علي أبواب الفندق الرئاسي بمدينة سوتشي الروسية علي شاطئ البحر الأسود، وقف الرئيس فلاديمير بوتين يودع ضيفه الرئيس عبدالفتاح السيسي، بعد مباحثات قمة بدأت في الصباح، وانتهت مع حلول يوم جديد. شد بوتين علي يدي السيسي قائلا: »نحن معك.. ندعم كل خطواتك .  كنت أعرف بل كنت متأكداً أنك ستنجح في انتخابات الرئاسة. أعلم أن شعبك لديه أمل فيك، وأنت كما سمعتك وعرفتك علي قدر هذا الأمل»‬. تعانق الرئيسان، وغادر بوتين المكان. كانت الساعة هي الواحدة من صباح الأربعاء. ١٢ ساعة كاملة أمضاها السيسي مع بوتين في مباحثات قمة لم تنقطع، في البر جلوسا ومشيا، وفي الجو علي متن طائرة هليكوبتر، وفي البحر علي ظهر الفرقاطة »‬موسكو». نصف زمن زيارة الـ٢٤ ساعة التي قضاها الرئيس السيسي في سوتشي، استغرقتها القمة المصرية الروسية، لتسجل رقما قياسيا غير مسبوق كأطول مباحثات قمة في التاريخ! الزيارة الخاطفة كان لها ما وراءها، والمباحثات  المطولة  لها بالقطع ما بعدها. • • • الاحتفاء الهائل بالرئيس السيسي، كان مصدر شعور بالسعادة والزهو لدي رجال الأمن والحراسة المصريين، وكان مثار اهتمام نظرائهم الروس، الذين قالوا لهم: »‬لقد صدرت لنا وللأجهزة في الرئاسة الروسية تعليمات مباشرة من الرئيس بوتين، بأن يتم استقبال الرئيس السيسي والترحيب به، بصورة لم يسبق حدوثها لأي رئيس يزور روسيا في أي عهد». وبالفعل لم تنقطع مظاهر الحفاوة بالسيسي منذ دخول طائرته الأجواء الروسية فوق مياه البحر الأسود، وحتي مغادرتها لها في طريق العودة إلي القاهرة ظهر أمس الأول. من نوافذ طائرة الرئاسة المصرية، عرف السيسي ومرافقوه، أنهم بلغوا المجال الجوي الروسي ، حينما شاهدوا سربا من مقاتلات »‬السوخوي» تحلق علي جانبي الطائرة، ومن فوقها وأسفلها، ترحيبا بطائرة الرئاسة ومستقليها، في مشهد لا يذكر الجيل الحالي من الطيارين الروس مثيلا له. وعندما حطت طائرة الرئيس علي أرض مطار »‬سوتشي»، كانت الموسيقات العسكرية وحرس الشرف في انتظار السيسي ، لأول مرة في تقاليد استقبال رؤساء الدول بهذه المدينة، بينما كان علي رأس المستقبلين سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي أحد أهم أركان حكم بوتين. في المطار.. تفقد السيسي ولافروف معرضا لبعض من أحدث مركبات القتال المدرعة ومنظومات الدفاع الجوي الروسية، وكان اختيار هذه النوعيات له مغزي يعرفه الروس والمصريون. ثم اصطحب لافروف الرئيس السيسي، في موكب من السيارات، إلي القرية الأوليمبية بسوتشي التي استضافت دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية. • • • في تمام الواحدة ظهرا.. كان بوتين في استقبال السيسي، عند مدخل القرية الأوليمبية، لم يكن الرئيس الروسي يرتدي »‬رابطة عنق » ، في إشارة لأن الزيارة وبرنامجها خارج »‬البروتوكول». في القرية الأوليمبية.. شرح بوتين لرئيس مصر ، المنشآت التي تم تشييدها بالقرية لرياضات الرماية والتزحلق علي الجليد وهوكي الانزلاق وغيرها. ثم اصطحب الرئيس الروسي، ضيفه الكبير إلي غرفة صالون في إحدي القاعات، في جلسة مباحثات مغلقة اقتصرت عليهما. بعدها.. توجه الرئيسان إلي ممشي في قلب المدينة، وتجولا معاً وسط المارة الذين تجمعوا حولهما يلتقطون الصور، ويشيرون بأيديهم مرحبين بالرئيس السيسي. ثم اصطحب بوتين السيسي إلي مقهي سياحي في الممشي ، لاستكمال الحديث علي أكواب الشاي. عاد بوتين والسيسي بعد ذلك إلي القرية الأوليمبية، واستقلا طائرة هليكوبتر إلي مقر الرئيس الروسي في سوتشي، وهناك ركب الرئيسان سيارة كهربائية قادها بوتين بنفسه. وترك بوتين، السيسي بعض الوقت، ليبدل ملابسه في غرفة جانبية. وهنا تداعت إلي أذهان بعض رجال الرئاسة المصريين ، ممن عاصروا زيارة الرئيس الأسبق محمد مرسي إلي سوتشي ، ذكريات تلك الزيارة الكارثية، حينما ألح مرسي علي أن يلتقي بوتين، وجاء إلي هذه الغرفة بالذات، وانتظر ساعتين فيها، حتي جاءه الرئيس الروسي، وكان أول ما طلبه مرسي أن ترفع جماعة الإخوان من القائمة الروسية للمنظمات الإرهابية، ولم يخف بوتين ضيقه من مرسي، ولم يقتصد معاونو بوتين ووزراؤه في السخرية في تصريحاتهم من هذا الرجل الذي لا يرقي بأي حال إلي مستوي بلد كبير بحجم مصر. • • • في المقر الرئيسي بسوتشي ، عقد بوتين