يوميات الأخبار

فن إجهاض الأحلام!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

سمعتُه لأول مرة يشدو بأغنية» قل للمليحة بالخمار الأسود.. ماذا فعلت بناسك متعبّد»، وبدلا من أن يجذبنا الصوت انشغلنا بتحليل أخلاقي وديني لكلمات الأغنية، بعدها حاولتُ إنهاء الجدل وطلبت منه أداء أغنية للعندليب الأسمر!
 

مش قادر أقول إنت الجاني


الخميس:


أشعر بالحنين لصوته فألجأ إلى الإنترنت، تلك الشبكة التى ظهرت كعالم سحرى واصطادتنا تدريجيا، لتنهى حياة الكثير من الاختراعات كليا أو جزئيا، وهكذا انزوى جهاز التسجيل جانبا، وأصبحت شرائط الكاسيت ذكرى لجيلنا وكائنات أسطورية للأجيال القادمة.

أضغط على رابط أغنيته» ابعت لى جواب وطمني» فيتسلل إحساس صباح فخرى لوجداني، يمنح المشاعر دفقات ترد الروح إلى قلب أنهكه الزمن.

عرفتُ شدوه قبل سنوات وصرتُ ألجأ لصوته كلما أرهقتنى الحياة، والغريب أننى لم أتقبّله فى البداية بسهولة. 


فى الجامعة كنا مجموعة أصدقاء. من بيننا اثنان تميزا بحلاوة الصوت، الأول يجمع الكثير من المعجبين بأداء أغنيات عبد الحليم..

وأحيانا أم كلثوم، والثانى لا يقل عنه موهبة لكن جمهوره أقل بكثير، سمعتُه لأول مرة يشدو بأغنية» قل للمليحة بالخمار الأسود..

ماذا فعلت بناسك متعبّد»، وبدلا من أن يجذبنا الصوت انشغلنا بتحليل أخلاقى ودينى لكلمات الأغنية، بعدها حاولتُ إنهاء الجدل وطلبت منه أداء أغنية للعندليب الأسمر، وافق تحت إكراه الهجوم عليه ليكسب أرضية كادت تضيع منه، خرجت الأغنية منه بلا روح لأنه مُغرم بصباح فخري، ربما يكون قد شعر وقتها بإحباط داخلى وهو يجد نفسه فى مقارنة خاسرة مع زميلنا الآخر، غير أنه خاض بالأساس مواجهة مع ذائقة ترعرعت على نمط واحد من الطرب المصري، لا يُستثنى منه إلا فيروز التى صارت عاملا مشتركا أعظم بين الأذواق المتعارضة. 


مرت سنوات وركبتُ السيارة مع الأديب الكبير جمال الغيطاني، على الفور أطفأ السائق المذياع وقام بتشغيل شريط كاسيت يعرف أن الروائى الراحل يعشق سماع محتواه. تتابعتْ أغنيات» يا مال الشام» و» يا طيرة طيرى يا حمامة»، وشعرتُ بطاقة من الشجن تغمرني، اندمجتُ مع سلسال الألحان المُتدفق، وخجلتُ أن أسأل عن اسم المطرب، وبمجرد أن انفردتُ بالسائق أوضح لى أنه صباح فخري. على الفور تذكرتُ صديقى القديم الذى حاول جذبنا قبلها بسنوات لهذا النمط المختلف من الطرب الأصيل، وندمتُ على أعوام أهدرتُها دون سماعه. 


بعد ثلاثين عاما من حواديت الجامعة يواصل شدوه: «أتاريك نسيتنى مع الأيام ورضيت تفوتنى على الآلام..

ابعت لى جواب وطمني». تخرج الآه منه لتعصف بذكريات عمرها يناهز نصف سنوات حياتى تقريبا، تُؤرّخ لزمن تغيّرت كل معالمه، فقدتُ خلاله حماسى لعبد الحليم، واعتزل صديقى أداء أغنياته لدواع دينية، وخرج صديقى الآخر من فلك معارفى وغاب فى دهاليز الدنيا، وأخيرا رحل صباح فخري، ولم يتبق سوى إدمانى سماع أغنياته كلما ضاقت بى الدنيا، وسط انتظار لمجهول يتمنّع عن الحضور. إنها سمة جيل ينتظر السعادة كحُلم مؤجل وسط دوامات العالم، يتهم زمانه غالبا ويلقى باللوم على نفسه أحيانا، ووسط هذه المتاهة يختبئ المتهم الحقيقي، تأتينى كلمات فخرى المعبرة وكأنها تترجم أفكاري: «مش قادر أقول انت الجاني.. هصبر على طول على أحزاني»!


