حقيقة لامراء فيها أنه لاصوت يعلو فوق صوت الموسيقا التي تتبع الأصول والأعراف الشعبية المتوارثة عبر الأحقاب الطويلة من الزمن، وقد ترك الأجداد العديد من الصور والتماثيل على جدران المعابد بقيثاراتهم وأراغيلهم ومزاميرهم؛ ليؤكدوا على الحقيقة الراسخة بأن الموسيقا هي الشفاء والدواء الناجع لكل أمراض الجسد والروح، وعصب التغني والغناء حيث تضفي على الحياة ما يلزم من البهجة والسرور فتعيننا على المضي قدما في حياتنا لما نستمده من طاقة إيجابية تخرج من الصدور زفرات الارتياح وتشحن الروح بالأشجان والمشاعر حتى في غياب الكلمة فالموسيقا المحضة وحدها تستطيع .
لذلك ستظل الموسيقا قادرة على التعبير عمَّا يختلج في قلوبنا من عواطف، ومايعتري عقولنا من خيالات، وماتستشعره نفوسنا من انفعالات، ويتم كل هذا بسلاسة تختص بها أداء وقدرة ومهارة دون منازع ولا منافس تضاهيها فيه مهارة أي لغة إلاّها ! فهي بحق أنقى لغة تفيض الروح الإنسانية هيامًا بها، وألصق الفنون بأعماق الذات الإنسانية.
والمتابع لاهتمام الإنسان الأول في بحثه عن وسيلة مُثلى للتخاطب والتفاهم مع بني جنسه؛ أو مع شتى الكائنات الأخرى في أرجاء الكون من حوله يجد ان الباحثين وعلماء الاجتماع قد تطرقوا إلى نظرية محاكاة الأصوات الطبيعية لكون اللغة البشرية نشأت من الصرخات غير المبينة للحيوانات ؛ ويقول أحد الباحثين : “ إن البشر منحدرون إلى فئة الطيور مثبتًـا بذلك أن الطيور تسعى على ساقين كالبشر، ولا نغفل عن الإيحاءات والأصوات التي تصدرها الطيور، فأصبح يقلدها الإنسان عندما وجد على الأرض كالبكاء والصراخ لرغبة الأشياء إلى أن خرجت لغة تفرد بها البشر بعيدًا عن الطيور “ .
واغلب الظن أنه ــ بالفطرة ــ تحول الصراخ والعواء والبكاء إلى دقاتٍ ذات إيقاع معين على الصخور أو النقر على قطع الخشب؛ فواحدة للتحذير من اقتراب عدو ؛ وأخرى للنداء على الطعام ؛ وثالثة للدعوة للحب وتلبية نداء الطبيعة؛ حتى تحولت تلك الدقات والنداءات إلى مايشبه دقات ونغمات الموسيقا المعروفة في عصرنا؛ وتشير بعض المعتقدات الصينية القديمة إلى أن الموسيقا نشأت قبل وجود الإنسان على الأرض وهي أولى مخلوقات الآلهة وإبداعاتها، فيما يرى آخرون أن أصلها يعود إلى نشأة الحياة البشرية على الأرض عندما حاول الإنسان البدائي أن يستخدم أقدم آلة موسيقية عرفها العالم وهي “ حنجرة الإنسان “ .
ثم تطورت المجتمعات الإنسانية تطورًا طبيعيًا ومنطقيًا عبر الزمن؛ ليتم تضفير الموسيقا ببعض الكلمات وتلحينها بألحانٍ تعبر عن الحالة المراد التعبير عنها في أغانٍ شعبية بمصاحبة الدفوف والكفوف والنغمات الصادرة ـ على استحياء ـ من الآلات الموسيقية المستحدثة ؛ وتنطوي كلمات مناسبات الأفراح والأحزان والانتصارات والانكسارات ؛ لتبقى ــ فقط ــ إيقاعات الموسيقا في الأذهان ولا تندثر؛ وربما يتم تركيب كلمات أخرى جديدة عليها؛ لتعطيها استمرارية البقاء والخلود ؛ ربما لتجيب على أسئلة أهل الفن في عصرنا الحالي : ما عناصر نجاح الأغنية ؟ وأين يكمُن السر في هذا الثالوث الذي يتشكل منه جسد الأغنية ؛ وهل هو في “ الكلمات “ أم “ اللحن “ الذي يقوم بمحاولة التعبير عن مكنون ومضمون تلك الكلمات أم أن “ الموسيقا “ هي التي تحمل على عاتقها كل أسرار النجاح ؟!
ومما لاشك فيه أن “ الموسيقا “ تمثل العمود الفِقَري لجسد وقوام الأغنية بكل أنواعها ومشاربها وفروعها التي تتراوح بين آفاق العاطفي والوطني والديني في كل العصور؛ ويُعتقد بأن المصريين هم أول شعب ابتكر الأغنية منذ عهد الفراعنة الأولين ، ولكننا في الوقت نفسه لاننكر مدى تأثير الكلمة المنتقاة على التعبير بالموسيقا عن مضمون “الكلمة” وما تشير إليه من نبرة حزنٍ أو فرح أو التعبير عن البهجة والانتصار؛ فتأتي النغمات الموسيقية لتقوم بالترجمة والتجسيد للمعاني والأهداف التي يهدف إليها الشاعر الذي صاغ أغنيته بلغة أهل وطنه وبلاده؛ ويجد “الموسيقار” أن موسيقاه مصبوغة ــ تلقائيًا ــ بلون تراث شعبه وقبيلته ووطنه ؛ وللوهلة الأولى نقول : تلك موسيقا أمازيغية أو تركية أو مصرية أو آتية من أعماق قارة آسيا أوشبه القارة الهندية .
