إعادة تشييد ماضٍ منفلت!

منصورة عز الدين تكتب: إبراهيم ناجي.. زيارة حميمة تأخرت كثيرًا

منصورة عز الدين تكتب :إبراهيم ناجى.. زيارة حميمة تأخرت كثيرًا
منصورة عز الدين تكتب :إبراهيم ناجى.. زيارة حميمة تأخرت كثيرًا

منصورة عز الدين : تكتب 

في الفصل الختامي لكتابها «إبراهيم ناجى.. زيارة حميمة تأخرت كثيرًا»، الصادر مؤخرًا عن دار الشروق، تتفحص د. سامية محرز محتويات ملف أعدته خالتها ضوحية ناجى عن جنازة أبيها وما تلاها من تعازٍ وتأبينات ومقالات، ومن قصاصات قد لا تلفت انتباه الآخرين تعيد تشييد بعض ملامح الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية وقتذاك. فقد وجدت ضمن الملف قصاصتين صغيرتين تفيد إحداهما بأن الرئيس محمد نجيب أوفد صلاح الشاهد؛ تشريفاتى مجلس الوزراء والذى خدم قبل الثورة فى البلاط الملكي، لتشييع جنازة المرحوم الدكتور إبراهيم ناجى، وتشير الأخرى إلى أن مصطفى النحاس أناب مصطفى أبو علم للاشتراك فى الجنازة نفسها. وعبر هاتين القصاصتين تستعيد محرز سريعًا ما تعرفه عن صلاح الشاهد، وكيف لعب دورًا مهمًا في الفترة الانتقالية بعد ثورة يوليو، كما تنتبه إلى أن النحاس باشا كان لا يزال حاضرًا في الفضاء العام رغم أن الثورة كان قد مر عليها ثمانية أشهر. وتخلص إلى أن «قصاصتان صغيرتان لا يتجاوز الخبر فيهما السطر الواحد، لكنهما تحكيان فى طياتهما جزءًا مهمًا من تاريخ الوطن فى لحظة تاريخية مليئة بالأحداث المتناقضة تتجمع بشكل فى غاية الإيجاز مع خبر وفاة جدى».


كما تشير إلى مقال صديقها المؤرخ حسين عمر عن قراءة النعى في الجرائد المصرية وعلاقته بالتاريخ الاجتماعى، وكيف يستطيع المؤرخون الاستفادة منه كمرجع لقراءة المخيلة الاجتماعية للأفراد في المجتمع المصرى الحديث.


والحقيقة أن هذا الجزء مفتاح أساسى لفهم كتابها عن جدها الشاعر الكبير، حيث تنطلق من تفاصيل قد تبدو هامشية لتعيد تشييد ما هو أبعد بكثير من تلك التفاصيل. قد يكون ما تشيِّده أحيانًا سيرة مغايرة لحياة جدها المتداولة أو لمحات من تاريخ عائلى أو تأريخًا لطبقة ما فى مرحلة زمنية معينة أو حتى جانبًا من طبيعة الحياة الثقافية والاجتماعية لمصر في النصف الأول من القرن العشرين، انطلاقًا من حكايات شخصية أو خطابات مرسلة من الجد إلى الجدة أو من تدوينات عن قراءاته أو معاناته في السلك الوظيفى وشعوره بالاضطهاد من المؤسسة، لتأتى هي وتضع هذه المعاناة في إطارها الأوسع استنادًا إلى أفكار بيير بورديو.


بخصوص النقطة الأخيرة مثلًا، تكتب سامية محرز تعليقًا على مذكرة رفعها جدها إلى رئيس الوزراء النقراشى باشا راجيًا فيها رفع الظلم الواقع عليه فى عمله كطبيب بوزارة الأوقاف: «أتعجب من أن جدى الضليع في علم الاجتماع وعلم النفس يكتب مثل هذه المذكرة التى أعتبرها أنا الدليل القاطع على إدانته! فهو كما يبدو من مذكرته الدفاعية لا يدرك ماهية «المجال» أو «الحقل» (أىّ مجال وأى حقل) ويعتقد مخطئًا أن هذا «المجال» عادل وقائم على الإعلاء من «القيمة» الفردية –قيمته هو إبراهيم ناجى شخصيًا- ولا يرى في جمعه بين الطب والشعر أنه خارج على ذلك المجال (الطب) متحديًا حدوده وقيمه المبنية فى الأساس على رأسمال السلطة والنفوذ والصراع الدائم بين الفاعلين فيه الذين هم مطالبون بالانصياع والانصهار وليس بالتميز والتفرد والاختلاف....»