مواعيد مؤجلة


الجمعة:


قراران يحتاجان منى عادة إلى الكثير من التفكير، لأن النتيجة تكون غالبا هدرا لوقت يُعتبر عُملة صعبة رغم أننا نُهدره غالبا بسهولة. أتردّد كثيرا قبل الذهاب إلى الطبيب أو زيارة الحلّاق، فكلتا الزيارتين تستغرقان زمنا يطول لحد الملل، حتى لو حدث ذلك وفقا لموعد مُسبق، لهذا أقوم عادة بالتأجيل قدر المستطاع، وهكذا يتمدد الوقت المحدد لزيارة طبيبى الدورية إلى مرة كل عامين، بدلا من القيام بها كل ثلاثة شهور، وهكذا تجد «حزمة» الأمراض المُزمنة التى أعانى منها فرصة لاحتلال أنحاء جسدى المُنهك، دون أن تجد من يمنع زحفها. الأمراض باطنة لا تظهر للآخرين لهذا يُمكن تجاهلها، لكن الأمر يختلف مع «بقايا شعْر» يخرج عن مساراته فيصبح أشعث أغبر، رغم أنه يحتل مساحة صغيرة من رأس غزاه الصلع منذ أعوام! 


عموما يظل الذهاب إلى صالون الحلاقة أقل وطأة من عيادة الطبيب، فرغم أن الأخير يمنح مرضاه مواعيد مُسبقة، لكنها غالبا ما تُواجه بفروق توقيت قد تصل إلى ثلاث ساعات، يذهب معظمها فى انتظار ممل لطبيب لا يلتزم عادة بموعد حضوره، وكأن منظر العيادة المزدحمة بالمرضى الجالسين فى الانتظار يمنح صاحبها نشوة لن يُكتب لنا أن نعيشها أبدا! 


دكتوراه مع وقف التنفيذ


اتخذتُ قرارى بقص شعري، واتجهت إلى صالون لا يبعُد سوى عدة أمتار عن بيتي، اعتدتُ قضاء وقت الانتظار فى محادثات معتادة مع صاحبه تامر سالم و»زبائن» آخرين لا أعرفهم. يعرف تامر كيف يتنقّل بأحاديثه بين الجد والهزل حسب تقييمه لمحدثه، ويملك منطقا قد تتفق أو تختلف معه، غير أن حواراته شيقة فى مجملها. 


عبر سنوات تابعتُ رحلته الممتدة، يؤدى حرفته باستمتاع فنان يعشق ما يفعله، ويملك أفكارا لتطويرها تتوقف عادة عند حدود الكلام، فالابتكارات تتفتت عادة على صخرة الواقع، لكنه لا يفقد الأمل، ويظل يُفكّر فى الوقت نفسه بمستقبل أبنائه، ورغم أنه لا يشعر بالنقمة على حرفته، إلا أنه يرى أنها قد تُمثل عائقا أمام أحد أبنائه عندما يرغب فى الزواج مُستقبلا. لهذا التحق بالتعليم المفتوح فى جامعة عين شمس ودرس القانون، وأعدّ بعدها دبلومتين تعادلان الماجستير بجامعة المنوفية.


اليوم يبدو تامر مكتئبا على غير العادة. كنتُ اعلم أنه بدأ منذ فترة الإعداد للدكتوراه واختار موضوعا شيقا يفتح له مجال استعراض تجارب عالمية، بالإضافة إلى استحضار تجارب من ماضينا العربي، عنوانها المبدئي:» دور القوانين والتشريعات الدولية فى مواجهة الجوائح والأوبئة.. كورونا نموذجا»، على مدار جلسات سابقة ناقشتُه فى موضوعات يقرأها وتتماس مع اهتمامى بالتاريخ، وفوجئت بأنه غرق فى بحورها بدرجة لا يبلغها إلا المتخصصون. وأخيرا حاول التسجيل للدكتوراه، لكنه واجه عقبة لم تكن فى حسبانه.