ولعلنا نعرف أنه قد خرج من عباءة “ الموسيقار” مايُعرف بـ “ التوزيع الموسيقي “ والقائم على تنفيذه من يُسمَّى في عصرنا الحالي بلقب “الموزِّع الموسيقي”؛ وهو التوزيع الذي يُعد ــ بحسب رأي المتخصصين ــ “ ... إحدى المحطات المهمة في تنفيذ الأغنية، حيث يرسم الموزع “خريطة طريق” للأغنية، تبدأ حدودها مع الكلمات، وتنتهي ألحانًا كاملة في آذان المستمعين، سواء كانت ألحانًا راقصة أو حزينة، أو طربًا أصيلاً، ومن أجل ذلك يرسم الموزع الموسيقي الخريطة التي يسير عليها المطرب والملحن وتحديد الآلات المصاحبة، ومعها يكتسب التوزيع الموسيقي أهميته في إعداد الأغنية ... “ .
وتأتي المرحلة التالية من مهام الموزع الموسيقي ــ بتصرف ــ بتوليف وتطبيع اللحن الأساسي ليتم عزفه بواسطة مجموعة آلات موسيقية بعيدة عن الآلات التي استخدمت في التوزيع، حيث يتم تقسيم اللحن في البداية على العود أو الجيتار وعمل توليفة بعد إجراء التعديلات الخاصة على النوتة لنقلها إلى أجهزة أخرى مثل البيانو أو الكمان أو القانون مع كتابة كل ذلك فيما يشبه تحويل القصة إلى سيناريو وحوار في لغة التأليف .
أما المرحلة الأخيرة من مهمة الموزع الموسيقي فتنتهي بالتوزيع النهائي للحن وإعداده من خلال نوتة موسيقية مكتوبة ومدوَّن بها المقامات والجُمَل اللحنية، وتتوقف جودتها على مدى تفوق الموزع الموسيقي؛ وخبرته في العمل بهذا المجال وتوصيف اللحن وكتابة هارموني يتضمن التركيبات والتعبيرات لتعريف كل عازف تكنيك وديناميكية العزف ونقل إحساس الموزع أو مؤلف الجملة الموسيقية إلى العازف، ووضع تصوير لحني مناسب لكل آلة على حدة .
إذن .. في كل مراحل “الأغنية “ منذ عصر” زرياب “ و “ ولاَّدة بنت المستكفي” حبيبة الشاعر “ ابن زيدون “وهي التي كانت تنشد الشعر وتلعب ببراعة منقطعة النظير على الآلات الموسيقية؛ من يومها أصبحت “ الموسيقا “ هي العصب المحرِّك لكل العازفين على آلاتهم بشتى صنوفها وأنواعها ومشاربها واتجاهاتها؛ لتترك الأثر الفعال على جدران الروح والقلب والوجدان لكل من يستمع إليها في ساعات الصفاء الروحي؛ ومحاولة الهروب من ضجيج الحياة وآلاتها الميكانيكية الصاخبة .
ولعل مايؤكد ويدعم رأيي في الانحياز إلى “الموسيقا” كعامل أساس ومؤثر في عصب الأغنية الشعبية الوطنية والدينية والعاطفية؛ هو أن الموسيقا والغناء هما من أقدم الفنون عهدًا في تاريخ الإنسان، وقد قيل إن الإنسان قام بـ “الغناء “ قبل أن يتكلم ، فكان يقلّد العاصفة في صخبها والجدول في انسيابه وهدوئه ؛ كما كان يعبّر عن عواطف القلب بالألحان الغزليَّة وعن وَرَعِه بالتراتيل الدينية وعن قوّته بالأناشيد الحماسية ؛ ولعلنا نستند |لى ماذكره علماء الاجتماع ومؤرخي حقبة الفنون إن هذه اللفظة مشتقة من أصل يوناني : ”موزيس” و ترجع هذه اللفظة بالأصل إلى ( ميز ) وهو إله من آلهة الفنون عند الإغريق .. ولعل السبق عن الإغريق ماجاء في سفر التكوين على لسان الأب “ جورج بيروتي “ في مقالاته عن الطقس القبطي ( صفحة كنيسة الاسكندرية للاقباط الكاثوليك بمصر ) يقول : “ ... إن “يوبال “ وهو من سلالة قايين ابن آدم الذي عاش قبل الطوفان أي نحو أكثر من أربعة آلاف سنة ق.م. أنه أول من عزف على العود والمزمار . وكانت الموسيقى عند العبرانيين مزيجًا من الغناء والرقص والمرافقة الآلية، وسُمي الشعر الغنائي عندهم بالمزامير و هي مجموعة أناشيد وقصائد وتسابيح كتبت بوحي من الله . وكان للشعب العبراني ملك يُدعى داود وكان ذا صوت جميل وعازفاً على العود و القيثارة ... “
إذن .. لاصوت يعلو فوق صوت الموسيقا...كانت..وأصبحت..وستظل تحتل هكذا مكانة عبر كل الأزمنة والأحقاب.