والسيسي جلسة مباحثات موسعة، كانت أقرب ما تكون إلي جلسة مساءلة  أو  استجواب من جانب الرئيس الروسي لوزرائه، كل في اختصاصه، عما تم إنجازه، في مجالات التعاون مع مصر، في الزراعة، والتجارة والاستثمار، والصناعة. وطرح بوتين اقتراحا بإقامة مركز لوجيستي لمصر في روسيا علي البحر الأسود، مثلما رحب بإقامة منطقة صناعية روسية في مشروع محور قناة السويس. امتدت المباحثات علي مأدبة غداء، وتحدث بوتين عن الوفر الهائل في محصول القمح الروسي الذي يفيض عن الاحتياجات الداخلية بمقدار خمسة ملايين طن، وقال إنه يعلم إن مصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم، وإنه مستعد لتقديم كل هذه الكمية إلي مصر، لتأمين كل احتياجاتها. • • • إلي الفرقاطة »‬موسكو»، الراسية في القاعدة العسكرية بسوتشي، توجه الرئيسان، وهناك جري استقبال رسمي لهما، بحضور قائد الأسطول الروسي في البحر الأسود. علي ظهر الفرقاطة، جرت جلسة جديدة من مباحثات القمة، تركزت هذه المرة علي شق التعاون العسكري، وهو بالمناسبة، وإن خفت وتيرته في بعض العهود، إلا أنه لم ينقطع أبداً منذ أول صفقة أسلحة روسية تلقتها مصر قبل قرابة ٦٠ عاما مضت! ومثلما جري مع الوزراء الروس في مباحثات المقر الرئاسي، سأل الرئيس بوتين كل جنرال روسي في اختصاصه عما تم في التعاون العسكري مع مصر في مجالات التسليح والمنح التدريبية للمبعوثين والتدريبات العسكرية المشتركة. ودون الخوض في تفاصيل.. كانت استجابة الرئيس بوتين كاملة لكل مطالب مصر. قائلا: »‬إن مصر بلد صديق وكبير ، ولها وضعها في الشرق الأوسط، وقد عادت الآن إلي مكانها ومكانتها». أكثر من ساعة، استغرقتها جلسة المباحثات علي ظهر الفرقاطة »‬موسكو»، ثم غادر الرئيسان القاعدة العسكرية. ودعا بوتين السيسي لحضور عرض للرقص علي الجليد، ولفت الأداء الراقي انتباه الرئيس السيسي، فأوضح له بوتين أن المشاركين في العرض هم أبطال عالم سابقون في التزحلق والرقص الإيقاعي علي الجليد، وتتم الاستعانة بهم في العروض الفنية، بعد فوزهم بالبطولات الأوليمبية والعالمية. • • • يحين وقت العشاء.. ويكسر بوتين مجددا قواعد البروتوكول، ويقرر بدلا من أن يتناول الطعام مع الرئيس السيسي في أجواء المقر الرئاسي الرسمية، أن يدعوه إلي مطعم الأسماك الشهير بسوتشي الذي يعد واحدا من أفخم ٥ مطاعم في العالم، لتناول عشاء من المأكولات البحرية التي يشتهر بها البحر الأسود. وهناك يكمل الرئيسان مباحثاتهما علي العشاء حتي الواحدة صباحا، في جلسة منفردة، لم يحضرها المترجم. ويميل أحد أعضاء الوفد الروسي، علي مسئول مصري. مشيرا إلي الرئيسين قائلا: »‬هناك أوجه شبه بين الرجلين، حتي في الهيئة والقامة وطريقة المشي».. ثم يضيف: »‬أظن أن هناك كيمياء شخصية وجدت طريقها بين الرئيسين. فبوتين يري في السيسي نفسه حينما تولي رئاسة روسيا بعدما شارفت علي الانهيار في عهد يلتسين. والسيسي يري في بوتين نموذجاً لقائد استطاع ان ينتشل بلاده من مصير محتوم وأن ينهض بها لتعود قوة عظمي من جديد. • • • صباح أول أمس الأربعاء.. جاء لافروف وزير الخارجية الروسي إلي الفندق الرئاسي لاصطحاب الرئيس السيسي ومرافقيه إلي مطار سوتشي، وهناك جرت مجددا مراسم رسمية مصحوبة بحرس الشرف الرئاسي في وداع رئيس مصر. استقل الرئيس السيسي طائرة الرئاسة عائدا إلي القاهرة، حاملا مشاعر امتنان لحفاوة الاستقبال، وقبلها مشاعر ارتياح للنتائج فوق المتوقعة التي أسفرت عنها مباحثات القمة، وحاملا معه أيضا هدية ذات مغزي من الرئيس بوتين. الهدية تلقاها السيسي من بوتين عقب مباحثات الغداء في المقر الرئاسي، وهي عبارة عن صورة فوتوغرافية فريدة ليس لها نسخ أخري، تجمع بين الزعيم جمال عبدالناصر، والزعيم السوفييتي ميخائيل خروشوف في مطلع الستينيات. لعل بوتين كان يريد أن يقول للسيسي إن علاقات القاهرة وموسكو ستعود إلي ما كانت في الستينيات، أيام بناء السد العالي والتصنيع الثقيل والتسليح غير المشروط، ولعله كان يريد أن يقول إن الصداقة الوليدة بيني وبينك، ستكون كتلك التي جمعت ناصر وخروشوف. لعله يريد أن يقول إن روسيا كانت وستعود صديقا حقيقيا لمصر، لا يملك أجندات خفية ولا خرائط تقسيم، يفتح ذراعيه لمصر، ولا يستدير ليطعنها بغدر!. .. أهلا بالأصدقاء الروس .