توقعتُ أن تكون العقبة هى عدم الاعتراف بالدبلومتين كمعادل للماجستير، غير أن الأمر لم يكن كذلك. طلبت منه الجامعة أن يُقدم شهادة الثانوية العامة، بينما هو حاصل أساسا على دبلوم فنى التحق بعده بمعهد فنى صناعي. زملاؤه فى المسيرة نفسها استكملوا أوراقهم، الظروف كلها متشابهة إلا ما يتعلق بشهادة الثانوية العامة، وهو الشرط الذى لم يستطع تحقيقه رغم حصوله على مؤهل عال ودبلومتين! يؤكد بأسى أنه لا يُفكر فى ترك حرفة الحلاقة، وأن سعيه للدكتوراه نابع فقط من عشقه للدراسة وحماسه للموضوع الذى اختاره.


 يتساءل بحزن كيف تُشجع الدولة التعليم الفني، وتُحفّز الشباب على الالتحاق به، ثم يضع البعض عثرات تجعل هذا المجال يبدو وكأنه منبوذ؟!. تساؤل منطقى يحتاج إلى تدخل من المجلس الأعلى للجامعات، كى لا نصادر حق الأمل من الحالمين بمستقبل أفضل. أعتقد أننا نحتاج إلى مبادرة لإنقاذ الأحلام من حصار الكوابيس! 


المُستقبل يبدأ من هنا


السبت:
أنطلق بسيارتى قاطعا الشوارع الخالية نسبيا فى هذا اليوم. إحساس بالانطلاق ينتابنى بمجرد الخروج من القاهرة المُتخمة بالبشر والسيارات واختناقات تفوق الاحتمال. وصلتُ إلى مدينة العبور، وتسلل هدوء نفسى إلى أعماقى بفعل الشوارع العريضة والمساحات الخضراء، والحماس للقاء مُرتقب مع عدد من المبدعين الشباب، الذين يبدأون أولى خطواتهم على طريق الكتابة. تمنحنى هذه اللقاءات طاقة إيجابية لا نهائية، مقارنة بندوات أخرى أشارك فيها لكتّاب راسخين. الراسخون اختاروا بالفعل طريقهم الملىء بالعقبات، منهم من حقّق طموحاته ومنهم من يقاوم الإحباط، أما من يقفون على خط البداية فيحتاجون لدعم يجعلهم أكثر جرأة فى مواجهة مناخ لا يعترف بالحروف، ويحتفى بظواهر منزوعة الدسم فى الفن والكتابة. 


معظم الحاضرين لا يزالون طلابا فى السنوات الجامعية الأولى، ثلاث كاتبات واعدات حرصن على الحضور من المنوفية، وأخريات شاركن من العبور ومدن أخرى مجاورة. سبق أن كتبت عنهن مقالا قبل أكثر من عام بعنوان» كاتبات تحت سن اليأس»، لهذا لن أذكر أسماءهن هذه المرة، لكن قناعتى زادت أن عددا منهن سيحفرنها فى عالم الإبداع مستقبلا، خاصة مع الرعاية المستمرة من المدربة نبيلة حسن، التى تبنّت مواهب المبدعين الصغار فى إطار مبادرة» أدباء المستقبل».


 المفاجأة الحقيقية هذه المرة تمثلت فى الطفل السورى كنان السيد التلميذ فى الصف الأول الإعدادي. استقبلنى برسومه فور دخولى المكان، قصص مُصورة بذل جهدا واضحا فى تأليفها وتحويلها إلى لوحات فنية، أخبرنى أنه يكتب أيضا الشعر والقصة القصيرة، وعندما اكتمل الحاضرون فى الصالون الثقافى طلبتُ منه أن يلقى إحدى قصائده، فسحر الجميع بإلقائه الرائع لكلمات صاغها بعناية، بالتأكيد يحتاج لدراسة علم العروض، لكن تعبيراته خرجت مُحمّلة برؤى فلسفية تتجاوز بكثير حدود سنوات عمره الاثنتى عشرة، نصحناه بالتمسك بموهبته، وتمنيتُ له مع بقية الكُتّاب الشباب أن يصبروا فى مواجهة العقبات المُحتملة، وألا يستسلموا أمام أولئك الذين يحترفون إجهاض الأحلام.