 

وتُرجِع هذا إلى أن جدها، الذى درس علم الاجتماع، لم يعاصر عالم الاجتماع الفرنسى بيير بورديو الذى «أثر تأثيرًا جذريًا فى العلوم الإنسانية بشكل عام بأعماله النظرية عبر التخصصات والحقول المعرفية عن أنماط السيطرة الاجتماعية وآليات إعادة إنتاجها».


وعلى مدار الكتاب تتمسك المؤلفة بمسافة ضرورية تساعدها على النظر بموضوعية وتجرد إلى جدها، لكن رغم هذه المسافة، الكتاب بالفعل «زيارة حميمة» إلى الجد، على الأقل من ناحية خوضه في تفاصيل عالمه الحميم ومن رغبة الحفيدة في التصالح معه وفهم نقاط ضعفه قبل نقاط قوته، وكذلك من ناحية الانطلاق من منطلق ذاتى معظم الوقت، لكنها درجة الحميمية التي لا تشوِّش على وضوح الرؤية أو تغفل عن النواقص والهنَّات، فأستاذة الأدب المقارن والمدير السابق لمركز دراسات الترجمة بالجامعة الأمريكية، حافظت على رؤيتها النقدية ولم تخلع ثوب الأكاديمية تمامًا، وإن كانت تأخذ من هذا الجانب أفضل ما فيه من عين نقدية قادرة على التحليل والتفكيك وتضفير التفاصيل الصغيرة معًا لكشف الكامن وراءها، وتضفى عليه بعدًا سرديًا ذاتيًا وحيويًا عبر حكايات صغيرة متناثرة هنا وهناك تقلل من جفاف المادة المقدمة فى بعض الفصول، فحين تتناول مسودات قصيدة الأطلال ومراحل كتابتها وكيف نحت أحمد رامى أغنية الأطلال لأم كلثوم من قصيدتين لناجى بعد رحيل الأخير بثلاثة عشر عامًا، نراها تنجح في التخفيف من الجفاف المفترض لهذه المادة، التى قد لا تهم إلّا المتخصصين، ببدء الفصل بسرد طريف لذكرياتها عن حفل أم كلثوم، الذي غنّت فيه «الأطلال» لأول مرة (٧ أبريل ١٩٦٦)، كما تسرد بعض الحكايات الخاصة بملابسات غناء أم كلثوم للأغنية والمتعلقة بتأثيرها وما اكتسبته لاحقًا من «حياة سياسية خلافية».


وفي الفصل الخاص بترجمة ناجى لسونيتات شكسبير تلجأ إلى حيلة ذكية لإضفاء المزيد من الحيوية على فصل يتناول قضية مهمة لكنها متخصصة نسبيًا مقارنة بمعظم الفصول الأخرى، وتتمثل هذه الحيلة فى عرض لمحات من النقاش بينها وبين ابنها نديم جاكمون، وهو ما شحن الفصل بطاقة ذاتية حميمة بدلًا من كتابته بطريقة أكاديمية جامدة، ولو تذكرنا أن دراسات الترجمة من بين تخصصات المؤلفة، ندرك أن الكتابة على هذا النحو تقنية مقصودة للتشويق ولوصل هذا الفصل بالخيط الجامع بين كافة فصول الكتاب، وهو خيط الحميمية والانطلاق نحو العام والأكاديمى والتفكيكى من باب الذاتى.
غير أن النقاش مع الابن لا يمكن حصره في توصيف «الذاتى» فقط، لأنه وإن تركز على الجد، فإنه يطرح قضايا أبعد عبر الحوار ووضع وجهات نظر متباينة إحداها بجوار الأخرى، بما يثرى العمل ورؤية القارئ بدلًا من النظرة الأحادية. حيث نرى علاقة مثقفى جيل ناجى بالثقافة الغربية فى مقابل علاقة جيل ابن الحفيدة المنتمى للغرب والشرق معًا بتلك الثقافة. 


