توت عنخ آمون بالأمم المتحدة نسخة طبق الأصل