ومن الأجزاء الدالة في هذا الصدد، اعتراض الحفيد، نديم جاكمون على تأليه ناجى لشكسبير وكلامه المبالغ فيه عن عبقريته وتفرده: «كيف لجده الموسوعى أن يؤله شكسبير هكذا؟ أين حسه النقدى؟ ألم يكن يعى أن شكسبير الذى نعرفه أو صُدِّر إلينا في كل المدارس الإنجليزية وفصول الأدب الإنجليزي عبارة عن كيان مركب شيدته الإمبراطورية البريطانية ليكون واجهة أسطورية لامعة لها ولمساعيها في نشر ثقافة إمبريالية تهيمن على مستعمراتها حتى بعد استقلالها؟ ألم يكن يعلم أن هناك شكوكًا شتى بل قرائن وأدلة على أنه لم يكتب بعض المسرحيات التى نُسِبت إليه؟»
وتحاول هى أن تشرح لإبنها أن رؤيته التفنيدية للثقافة الإمبريالية لم تكن جزءًا من الوعى الثقافى لجيل الجد، «بل بالعكس كان ذلك الجيل يغترف من الثقافة الغربية على اعتبار أنها قبلة العلوم الحديثة (...) أقول له إن رؤيته النقدية لاحقة على رؤية جيل جده الأكبر الذى كان يعتبر نفسه ندًا وليس تابعًا لنظيره الغربى، يحاوره ويتفاعل معه من موقع قوة لا ضعف، أو هكذا كان يتصور ذلك الجيل الذي تربى على أيدى معلمين أجانب فى مدارس وجامعات قومية وقرأ أمهات الكتب في الثقافة الغربية بلغتها الأصلية وترجم منها الكثير. أقول لنديم إن علينا دائمًا قبل الحكم على الأشياء والمواقف والأفراد أن نضع الأمور في سياقها التاريخى لكى نفهمها فهمًا صحيحًا».


وهذا بالضبط ما تقوم به سامية محرز على مدار الكتاب الذى من الصعب حصره في تصنيف بعينه أو خانة محددة، فثمة خروج على التصنيف من فصل لآخر، وأحيانًا يستعصى الفصل الواحد على الحصر فى تصنيف نهائى، كما هو الحال فى فصل «صديقى شكسبير» مثلًا.
>>>


من فصل لآخر، تفند محرز الكثير من الأساطير الشائعة عن إبراهيم ناجى، ومنها أسطورة حبه لزوجته، التى أشهرتها بناته فى وجه كل النساء اللاتى ادعين أنهن ملهماته بعد النجاح الأسطورى لأغنية الأطلال، وتفند مزاعم تبتله في عشق ملهمته الأولى الحقيقية؛ علية الطويّر، إذ رغم استمراره في حبها حبًا أفلاطونيًا حتى وفاته، نكتشف أنه كان طرفًا فى غراميات عديدة ومتزامنة، بحث فيها عن إخلاص الطرف الآخر، دون إلزام نفسه بالمثل أحيانًا. تكتب سامية محرز بعتاب لا يخلو من خفة ظل: «إيه يا جدي ده؟ ما أهمية تلك القصص الخائبة؟ ما الذي يأتيك من وراء تدوينها؟ ما هذه الحاجة الملحة لإثبات الذات الذكورية، أم أنها محاولة مستميتة لمقاومة انكسار تلك الذكورة مع تقدم السن وشبح المرض...؟»

 

ابراهيم ناجى


ومع هذا، ليس ثمة نزوع للإدانة الأخلاقية، بل رغبة فى الفهم وسعى لوضع أبسط التفاصيل وأكثرها هامشية فى سياقها المجتمعى والثقافى والتاريخى الأوسع. وهكذا لا تفكك محرز فقط الكثير من الأساطير المتداولة عن إبراهيم ناجى وعصره، بل تفكك معها، في رأيى، بشكل غير مباشر أفكارًا شبه راسخة عن كيفية مقاربة سير الكتاب الراحلين وتراثهم الأدبى.


والسؤال الذى قد يطرحه البعض هنا عن مدى أخلاقية الخوض في العالم الحميم لكاتب ما بعد رحيله، أرى أن الجواب عليه متناثر بين سطور الكتاب، ومفاده أن الأخلاقية تنبع بالأساس من مدى جدية الكاتب فى تحويل الحميمى والشخصى إلى مدخل لفهم ثقافة كاملة ولتحليل التاريخ الثقافى والاجتماعى لعصر بعينه. والأمر هنا متعلق بتأريخ من نوع ما وتفكيك لحياة وحقبة وأساطير كثيرة لا بغرض إشباع فضول القارئ ولا البحث عن «فضيحة» ما، ولكن بهدف الفهم والتعمق فى ما هو أبعد من شخص المكتوب عنه.


وأعترف أننى قد بدأت قراءة الكتاب وفي ذهنى أن أهم ما قد أجده فيه، التعرف على الملهمة الحقيقية لقصيدة «الأطلال»، لكن مع الانغماس فى القراءة، ورغم تعاطفى مع قصة الحب غير المتحققة تلك وتقديرى لدور علية الطويّر في الارتقاء بالتكوين الثقافي لناجى، وجدتني أنشغل بما هو أبعد. إذ كثيرة هي القضايا والأسئلة التى يطرحها الكتاب، وبالتالى كثيرة هي المداخل التى يمكن تناوله منها. أقرأ عن انعدام الود بين الحفيدة والجد فى البداية بسبب طريقة التدريس العقيمة لقصيدته «العود» فى المناهج الدراسية، فأفكر فى أن مناهج اللغة العربية فى مدارسنا ما زالت تنفِّر من الأدب والأدباء، إن لم يكن الوضع قد ازداد سوءًا عما قبل. وأقرأ عن التكوين الثقافى لناجى وإجادته لأكثر من لغة وقدرته على الاطلاع على أحدث الإصدارات الأجنبية، بعد صدورها بفترة وجيزة، وهو فى مدينة إقليمية، أو عن سرعة وصول خطاباته إلى زوجته فأقارن بين الماضى والحاضر. لستُ بالطبع من أنصار تصوير الماضى باعتباره ماضيًا ذهبيًا، وأفهم أن بعض الامتيازات، البعيدة عن الخدمات العامة، كانت تخص طبقات بعينها، لكن ثمة تفاصيل ومزايا لا يمكن إنكارها حين نجيد قراءة التفاصيل الصغيرة، وحين نتدرب على قراءة التاريخ عبر أبوابه الخلفية ومصادره الأكثر هامشية. 


وعلى مستوى آخر من مستويات، هذا الكتاب، يمكن النظر إليه باعتباره سردية أبطالها أفراد عائلة مصرية ممتدة من النصف الأول للقرن العشرين حتى الآن. فمع أهمية القضايا العديدة المطروحة فى الكتاب، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وجدتنى أتعاطف مع شخصياته وأصادقها أو أتحفظ عليها، تمامًا كما قد يحدث عند قراءة عمل روائى ما. لا يتعلق الأمر هنا بناجى وأفراد عائلته فقط، بل يمتد إلى أحمد رامى الصديق المخلص لناجى، الذى حوّل حلمه بأن تغنى له أم كلثوم إلى حقيقة، وصالح جودت ودوره فى نشر كثير من المعلومات غير الصحيحة عن ناجى وحياته وتنصيبه لنفسه، دون وجه حق، مرجعًا فى كل ما يخص الشاعر الراحل، وأيضًا علية الطويّر وغيرها، غير أن الشخصية المركزية في الكتاب بالنسبة لى، إضافة إلى ناجى والمؤلفة، هى زوجة ناجى السيدة سامية هانم سامى، ابنة عصرها التي وضعتها الحياة فى قلب دراما صاخبة صارت حياتها.

أقرا ايضا | الجامع الأثري يرى النور بعد سنوات من المعاناة